العنف ضد الأطفال في تركيا... أزمة بنيوية تتجاوز الجريمة الفردية
أشارت الأخصائية في علم النفس هيلين أونوك، إلى وجود محاولات لإضفاء الشرعية على العنف الممارس ضد الأطفال والمراهقين، لا سيما تحت ستار "الحب"، مبينة أن العنف سياسة ممنهجة تسعى إلى تفكيك البنية الجذرية للمجتمع.

آرجين ديليك أونجِل
مركز الأخبار ـ تسجل تركيا ارتفاعاً ملحوظاً في حالات العنف الموجه ضد النساء والأطفال، ويعزى ذلك إلى جملة من الأسباب أبرزها غياب مراكز متخصصة توفر الحماية والدعم اللازم للضحايا، إضافة إلى ضعف آليات المحاسبة القانونية، مما يتيح للجناة الإفلات من العقاب في ظل نظام قضائي يفتقر إلى العدالة والفعالية المطلوبة لضمان حقوق المتضررين.
بحسب بيانات وزارة العدل التركية، تم فتح 110 ألف و139 قضية في عام 2024 بشأن الجرائم المرتكبة ضد الحصانة الجنسية، كما تم فتح 38 ألف و639 قضية جريمة "الاعتداء الجنسي ضد الأطفال"، و24 ألف و104 قضية جريمة "علاقة جنسية مع قاصر".
كما تقوم الدولة بفصل جريمة "العلاقة الجنسية مع قاصر" عن حالات الاستغلال الجنسي، حيث يتم التحقيق فيما إذا كانت الفتيات القاصرات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و18 عاماً قد وافقن أم لا. والخلل الموجود في القوانين يزيد من حوادث العنف في تركيا، وعلى رأسها الجرائم الجنسية ضد الأطفال، ففي شهر تموز/يوليو الماضي وحده، قُتل 3 أطفال، وفي شهر آب/أغسطس قتل 5 آخرين.
أشارت الأخصائية النفسية هيلين أونوك إلى زيادة حالات العنف والجرائم الجنسية ضد الأطفال في تركيا، مبينة أن هذه الحوادث العنيفة لا يمكن تفسيرها على أنها "غضب فردي" أو "مشاكل نفسية"، لافتةً إلى أن "العنف ضد الأطفال يأتي نتيجة لعدم المساواة العميقة المتجذرة في البنية الاجتماعية، والنظام الأبوي، وسياسات الإفلات من العقاب، وإساءة اللغات التي تتبعها بعض الوسائل الإعلامية.
"يحاولون تطبيع العنف"
وأوضحت هيلين أونوك أن الطفل يُعد الحلقة الأضعف في المجتمع، مما يجعله عرضة للعنف، خاصة في العلاقات التي تتسم بالقسوة، وترى أن النظرة الأسرية التقليدية التي تعتبر الطفل ملكاً للوالدين تبرر استخدام العنف كوسيلة للانضباط، كما أن النظام الذكوري يساهم في جعل النساء والأطفال أهدافاً دائمة للعنف، وتعد تخفيف العقوبات على الجناة وتبرير الجرائم كردة فعل، بالإضافة إلى اللغة الإعلامية التي تبرئ المعتدين وتلوم الضحايا، من العوامل التي تعزز هذه الظاهرة.
وأكدت أن المراهقين، بسبب بحثهم عن هويتهم، والانتماء، والحاجة إلى القبول، يكونون أكثر عرضة للتلاعب "يبدأ الجاني بكسب الثقة أولاً، ويقول "سأفعل كل شيء من أجلك"، مما يعزز شعور الانتماء لدى الطفل. بعد ذلك يعزل الطفل عن محيطه الاجتماعي ويبدأ بالتحكم به، يفسر اعتراضات الطفل على أنها "خيانة"، وفي النهاية يبرر العنف تحت قناع "الحب". هذا التلاعب ليس فردياً فقط، بل هو تلاعب اجتماعي، كما ظهر في جريمة قتل هلال أوزدمير، رغم أن الجاني رجل بالغ، فإن المجتمع بدل أن يوجه اللوم إليه، شكك في الضحية."
