محاولات ضرب مكتسبات التونسيات مرفوض... لا تنازل عن حريتنا (2)

بعد ثورة 2011، ظنت المرأة التونسية أن زمن القهر انتهى، لكن الواقع كشف عن عودة قوى رجعية وشعبوية تهدد مكاسبها القانونية والاجتماعية، وفي ظل أزمة شاملة، تواجه محاولات لتقويض حقوقها، عبر تعديل مجلة الأحوال الشخصية.

مقال بقلم الناشطة التونسية فضيلة محمد الدشراوي

ذات يوم، في الرابع عشر من كانون الثاني/يناير 2011، حلمنا وانزاحت عن عيوننا وقلوبنا غشاوة أكثر من نصف قرن وفرحنا وظننا أن فجر الحرية انبثق وأن النساء في تونس سيغنين للفرح، إلا أن رؤوس الأفاعي سرعان ما أطلت ونفث الإخوان وبقايا النظام القديم سمومهم وانهالوا على البلد نهباً وسلباً وفساداً وإفساداً وتدميراً للدولة ولمؤسساتها ومحاولة لإعدام المدنية والعود بنا إلى العروشية والقبائلية ومحو مفاهيم الحقوق والحريات والمساواة بين الجنسين، فاستعرت الحرب من جديد وكانت التونسيات في الصفوف الأمامية في قلب الصراعات المحمومة والدموية في العشرية الظلماء إلا أن نضالاتهن والشعب التونسي حدت من تطاول إخوان المآسي على مدنية الدولة وعلى حقوق النساء وتراجع أولئك الحكام عن تمرير فصول وقوانين تزج بنا في غياهب الماضي المتخلف، وبالمحصلة لم يمر فصل "المرأة مكمل للرجل" ولم تتجرد الدولة من مدنيتها، مرت عشرية قاتمة وحلت خمسية عاتمة.

إن ما عجز عن تنفيذه الإخوان بدأ الرئيس الشعبوي المنقلب ينجزه بخطى حثيثة متسارعة وبدون ضجيج في خضم ضياع ويأس شعبي عام بعد فقدان الثقة في النخب السياسية التي وقعت فريسة لمنابر إعلامية مأجورة يؤمها منطق السب والشتم والصراخ ونواب زج بهم في البرلمان لتحويله إلى سرك وحلبة صراع ممجة، وهذا ما هيأ الرأي العام لقبول الانقلاب والسير في ركابه وما جعل الرئيس يستولي على الحكم باستعمال العسكر ويحكم عليه قبضته، مع حشو أدمغة الناس بالشعارات والتهديدات "للفاسدين والخونة" وفي الأثناء أسرع لضرب مؤسسات الدولة وجعلها في طابور الوظائف للحاكم بأمره وهو يجردها الواحدة تلو الأخرى من كل صلاحياتها، ها هو الآن وقد أرسى نظاماً شعبوياً يمينياً متطرفاً فشل على جميع الأصعدة، وها هو يسوق البلد إلى الخراب، اقتصاد مدمر، بلد غير منتج، فقر مدقع، غلاء أسعار مشط، بطالة في تزايد، قروض مضاعفة، لا وجود لانتدابات، أجور مجمدة، توترات اجتماعية وجرائم خطيرة ومخدرات؛ والحلول قمع واعتقالات وسجون وتعذيب، ونصيب المرأة التونسية من ذلك وبحكم هشاشة أوضاعها كبير جداً.

نساء تونس اليوم يعشن الفاقة في كل مناحي الحياة ويتجرعن مرارة الظلم والقهر والقمع والتجويع والتجهيل وركوب خطر البحار "الحرقة" ومعهن أطفالهن، نساء تونس يحرمن من ولوج الشأن العام ويبعدن من مواقع القرار.

 

نكسة الحقوق النسائية في تونس

إن المرأة التونسية قاومت طويلاً خيارات حزب الدستور التونسي، وحزب التجمع الدستوري التونسي وحركة النداء وحركة النهضة وها هي في معمعان الصراع من جديد، تواجه حكماً شعبوياً يمينياً متطرفاً يخدم رأسمالاً غربياً متوحشاً مهيمناً أتى على الأخضر واليابس ومد أذرعه السرطانية إلى كل مفاصل البلاد ومنابع ثرواتها وفئاتها الاجتماعية وأجناسها وكبلها بمنظومة عمالة جديدة متشددة تريد تجريد التونسيات من مكاسبهن، وتسعى لحرمانهن من حقوقهن وإبقائهن في وضع التبعية الدائمة للجنس "الأقوى".

