حزب العمال الكردستاني ومسار التحول السياسي في الشرق الأوسط

أكدت وجدان نور الدين، أستاذة التاريخ، أن 15 آب/أغسطس يمثل محطة مفصلية في مسيرة النضال الكردي، ففي هذا اليوم، أطلقت الرصاصة الأول ضد العدو، لتتحول شرارة التمرد تلك إلى ثورة شعبية كبرى امتدت في عمق الشرق الأوسط.

هيلين أحمد

السليمانية ـ في مواجهة انقلاب الفاشية الذي كان يسحق إرادة حرية الشعب الكردي بكل وسيلة، كان لا بد من رد قوي، السجن أصبح نقطة انطلاق لحرب ضد الفاشية، لذلك انطلاقة 15 آب/أغسطس كانت رداً على كل ذلك اليأس المفروض، وكانت إحياءً لإرادة الحرية التي سُحقت، وكانت أول خطوة للشعب الكردي نحو الكفاح المسلح، بقوة ووعي استثنائيين.

انطلاقة 15 آب/أغسطس، كانت خطوة تحمل طابعاً تكتيكياً خاصاً، مما جعلها تتحول إلى قوة شعبية، فأول رصاصة أُطلقت في ذلك اليوم عام 1984 في إروه بسيرت وشمزينان، أنهت صمت شعب مظلوم، وقد أطلقها الشهيد معصوم قورقماز "عكيد"، لذلك لم يكن الأعداء يتوقعون تلك الانطلاقة، خاصة من قبل حزب العمال الكردستاني الذي كان يُنظر إليه كخط كردي مستأجر ضد تلك الخطوة، بل كان يُعتبر تهديداً وجودياً.

واليوم، وبعد أكثر من أربعة عقود من الكفاح المسلح، ومع وجود مئات الآلاف من المقاتلين والشهداء في سبيل السلام، أصبح الكفاح المسلح حلاً للسلام في عموم الشرق الأوسط، وفي 27 شباط/فبراير الماضي، أطلق القائد عبد الله أوجلان دعوة "السلام والمجتمع الديمقراطي"، معلناً بداية مرحلة جديدة من النضال والمقاومة، وبناءً على هذه الدعوة، عقد حزب العمال الكردستاني مؤتمره الثاني عشر، من 5 إلى 7 أيار/مايو الماضي، ثم في 11 تموز/يوليو الماضي، وفي مراسم مهيبة داخل كهف جاسنة بمدينة السليمانية، وبحضور مجموعة من مقاتلي الكريلا، أُحرقت أسلحتهم.

 

"15 آب يعيدنا إلى مقاومة رفاق السجون"

وجدان نور الدين، أستاذة التاريخ، والباحثة في شؤون حزب العمال الكردستاني (PKK)، تحدثت عن رمزية الخامس عشر من آب/أغسطس وثورة الكرد في المنطقة "إن تلك الانطلاقة شكّلت نقطة تحول تاريخية ومفصلية للشعب الكردي بأسره، فقد تأسس حزب العمال الكردستاني عام 1978 كمجموعة تُعرف بالآبوجية، لكنه لاحقاً أطلق اسم حزب العمال الكردستاني، وبدأ كتنظيم سياسي، إيدولوجي ثم تطور تدريجياً نحو التصعيد الثوري".

وأضافت "التحولات السياسية التي شهدتها تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، وتأسيس الدولة التركية الحديثة، جاءت بعد وعود قُدمت للكرد، لكنها سرعان ما نُقضت، فبعد توقيع اتفاقية سيفر التي تضمنت بنوداً لصالح الكرد، جاءت اتفاقية لوزان لتحل محلها، مما أدى إلى التراجع عن تلك الوعود، وأشعل موجة من الاحتجاجات والانتفاضات الكردية، التي تنوعت بين قصيرة وطويلة الأمد، مثل انتفاضة كوجكيري، وثورة الشيخ سعيد بيران، وثورة ديرسم، إلى جانب العديد من الثورات الأخرى".

وأكدت على أن "جميع هذه الحركات كانت نتيجة مباشرة لنكث الدولة التركية لالتزاماتها تجاه الشعب الكردي ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، اتجهت نحو مزيد من القمع والتهميش، مما دفع الكرد بقيادة عبد الله أوجلان إلى السعي لتأسيس صوت كردي مستقل ينبثق من عمق المعاناة، وبذلك، بدأ المناضلون والمناضلات بتنظيم أنفسهم، وتعاونوا في البداية مع الأحزاب اليسارية في شمال كردستان، لكن بسبب رفض تلك الأحزاب الاعتراف بالقضية الكردية، انفصلت المجموعة وشكّلت حركة كردية خاصةً بعدد من الأعضاء، وسرعان ما تطورت بشكل ملحوظ".