تأثير اللغة التي تتبعها بعض الوسائل الإعلامية
وأشارت هيلين أونوك إلى أن لغة الإعلام تلعب دوراً مهماً خاصة في حالات قتل الأطفال والعنف ضدهم حيث تفسر وسائل الإعلام أن فعل الجاني هو "جنون" أو "يعاني من مشاكل نفسية" ينقل المسؤولية إلى مرض الفرد وتسليط الضوء على سلوك الضحية وإلقاء اللوم عليها هذه اللغة تسمم الوعي المجتمعي مما يجعل العنف سلوكاً "طبيعياً".
وانتقدت سياسات الدولة تجاه الأطفال، وقالت إن "أحد أسباب العنف هو عدم وجود حماية حقيقية للأطفال في القوانين"، مضيفة "القوانين الخاصة بحماية الأطفال في تركيا موجودة فقط على الورق، حيث أن التنفيذ ضعيف جداً، ومراكز مراقبة الأطفال قليلة جداً وليست متاحة في كل مدينة، كما أن عدد المستشارين النفسيين في المدارس غير كافٍ، والعديد من الأطفال لا يستطيعون مشاركة تجاربهم الصادمة مع أي شخص".
وبينت أن تخفيض العقوبات مثل "التحريض غير المشروع" و"حسن السيرة" في قضايا الجناة يقلل من ردع العنف ضد الأطفال، فضلاً عن أن عدد خبراء الخدمات الاجتماعية وتأثيرهم في الميدان ضعيف، والأطفال لا يتم إخراجهم من بيئات أسرية تعرضهم للخطر، بالإضافة إلى سياسات حماية الطفل متفرقة ولا توجد تنسيق بين التعليم، الصحة، العدالة، والخدمات الاجتماعية.
ولفتت هيلين أونوك إلى أن هذه الصورة توضح أن الدولة لا تقوم بدورها الأساسي في حماية حقوق الطفل، وأن حق الطفل في الأمان والحياة يُنتهك بشكل منهجي في تركيا.
"يجب تعزيز الوعي في المجتمع"
وشددت هيلين أونوك على ضرورة إدراج تعليم حقوق الطفل في المناهج الدراسية، كما يجب نشر برامج التربية الأبوية الخالية من العنف على نطاق واسع، وفيما يخص مراقبة الإعلام يجب فرض عقوبات على البرامج التي تشجع على العنف وتلقي اللوم على الضحية، وفي جانب الدعم المجتمعي يجب إنشاء خطوط مساعدة طارئة وآليات ملجأ آمنة للأطفال، ويجب أن يكون للأطفال حق في اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتهم.
وذكرت أن الأطفال المنحرفون هم غالباً ما يعيشون حياة مليئة بتجارب صادمة مثل العنف الأسري، الفقر، الإقصاء من التعليم، التمييز الاجتماعي، موضحة أن هذه الظروف تؤثر سلباً على نموهم النفسي وتمهد الطريق لارتكاب الجرائم "التقييمات النفسية تلعب دوراً حيوياً في فهم حجم الصدمات التي يعاني منها هؤلاء الأطفال وتخطيط التدخلات المناسبة لهم. التقييمات النفسية القضائية والاجتماعية النفسية تأخذ بعين الاعتبار الحالة النفسية للأطفال، والبيئة الاجتماعية بشكل شامل. هذه التقييمات تكشف العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي تقف وراء سلوكياتهم الإجرامية وتشكل أساساً لعمليات العلاج."
"يجب تبني نهج العدالة"
وفي ختام حديثها، قالت الأخصائية النفسية هيلين أونوك "من بين الحلول المقترحة، تطوير برامج دعم نفسي اجتماعي خاص للأطفال المنحرفين، وتطبيق سياسات وقائية تستهدف عوامل الخطر مثل العنف الأسري والفقر، وزيادة الوعي بحقوق الأطفال في المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، فإن تبني نهج العدالة بدلاً من العقوبات سيكون خطوة مهمة في إعادة دمج الأطفال في المجتمع"، مؤكدة أن العنف ضد الأطفال ليس مجرد مأساة فردية أو عائلية، بل هو صدمة جماعية تضر بالصحة النفسية للمجتمع وتورث العنف للأجيال القادمة "حماية حق الأطفال في الحياة ليست مسؤولية نفسية فحسب، بل هي مسؤولية سياسية أيضاً. كل حالة عنف لا نمنعها تعني توريث العنف للجيل القادم."