الحريات الشخصية مسألة محورية تمس جوهر العلاقة بين الفرد والمجتمع

الثقافة السائدة والرقابة الاجتماعية تمارس في كثير من الأحيان دوراً أكثر قسوة من أي قانون على الحريات الفردية، حيث يُحاكم الناس على تصرفاتهم وملابسهم وخاصةً النساء بناءً على العادات والتقاليد البالية.

لميس ناصر

دمشق ـ في سوريا، حيث تعيد الحرب والشتات والاضطرابات السياسية تشكيل كل ملامح الحياة، لا تبدو الحريات الشخصية مجرد تفصيل اجتماعي أو ترف فكري، بل مسألة محورية تمس جوهر العلاقة بين الفرد والمجتمع. مسألة شائكة تتقاطع فيها التقاليد مع الحداثة، والأجيال مع بعضها، والحقوق مع الواجبات، والواقع مع الصورة التي تعكسها الشاشات والمنصات الرقمية.

 

بين الحرية الفردية والمسؤولية الجماعية

تقول عضو الهيئة التدريسية في قسم الدراسات والبحوث السكانية في وزارة التعليم العالي سمر علي إن مفهوم الحريات الشخصية يحتاج إلى مراجعة عميقة داخل المجتمع السوري، خاصة مع اتساع الهوة بين الأجيال "نميل أحياناً إلى التعامل مع الحرية بوصفها حقاً مطلقاً، ننتزعه ونمارسه كيفما نريد، لكننا ننسى أن هذه الحرية يجب أن تكون مشروطة بالوعي، وأن أي حرية تتجاهل الأثر الذي تتركه على الآخرين أو البيئة المحيطة، تتحول من حق إلى فوضى".

بالنسبة لسمر علي ليست حرية التعبير أو اللباس أو السلوك اليومي شأناً فردياً بحتاً، بل منظومة تتفاعل مع السياق الاجتماعي والقيمي "حرية اللباس على سبيل المثال، لا يجب أن تُفهم كتصادم مع القيم، بل كمجال للتعبير الواعي عن الذات، مع احترام المكان والزمان والبيئة الاجتماعية، ما يناسب المدرسة يختلف عما يناسب الشارع أو المنزل أو العمل".

 

جيل يطالب وجيل يراقب... فجوة معرفية تتسع

ولفتت إلى أن الأجيال الشابة، التي نشأت في ظل انتشار الإنترنت ومواقع التواصل الافتراضي، تتبنى مفاهيم الحريات بشكل مباشر وسريع، متأثرة بما تراه من نماذج وأفكار تنقلها المنصات الرقمية، غالباً دون مراعاة للسياقات المحلية "اليوم ابني وابنتي يرون في كل لحظة من يومهم مشاهد وصوراً لحياة يعتقدون أنها طبيعية، في حين أنها لا تعكس واقعهم ولا تعبر عن تركيبتهم الاجتماعية. لا أستطيع أن أقول لهم فقط افعل ولا تفعل. لم يعد الأمر بهذه البساطة واجبي هو أن أفتح حواراً معهم، أشرح وأستمع، لا أن أفرض أو أمنع فقط".

وترى أن هذا التناقض يولد توتراً دائماً في البيوت السورية، حيث يسعى الأهل إلى فرض ما يرونه قيماً، بينما يطالب الأبناء بمساحات أكبر من الحرية الفردية وهنا تبرز "الفجوة المعرفية"، على حد وصفها، كأحد أخطر تحديات المرحلة.

 

حرية التعبير أم فوضى التعبير؟

في ظل هذا المناخ، تتحول حتى أبسط تعبيرات الحرية كمنشور على فيسبوك أو صورة على إنستغرام إلى ساحة صراع بين من يراها حقاً طبيعياً، ومن يعتبرها خرقاً للمألوف أو تعدياً على منظومة القيم "حرية التعبير يجب أن تُفهم ضمن إطار القيم، لا ضدها. هذا لا يعني تقييد الناس أو خنقهم، بل تذكيرهم بأن كل كلمة أو صورة لها تأثير، وقد تخلق ردود فعل سلبية أو تساهم في توتر الأجواء العامة".

وحذرت من النزعة إلى "التنمّر المجتمعي" تجاه من يختلف في مظهره أو رأيه أو سلوكه، معتبرة أن هذه الظاهرة تمثل شكلاً من أشكال العنف غير المباشر ضد الحريات الفردية "إذا أردنا مجتمعاً يحترم الحريات، علينا أولاً أن نحترم اختلافنا".

 

بين القانون والمجتمع... المسافة الضائعة

من جهة أخرى، ترى سمر علي أن هناك مسافة كبيرة بين ما تنص عليه القوانين السورية بشأن الحريات، وما يُمارَس فعلياً على أرض الواقع، فرغم أن الدستور ينص على احترام حرية الفرد وكرامته، إلا أن الثقافة السائدة والرقابة الاجتماعية تمارس في كثير من الأحيان دوراً أكثر قسوة من أي قانون "الأصل أن نحترم الحريات الشخصية طالما لا تنتهك القانون ولا تتعدى على الآخرين، لكن المشكلة أن الناس أحياناً تُحاكم الآخرين بناءً على العادات والتقاليد، لا على القانون، وهذا ما يجعل الحريات عرضة للانتهاك من دون مساءلة".

 

حوار لا وصاية... دعوة للتوازن

في ختام حديثها، دعت سمر علي إلى ضرورة فتح نقاش مجتمعي جاد ومسؤول حول مفهوم الحريات الشخصية، بعيداً عن الأحكام المسبقة والتخوين والوصاية، وبما يراعي التحولات الاجتماعية والثقافية التي يمر بها المجتمع السوري "نحن بحاجة إلى توازن دقيق. لا نريد مجتمعاً يقمع حرية الفرد، ولا نريد حرية تنتهي إلى فوضى. نحتاج إلى وعي، إلى حوار، إلى تربية قائمة على الإقناع لا القمع. هذا ليس طريقاً سهلاً، لكنه الطريق الوحيد لنكون مجتمعاً صحياً ومتعدداً ومنفتحاً".