وتابعت "أدركت الدولة التركية سريعاً خطورة هذه الحركة، فسعت إلى قمعها وتفكيكها، لكن كلما زادت محاولات القمع، زاد الحركة من تصعيد نشاطها ونضالها، خاصة أن الكرد قد عانوا لسنوات طويلة من الاضطهاد والقمع الذي طالهم وطال عائلاتهم على يد الدولة التركية".

 

"انطلاقة 15 آب ولادة المقاومة الكردية من رحم السجون"

وقالت وجدان نور الدين إنه بعد إعلان دستور عام 1982، شهدت تركيا تحولات سياسية واجتماعية عميقة، جاءت نتيجة مباشرة للظلم والقمع الذي مارسته الدولة بحق الكرد، في ذلك الوقت، صرّح كنعان إفرين قائلاً "القضية الكردية انتهت هنا، والكرد وصلوا إلى نهايتهم"، لكن هذا التصريح لم يكن نهاية المطاف، بل كان شرارة لانطلاق مقاومة كردية جديدة، حيث قرر المناضلون والمناضلات خوض كفاح من أجل إنقاذ القضية الكردية، وأسفرت هذه المقاومة عن اعتقال عدد منهم، من بينهم ساكينة جانسيز".

وأضافت "لقد كانت انطلاقة 15 آب ثمرة مباشرة لمقاومة أعضاء الحزب داخل السجون، حيث تعرّض المعتقلون، خاصة في سجن آمد، لأبشع أشكال التعذيب بسبب تعمقهم بفكر وفلسفة القائد عبد الله أوجلان، ومع ذلك، استطاعوا أن يسجلوا تاريخاً نضالياً مشرفاً، بدأت هذه الملحمة على يد الشهيدة ساكينة جانسيز، ثم انتقلت شرارة المقاومة إلى السجون عامة، حيث تم إحياء عيد نوروز بأرواحهم، وتأسيس علاقات نضالية مع الثوار الفلسطينيين، مما مهّد الطريق لحمل السلاح وتنظيم العمل الثوري".

وذكرت وجدان نور الدين أنه "في عام 1984، تم تشكيل ثلاث مجموعات ثورية، مهّدت الطريق للدخول إلى الأراضي التركية وبدء الكفاح المسلح، انطلقت هذه المقاومة بحمل السلاح داخل تركيا، مطالبةً بالسلام من خلال القوة، ونُفذت العديد من العمليات النوعية، أبرزها عملية الشهيد عكيد التي كان لها صدى واسع، وأعادت صوت المقاومة إلى داخل السجون، حيث أثّرت بقوة في صفوف حزب العمال الكردستاني، وأسهمت في تشكيل مجموعات نضالية داخل المعتقلات، لتنفيذ عمليات أخرى لاحقاً".

وتابعت "بعد انهيار الأحزاب والحركات التي كانت الدولة التركية تسعى إلى تفكيكها، تحوّلت هذه المقاومة إلى تعبير حيّ عن الهوية الكردية، وانبعثت من عمق المعاناة والألم الذي عاشه الشعب الكردي، ففي الوقت الذي كانت فيه تركيا تعتقد أن الكرد قد انتهوا، جاءت مقاومة المجموعة الكردية كردٍّ واضح وصريح، حيث أعاد الخامس عشر من آب، خاصة في مناطق شمزينان وهكاري، صوت الكرد بقوة إلى الساحة، وبدأت الأنشطة المناهضة تتصاعد بوتيرة متسارعة".

وأكدت أن "الهدف الأساسي لتلك المقاومة كان مواجهة قوات البيشمركة التي كانت تساند الدولة التركية في قمعها، وتُريق دماء الفلاحين في القرى، وتُعذّب العمال والنساء، وتمارس الانتهاكات بحق النساء في أماكن العمل، حيث كانت تُعامل المرأة فقط كأداة للإنجاب، لذلك، كانت أولى الضربات موجّهة إلى تلك القوات، وتم تشكيل قوة من العمال والفلاحين الكرد، رجالاً ونساءً، الذين أسسوا هذه القوة بأنفسهم، لتكون نواة لمقاومة شعبية شاملة".

 

"كُلّفت النساء لأول مرة بدور سياسي وعسكري من قبل القائد أوجلان"

وشدّدت وجدان نور الدين على أهمية دور المرأة في النضال السياسي والمسلح، مشيرةً إلى أن النساء كان لهن حضور في انطلاقة 15 آب/أغسطس، لكن مع انطلاق حزب العمال الكردستاني، بدأ دورهن يتعاظم بشكل ملحوظ، فعند تأسيسه عام 1978، كانت مشاركة النساء محدودة، إلا أن خروج الحزب إلى العلن أدى إلى توسع التنظيمات وارتفاع نسبة مشاركة النساء، ومع ذلك، فإن العمل العسكري اليوم أصبح أكثر تحديداً، ويُعد غياب المرأة عن التنظيم والنضال أحد أوجه ضعف الأحزاب السياسية الأخرى، بينما حرص القائد أوجلان منذ البداية على إشراك النساء كعنصر أساسي في النضال السياسي والمسلح".