سلطة الحاكم الحالي تمثل تهديداً خطيراً لحريتهن وحقوقهن، بل لطفرة المكاسب التي خزنها من بعض قوانين وفصول مجلة الأحوال الشخصية، لقد بدأ هذا الحاكم بإلغاء الفصل الثاني من دستور 2014 لمحو مبدأ مدنية الدولة وإعدام التشاريع الحداثية التقدمية لجعل الدستور يغترف القوانين من الشريعة الإسلامية المتكلسة "الصالحة لكل زمان ومكان"، كما تخلص من الفصل 21 لسنة 2014 الذي ينص على المساواة في الحقوق والواجبات بين التونسيين والتونسيات وتظاهر بأنه مع مبدأ التناصف في المجالس الانتخابية إلا أنه قطع عنهن الطريق بالمرسوم 55 الذي أغلق الباب أمامهن للدخول إلى معترك الحياة في الشأن العام وحرمانهن من الوصول إلى مراكز هامة وإلى مواقع القرار ولعل نتائج الانتخابات البرلمانية التي سجلت نسبة 26% وانتخابات مجالس الأقاليم التي سجلت نسبة 9.5% خير دليل على ذلك.

أما بخصوص مجلة الأحوال الشخصية فهو لم يكلف نفسه عناء مراجعة أي مسألة ذات الصلة والتي عفى عنها الزمن ولم تعد ملائمة للوضع الحالي ولم يضف بنداً أو فصلاً واحداً خلال خمس سنوات به مكسب للمرأة التونسية الصبورة المعطاء والمكافحة ولم نلمس جهداً إيجابياً في دحض مظاهر التمييز الجنسي الصارخ في مسألة المهر، رئاسة الزوج للأسرة، الولاية على الأطفال، اختيار محل السكن، عدم المساواة في الإرث وهو الموضوع المقدس لديه الذي لا يلمس ولا يقترب منه علماً أنه طرح في عام 1930 من قبل المفكر الطاهر الحداد.

الأخطر اليوم أن الحاكم بأمره يهيأ الرأي العام عبر أبواقه وعبر وسائل التواصل، يمرر تسريبات لتعديلات خطيرة تزيد في تعفين أوضاع النساء وتعيدهن إلى وضع قديم بائس طالما قاومنه وضحين من أجل تجاوزه.

إن الحاكم في ذروة الأزمة الشاملة وانهيار الحياة الاقتصادية والاجتماعية والقيمية وعجز "الدولة" على الإنقاذ أو التخفيف من الأزمة وفي ذروة حكم الاستبداد والتسلط لا يجد من الحلول إلا نوعين، الأول هو العنف والقمع والاعتقالات والسجون، والثاني عبارة عن طمس العقل والفكر وروح البحث عن الحلول العلمية والمنطقية مع السعي إلى الاغتراف من الدين والتقاليد وثقافة الماضي المتخلف لإدامة حكمه وسلطته موهماً الشعب بتقديم الاصلاحات والحلول للمعضلات الحارقة، إذن أمام الأوضاع الصعبة التي يعيشها الأزواج اليوم ارتأى الحاكم المشرع أن يقدم تعديلات في فصل أو أكثر من فصول وقوانين مجلة الأحوال الشخصية تجنباً للمزيد من التعقيدات والمعاناة كما يبرر وأن يضع إصبعه على المفتاح السحري لمعالجة ظاهرة الطلاق وتحديداً وربما كبداية "الطلاق بالتراضي" وقد يمر فيما بعد لفصول أخطر للتفريط فيها ولسان حال ما يروج أو يدعى لتبنيه والاقتناع به محاولة على وسائل التواصل تمهد وتهيأ الرأي العام بأساليب تنفذ بسهولة إلى عقول الكثيرين للقبول بها.

 

من المحكمة إلى العدول... انحدار العدالة في قضايا الطلاق

إن موضوع الطلاق موضوع قديم جديد وهو من ضمن مشاكلنا الاجتماعية المتفاقمة كالبطالة وضعف المقدرة الشرائية وتدهور الخدمات والمرافق العمومية... ولا بد من استراتيجية يشترك فيها خبراء في عدة مجالات مترابطة (اقتصاد، اجتماع، سياسة، تربية، ثقافة وتعليم....) وجمعيات حقوقية وهياكل ذات الصلة ترسم مخطط علمي وبرنامج وطني ينزع إلى القطع مع كل أسباب الظاهرة ليهيأ لغد أفضل ولكن الحقيقة ذلك غير ممكن في مثل هذا السائد الذي نعيشه والذي علينا تغييره بالنضالات ومقاومة منظومات الخور.

كلنا نعرف أن أسباب الطلاق هي أساساً المشاكل الاجتماعية والضغوطات الحياتية وما يترتب كعدم توفير المال ووسائل العيش الغذائية والصحية الضرورية وعدم القدرة على تسديد معلوم الكراء وفواتير الماء والكهرباء وديون أخرى وما يترتب عنه من توترات نفسية وعصبية وهناك سبب ثاني وهو مرتبط في جانب ما بالسبب الأول وهو العنف الأسري بكل أشكاله والذي يزيد في حدته نقص الوعي وسيطرة العقلية الذكورية التي عتدت من جديد بقوة وتدخل العائلات المتصاهرة وحتى بعض الأمراض المسكوت عنها.

