السلام طريق إلى الحرية ـ 1
في الشرق الأوسط، استُخدم السلام كأداة للقمع من قبل القوى، لكن بالنسبة للكرد فهو مفهوم للمقاومة والبقاء، وأن هذا السلام لا يمثل نهاية الحرب فحسب، بل يمثل أيضاً بداية جهود متواصلة نحو الحرية والديمقراطية.

أفزم فيان
مركز الأخبار ـ لقد تم تقديم عملية السلام دائماً في تاريخ النضال التحرري باعتبارها وسيلة للخروج من دائرة العنف، ولكن السؤال الرئيسي هو أي نوع من السلام؟ في حين أن النماذج التقليدية للسلام تعتمد على التنازل عن السلطات وتقاسم المكاسب، هناك منظور آخر وهو منظور لا يرى السلام باعتباره تسوية مؤقتة بل تغييراً جوهرياً في بنية المجتمع.
إن الرسالة التي وجهها القائد عبد الله أوجلان للنساء في الثامن من آذار/مارس أكدت بوضوح أنه لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق السلام والديمقراطية الحقيقية دون حرية المرأة، ومن هذا المنظور، لم يعد السلام يعني إنهاء الحرب، بل بناء نظام جديد، حيث تلعب المرأة، باعتبارها القوة الرئيسية للتغيير، دوراً محورياً في صنع القرار السياسي والاجتماعي.
واليوم أصبح هذا النموذج للسلام المبني على التنظيم الاجتماعي والمشاركة المباشرة للشعب بدلاً من الاتفاقيات بين القوى مصدر إلهام ليس في الشرق الأوسط فحسب بل في جميع أنحاء العالم، لكن هذا المسار لا يزال يواجه العديد من التحديات، إذ تقاوم القوى المهيمنة أي تغيير يهدد هيمنتها، ومع ذلك، فإن النساء يقفن في طليعة هذا النضال، فالسلام بالنسبة لهن ليس امتيازاً سياسياً، بل هو شرط أساسي للحياة.
وفيما يتعلق بدعوة القائد عبد الله أوجلان "السلام والمجتمع الديمقراطي"، قالت نجيبة قره داغ، عضو أكاديمية الجنولوجيا "إن مجتمعات الشرق الأوسط وكردستان تربط جغرافيا ثلاث قارات، لقد كانت تاريخياً مركزاً لكل من أعظم الديانات المكتوبة والمعتقدات الطبيعية، وأولى اختراعات التاريخ، سواء كانت إيجابية أو سلبية، لقد كانت مصدراً للصراع وكانت المجتمعات الجبلية والطبيعية دائماً هدفاً لهجمات الاحتلال، وفي تاريخ هذه المنطقة، واجهت المجموعات العرقية والجذور المجتمعية الكردية احتلالاً شاملاً عدة مرات، لكن تمسكها بثقافة الدفاع والدفاع عن النفس لم يتأثر إلى حد ما بعقلية السلطة والتسلسل الهرمي، من الإبادة الجماعية الجسدية إلى استخدام كل وسائل الحرب النفسية والاقتصادية، وفي كثير من الأحيان إبقاء المجتمع الكردي في وضع الحماية الجسدية، فقد تم جلبهم إلى وضع لا ينكر هويتهم فحسب، بل ويهدد وجودهم أيضاً".
وأضافت "في مثل هذه الحالة فإن الانتفاضة ضد هذا الوضع هي الأكثر طبيعية، والإحياء التاريخي أصبح ضرورة حتمية، فالمحتل الذي لا يعتبر المجتمع إنسانياً حتى، والذي أوصله إلى حالة من اللاإنسانية، ليس لديه خيار سوى إحداث ثورة، لقد كان هذا الوضع هو نفسه تقريباً في جميع أنحاء كردستان، وخاصة بعد تقسيمه بموجب معاهدة لوزان، وبالنسبة للمجتمع في هذا الوضع، كان السلام يعني الصمت والخضوع، وبالنسبة للدول المحتلة، جاء السلام كوسيلة للصمت والإبادة الثقافية ضد الأمم والألوان المختلفة، ففي أي جزء من كردستان كان مفهوم السلام والاستقرار للدولة ينبع من قمع الألوان المختلفة وكان الخيار الوحيد هو الذوبان في صنم البنية الأيديولوجية والسياسية للدولة، إن هذه الطبيعة من الاحتلال الذكوري كانت تشغل المجتمع بأكمله ذات يوم، ومرة واحدة من خلال إبقاء المجتمع في حالة من التخلف الاقتصادي والاجتماعي، كانت النساء تُستغلن مرتين، مرة من قبل الدولة ومرة من قبل الرجال".