وأكدت أنه "لا يمكن الحديث النضال المسلح والإيدولوجي دون ذكر الشهيدة ساكينة جانسز ورفيقاتها، اللواتي قدّمن تضحيات كبيرة وسجلن نضالاً تاريخياً، القائد أوجلان هو المخطط والمنظّم،  والنساء المناضلات حافظن على جوهر هذا النضال، كما يتجلى في قوله "علاقتنا داخل التنظيم هي علاقة رفاقية، لا أحد يقرر والآخرون ينفذون، بل نعمل جميعاً بصوت واحد".

وشددت على أنه "كان للنساء دور محوري في هذا السياق، حيث ساهم القائد أوجلان في تغيير واقع المرأة في شمال كردستان، التي كانت تُعامل سابقاً كعاملة أو تاجرة بسيطة، وقد أشار في مؤلفاته إلى والدته وشقيقته، التي كانت تُعامل كتجارة تم تزويجها ببضع كيلوغرامات من القمح، ما يعكس نمطاً فكرياً كان يُفرض على المرأة الكردية، ومن هنا، فإن حزب العمال الكردستاني لم يُحيِ القضية الكردية فحسب، بل أعاد أيضاً إحياء قضية المرأة".

وأفادت وجدان نور الدين أنه "بعد الظروف الصعبة التي عاشتها ساكينة جانسيز في السجون، واصلت النساء تنظيم أنفسهن، فقد شكّلت مقاومة ساكينة جانسيز في مواجهة المحققين في سجن آمد نقطة تحول داخل السجون، حيث قدّمن أجسادهن للمقاومة، وأعلنّ إضراباً استمر أربعين يوماً، هذه المقاومة كانت سبباً في تصاعد الحماس لدى الرفاق في الخارج، واستمرار الحزب في مواجهة الظلم من قبل الأنظمة الداخلية والخارجية، كما يُلاحظ ضعف الاهتمام من قبل الأحزاب السياسية في إقليم كردستان، التي، بعد انخراطها في العمل السياسي، تبنّت عقلية عالمية سطحية، مما أفقدها الكثير من الأهمية".

ولفتت إلى أنه "في عام 1984، شاركت النساء في تنظيمات بسهل البقاع في لبنان وسوريا، وخلال عودتهن، برزت أدوارهن وشخصياتهن، واستمرت مشاركتهن في التصاعد، ومع خروج ساكينة جانسيز من السجن وعودتها إلى الجبال، ثم إلى أوروبا وتنظيم النساء داخل الحزب، أصبح ذلك سبباً في تقوية المرأة وإعادة انطلاقتها بشكل أوسع في المنطقة".

 

"عملية السلام سبيل لمنع تفكك الشرق الأوسط"

أُشارت وجدان نور الدين إلى أن وقف الكفاح المسلح من قبل قوات الكريلا لم يكن خطوة عشوائية، بل جاء بعد سلسلة من الدراسات والبحوث الدقيقة، تناولت التغيرات الجوهرية التي طرأت على واقع الشرق الأوسط، وقد خلصت هذه الدراسات إلى أن الفوضى والصراعات اللاإنسانية يمكن أن تعيد البشرية إلى الوراء، وأن قرار السلام لم يكن فردياً أو فوقياً، بل قراراً جماعياً رفاقياً يحظى بدعم الجميع.

وأوضحت أن "مقاومة الكريلا نابعة من إرادة الشعب، الذي دعمهم لأنهم كانوا يُقمعون ويُهمّشون، وفي المجتمع الديمقراطي، يجب أن تتمتع المرأة بحقوقها، والرجل بحقوقه، وكل فرد بحقوقه الكاملة، ويجب أن تكون الحقوق الاقتصادية والسياسية متساوية للجميع".

وفي ختام حديثها، قالت وجدان نور الدين "أؤيد بالكامل عملية السلام، لأنها تنبع من أعماق النفس البشرية الساعية إلى الطمأنينة والتوازن، وأهنئ جميع الرفاق وعائلات الشهداء بمناسبة ذكرى 15 آب، لأنها كانت ثورة عظيمة وضعت القضية الكردية على طريق الحل، وفتحت الباب أمام السلام والوحدة، هذا الخطاب يرد على تصريحات أردوغان الأخيرة، وإن 15 آب هو ثورة كردية كبرى في الشرق الأوسط".