وقد قدمت وزارة المرأة بمعية المجتمع المدني النسب التالية التي أنزلت في تقرير بالمرصد الحكومي: 58% من المطلقات تعرضن للعنف من قبل أزواجهن (44%عنف نفسي ـ 26٫7%عنف لفظي ـ 15,6% عنف جنسي ـ 11,7% عنف اقتصادي ـ 5,3% عنف جسدي)، وهي نسب مفزعة وما ذكى هذا العنف هو خطابات الكراهية والتهديد والوعيد التي يسري تأثيرها كالنار في الهشيم وهو ما يؤدي حتما للعنف المباشر فالانفصال.

أمام نسبة الطلاق المتصاعدة صاروخياً سنوياً وأمام التباطئ الكبير في الإجراءات القضائية وحال القضاء الذي وصل إلى مرحلة مقلقة من التردي وتقلص الكادر ارتأى صاحب الأمر والنهي أن يقوم بتعديلات في الفصل 31 من مجلة الأحوال الشخصية التي نرنو إلى تثويرها كلياً لا إلى ترقيعها أو تعديل شيء منها تعديلاً سلبياً. إن الطلاق في تونس حتى وإن كان بالتراضي ينظمه قانون الأحوال الشخصية وإذا حصل هذا التدخل المزمع القيام به وهو تسليم ملفات قضايا الطلاق بالتراضي إلى عدول الاشهاد فهو يعني إخراجها من أدراج المحكمة إلى مكاتب العدول وهي انتكاسة خطيرة لحقوق المرأة في تونس وتهديد للبنية القانونية والاجتماعية للأسرة، فهذا التصرف ينزع عن المحكمة صلاحيات هي من مهام القضاء والقضاء وحده الضامن الأول للعدالة الاجتماعية فأي انتكاسة بطعم الحنظل وأي عودة خائبة إلى الوراء.

الطلاق كالزواج له عقد مدني وله تبعات اجتماعية وقانونية معقدة والمحكمة مدعوة للحفاظ على الوضع المدني للزوجين المطلقين فهي الجهة التي تمثل القانون النابع من دراسة وفهم معمقين للزواج كعقد مدني مبني في حد ذاته على قوانين وله بدوره تبعات قانونية أخرى اجتماعية معقدة وتمثل المحكمة الجهة الرقابية المستقلة لضمان حقوق الشريكين عند الانفصال كما توقف الحدث قانونياً للحفاظ على الوضع المدني للطرفين وهي من شأنها أن تفرض على "رئيس العائلة" الالتزامات كالنفقة والسكن في القضايا المحورية ذات الصلة لتنظمها كالزيارة وحضانة الأبناء؛ إذن ما رأيكم لو يستقيل القضاء وتوصد المحكمة أبوابها في وجوه الراغبين في الطلاق بالتراضي أو غيره ويأخذ عدول الإشهاد هذه المسؤولية على عاتقهم؟! ستأخذ المسألة منحى أخطر ونعود إلى نظام رجعي تقليدي قديم يفتح المجال للاستغلال والضغط الاجتماعي والأخلاقوي والانتهاك الصريح لحقوق المرأة التونسية ولحقوق الإنسان فإذا أراد المشرع المنفذ تحويل الطلاق بنوعه المذكور أو بأنواعه الثلاث إلى العدول فهو يريد إفراغه من مضمونه القانوني الحقوقي ولا يأخذ في الاعتبار سياقاته الاجتماعية والانسانية وهكذا يفتح الباب على الظلم والكيل بمكاييل مختلفة ويرسخ اللامساواة ويقوض العدالة التي هي قوام الدولة المدنية.

 

نضال نسوي ضد الردة القانونية والاجتماعية

إذن من هنا علينا أن نعي أن الطلاق على أيدي العدول هو مشروع يكرس الهيمنة الذكورية ويتنكر لمكاسب المرأة التونسية التي تعاني هشاشة عامة وهو بهدف إلى إعفاء المحكوم عليه من سداد معلوم النفقة وتخليصه من دفع ما عليه من نفقة ومن فوائد مترتبة عن التأخير.

لم يعد خافياً اليوم أن حقوق النساء وحريتهن والمساواة الفعلية بين الجنسين مهددة فعلياً وبالتالي فحقوق الإنسان التي تعتبر قاعدة الدولة المدنية صارت بدورها بين المطرقة و السندان.

لا رجوع إلى الوراء ولا للمساس بمكتسبات التونسيات. لنعمل على تجاوز مالم يعد يتماشى ومصالح وطموح وأحلام المرأة التونسية من في فصول وبنود في المجلة. بالمزيد من النضال ندعم ونعزز الحقوق والحريات ونفعل المساواة التامة بين الجنسين. معاً للدفاع عن حقوق الإنسان وتخليصه من براثن التخلف والتقوقع وتحريره من قبضة الرأسمال المتوحش المرعب الذي يمد أذرعه المشوكة إلى كل تفاصيل حياتنا، معاً في الانخراط في النضال الوطني الديمقراطي ذي الأفف الاشتراكي لنضمن ميلاد مجلة ثورية تقطع مع جميع أشكال الدونية والتخلف والرداءة.