كانت النساء ضحايا سفك الدماء طيلة حياتهن
وأشارت نجيبة قره داغ إلى أنه لطالما اعتمد النضال من أجل الهوية والوجود والحريات في الماضي على تفاهم متاح على طاولة المفاوضات، لذا، فإن إدراك أن الكرد خسروا ما حققوه من مكاسب عبر المفاوضات أمرٌ مطروح، أو كان لديه دائماً مفاوضات سلام من منظور شخصية ذكورية، هذه العادات والمفاهيم بحد ذاتها يجب أن تكون موضع تساؤل وتغلب عليها، وهو ما سأعود إليه لاحقاً في نموذج الفكر والتفكير والتنظيم لحركة التحرر الكردستانية، ومن الواضح أن فهم السلام والتعايش الديمقراطي هو أبسط وأكثر احتياجات الإنسان والمجتمع أساسية، إذا كان هناك صراع، فمن المهم أن يكون المعيار هو الترويج لنموذج أفضل، وليس على أساس الإنكار والتدمير، وقد كانت الحاجة إلى السلام دائماً جزءاً من نسيج المجتمع الطبيعي، ففي العديد من الحروب القبلية، عندما تخلع النساء حجابهن الأبيض، تتوقف الحرب، ولكن في كثير من الحالات الأخرى، تم النظر إلى المرأة باعتبارها جسداً لوقف إراقة الدماء، وتم تقديمها في مقابل الدم باسم المصالحة، وضحت بحياتها بأكملها في جحيم إراقة الدماء".
خطوات نحو فكر ونموذج المجتمع الديمقراطي
وأوضحت نجيبة قره داغ أن ظهور حركة التحرر الكردستانية قبل 52 عاماً لإنهاء تاريخ الاحتلال وطمس الهوية، وخاصة وضع المرأة المحتلة في التاريخ كان موقفاً ثورياً إلى أقصى حد، والخيار الوحيد للكرد كان بشن حرب مسلحة في ظل حالة إنكار وإبادة شاملة، فاحتلال الجزء الأكبر من كردستان سيؤثر على الوضع برمته، وإن ما أسماه القائد أوجلان ميلاد المجتمع هو انتصار لحركة ستغير اتجاه التاريخ فكرياً وفلسفياً وستحدث نهضة تاريخية في كافة المجالات، من حالة الوعي الذاتي إلى التنظيم الذاتي ورفض الاحتلال على كافة المستويات، احتلال الأرض والجسد والوجود وإعادة تعريف الذات، وبطبيعة الحال، فإن جوهر هذا التعريف الذاتي يربط بين حرية الأرض والمرأة، وجوهر هذه الفلسفة والفكر يعتبر تحرير المرأة معياراً لكل الحريات ويجعله شرطاً أساسياً لحرية المجتمع".
وعن تحقيق هذه الغاية، قالت إن "الحركة ترى أهمية تنظيم استقلالية المرأة، الأمر الذي سيكون حافزاً للتغيير في المجالات التي تعيد فيها إنتاج احتلالها ورجولتها، ولتحقيق هذه الغاية، اعتبر في البداية أن نضال المرأة ضد عقلية الاحتلال والذكورة وربط النضالات الوطنية والطبقية والجنسانية أمر مهم، وبدون هذه النضالات والتحرك نحو فكر ونموذج المجتمع الديمقراطي، الرجال والنساء الديمقراطيين، فإن الحديث عن السلام سوف يوقع المجتمع مرة أخرى في فخ الوعود الفارغة التي قدمت للنساء في بداية كل الثورات الاشتراكية وثورات تحرير الشعوب، وبذلك لا يمكن حل القضية الكردية ولا القضايا الاجتماعية العميقة التي كان لها الأثر الأكبر على المرأة من خلال إصلاحات جزئية".
