الحق في الفضاء العام... المدينة لا ترحب بالنساء المغربيات
المدينة العادلة تبدأ من شارع مضاء، ومقعد لا يخيف، ومرفق عمومي يحترم كرامة الإنسان، وامرأة تمشي دون أن تتحسس خطواتها.

حنان حارت
المغرب ـ تثير التحولات العمرانية سؤالاً جوهرياً حول مدى عدالة الفضاء العام وإمكانية توفير بيئة آمنة وشاملة للنساء، فبينما تتطور المدن، تظل القيود المجتمعية تحدّ من حرية النساء في التنقل والمشاركة، مما يجعل هذه القضية محوراً أساسياً في بناء مجتمع أكثر إنصافًاً.
وسط التوسع العمراني المتسارع في المغرب، يظل سؤال عدالة الفضاء العام مطروحاً بإلحاح، هل صممت شوارعنا وحدائقنا ومرافقنا لتحتضن النساء وتضمن لهن الأمان والمشاركة؟ أم أن المدينة لا تزال تدار بعقلية تقصي النساء، خاصة الفئات الهشة منهن.
جلست نادية بنمسعود (اسم مستعار)، وهي امرأة في الأربعينات من عمرها، على مقعد في إحدى حدائق الدار البيضاء، تحاول أن تستمع بلحظة هدوء بعيداً عن صخب يومها، لم تمضِ سوى دقائق قليلة حتى قررت مغادرة المكان، وحين سألناها عن السبب، أجابت "الأنظار تلاحقني باستمرار، حتى إن لم يوجه لي أحد كلاماً مباشراً، فهناك من يتحدثون بصوت عال مستخدمين ألفاظاً نابية ومسيئة، وكأن وجودي هنا غير مرئي أو كأنني لا أملك الحق في أن أكون في هذا المكان".
كثير من النساء المغربيات تعشن تجربة مشابهة لنادية بنمسعود، حيث تشعرن أن وجودهن في الفضاء العام محاط بقيود غير معلنة، تتطلب منهن البقاء صامتات وعابرات، وكأن هذا الحق مشروط بشروط غير مكتوبة، مما يجعل التنقل في الأماكن العامة تجربة مرهقة ومحدودة الحرية.
كما تتحول الشوارع والمقاهي والحدائق إلى أماكن تبعث على القلق، ليس بالضرورة بسبب خطر ملموس، بل لأن جو المكان نفسه لم يصمم لراحتهن، بل هو مقيد بساعة النهار، وبطبيعة اللباس، وبنظرة المجتمع.
إقصاء ناعم
عبارات سوقية، نكات جنسية، وألفاظ مهينة، حتى وإن لم تكن موجهة للنساء بشكل مباشر، تترك أثراً عميقاً على شعورهن بالأمان والاحترام، المشكلة لا تكمن فقط في التحرش، بل في ثقافة مجتمعية تشرعن خطاباً علنياً فيه عنف رمزي ضد النساء دون أي استنكار.
بهذا الشكل، يتحول الفضاء العام إلى منطقة مشوبة بالخوف والرقابة، ما يكرس إقصاء ناعماً وغير مرئي، ويدفع العديد من النساء إلى الصمت أو التراجع، وتكييف سلوكهن مع واقع يفرض عليهن الحذر المستمر... فقط لأنهن نساء.
الفضاء غير العادل
وتشير معطيات هيئة الأمم المتحدة للمرأة إلى أن 6 نساء من أصل 10 في المغرب تعرضن لتحرش في الفضاء العام، هذا الواقع يجعل من التنقل والمشاركة أمراً محفوفاً بالمخاطر، ويدفع الكثيرات إلى تغيير نمط حياتهن تفادياً للتجربة المهينة.
تقول رئيسة جمعية أبناء بلادي للتنمية الاجتماعية والبيئية خديجة دوبلال "حين تصمم المدينة بعقلية ذكورية، تتحول الساحات والشوارع إلى أماكن غير آمنة"، لافتةً إلى أن النسخة الحالية للمدينة لا تلبي احتياجات النساء، خاصة من الفئات الهشة، ولا تعترف بأدوارهن الاجتماعية والاقتصادية "الفضاء العام مصمم ليستقبل الرجال أساساً، دون اعتبار للنساء كفئة لها حاجيات مختلفة".
المغرب ليس استثناء
وأشارت إلى تجارب في كولومبيا والسويد، أظهرت كيف يمكن لتصميم مدن عادلة أن يحدث فرقاً، من خلال إشراك النساء في اتخاذ القرار، وتعزيز النقل الآمن، وتوفير مرافق عمومية تراعي أدوار النساء، لافتةً إلى أن النساء ذوات الإعاقة تواجهن بدورهن إقصاءً مضاعفاً من الفضاء العام، بسبب غياب البنيات التحتية الملائمة وندرة المرافق التي تراعي احتياجاتهن الخاصة "المدينة الحالية لا تفتح أبوابها للجميع، وذوات الإعاقة تعانين في التنقل وفي الولوج إلى الحدائق والمرافق العمومية، ما يزيد من عزلتهن ويقيد مشاركتهن في الحياة الاجتماعية".
وأضافت "إذا كانت النساء بوجه عام تعانين من التهميش، فإن النساء ذوات الإعاقة تعانين من تهميش داخل التهميش"، لافتةً إلى أن "المدينة ليست مجرد عمران، بل ثقافة وسلوك وسياسة، وإن لم تدمج النساء بمختلف وضعياتهن في رسم ملامحها، فستظل المدينة للرجال فقط، إننا نطمح لمدينة لا تقصي أحداً بسبب جنسه أو طبقته، فعدالة الفضاء شرط أساسي لمجتمع ديمقراطي".
نساء غير مرئيات
ومن جانبها، أكدت رئيسة جمعية التحدي للمساواة والمواطنة بشرى عبدو، على أن الفضاء العام المغربي يدار بعقلية ذكورية، رغم الحضور اليومي للنساء فيه "هذا الحضور يظل محاطاً بالحذر، خاصة ليلاً أو في الصباح الباكر، حيث تواجهن أشكالاً متعددة من العنف الرمزي والمادي".
وتابعت "حتى أبسط الحقوق، كاستراحة في حديقة أو استعمال مرحاض عمومي، تتحول لتجربة مهينة، مليئة بنظرات التربص أو بانعدام تام للبنية التحتية"، مشيرة إلى الوضع القاسي لبائعات السلع المتجولات، اللواتي تعملن في ظروف تهدد كرامتهن وتجعلهن عرضة للعنف اللفظي والجسدي دون أي حماية.
وشددت على أنه "حان الوقت للتفكير الجاد في سياسات حضرية تضع كرامة النساء في صلب اهتماماتها فضاءات مضاءة وآمنة، مرافق عمومية، حضانات، مراكز للإيواء والاستماع"، مشيرةً إلى أن الفضاء العام ليس حكراً على أحد، بل هو حق جماعي يجب أن يكفل الكرامة للجميع، نساءً ورجالاً.