وعن فترة 52 عاماً من النضال المتواصل، قالت "كانت نتيجتها تقدم المجتمع والمرأة، والتي نتج عنها إطلاق ثورة اجتماعية وفكرية وديمقراطية بكل معنى الكلمة، وفي مجتمع وحركة أوصلت فكرها وفلسفتها الحياتية إلى مستوى نموذج الحداثة الديمقراطية المبنية على مبادئ الديمقراطية المباشرة والبيئة وحرية المرأة، فإنها بالتأكيد تتحدث عن السلام في مكانة قوية، ولكن من المؤكد أن هذه ليست فترة سهلة".
"الدعوة ليست عملية لانتظار القادم"
وعن دعوة "السلام والمجتمع الديمقراطي" قالت نجيبة قره داغ، "كيف يمكن للقائد أوجلان أن يتحدث عن السلام في ظل هذا الكم الهائل من العنف في العالم وإنتاج أسلحة جديدة؟ الجميع يسأل حركة التحرر الكردستانية والنساء الكرديات إلى أين يتجه الوضع؟ فالدعوة ليست عملية تتركنا ننتظر شيئاً ما، ولكن هذه العملية سوف تكون ناجحة تماماً من قبل حركة التحرر الكردستانية، وجميع أجهزتها، وحركة حرية المرأة الكردية، وهذه الدعوة والمرحلة بحد ذاتها تنقل فراغ الدولة في مواجهة 26 عاماً من الاضطهاد والأسر للقائد أوجلان، وإن كسر هذا الاضطهاد هو نتيجة مقاومة غير مسبوقة في تاريخ الشعب الكردي والحركة والقائد أوجلان نفسه".
"القائد أوجلان تبنى ثقافة سياسية ونضالية جديدة"
"بالطبع، من أجل فهم هذه الدعوة، لا بد من فهم الحركة، وأسباب ظهور كل المراحل الماضية من الكفاح المسلح، ونموذج التنظيم، وفكر وأيديولوجية الحركة، ومتطلبات تغيراتها حسب العصر، وإن من يعرف مسار النضال في حركة التحرير، وبطبيعة الحال كيفية تحديد المشكلة وكيفية الوصول إلى الحلول، والدول المحتلة لكردستان والوضع العالمي لن يكون من الصعب عليه فهم هذه العملية"، هكذا رأت نجيبة قره داغ الطريقة الأفضل لفهم دعوة القائد أوجلان الذي تبنى ثقافة سياسية ونضالية جديدة، إلى جانب خلق فرص من العدم، وفتح نافذة جديدة وطريقاً جديداً للشعب الكردي، وشعوب المنطقة الأخرى، وحتى العالم.
وأضافت "بالنسبة للقائد أوجلان، كان هناك مبدآن مهمان في الحرب والسلام، وكذلك في النضال من أجل مجتمع ديمقراطي، أولاً، لا ينبغي أن يصل سفك الدماء إلى مرحلة يجعل فيها السلام صعباً، لأنه في نهاية المطاف فإن أولئك الذين يقاتلون بعضهم بعضاً يعيشون في نفس المنطقة ويتعين عليهم التحدث عن السلام معاً، ثانياً، لقد دفعنا ثمناً باهظاً وثميناً من أجل الحرية على مدار أربعين عاماً من النضال، لقد كان فن القيادة في نشر ثقافة النضال هو تحويل كل استشهاد سبب لنا ألماً بالغاً إلى فلسفة حياة جديدة".
واختتمت نجيبة قره داغ حديثها حول تنظيم العملية "رغم كل الهجمات الداخلية والخارجية على حركة التحرر الكردستانية، فقد طور القائد أوجلان ثقافة النضال المستقر، وقاد الحركة نحو الحفاظ على الوحدة الروحية والتنظيمية والبنيوية، وفي الوقت نفسه وضعها في صراع فكري وعرقي وطبقي، وإذا كانت العبارة مناسبة فإن "الجن خرج من القمقم ولن يعود"، لقد خلق هيكلاً تنظيمياً ينمو وينمو، ولكن هذا الجسم الكبير كان يحتاج إلى نقطة تحول تاريخية من أجل تحويل الحزب المركزي وسلطة النموذج السوفييتي للاشتراكية الحقيقية إلى بنية موجهة نحو المجتمع وليس بنية موجهة نحو الدولة، ومن حيث النموذج، ينبغي أن يتجدد هذا بالكامل، وبدأت هذه الجهود في منتصف التسعينيات، حيث حاول القائد أوجلان مراراً وتكراراً تحويل ساحة الحرب إلى ساحة الحل الديمقراطي وتطوير السياسة الديمقراطية، وإن طبيعة القضية الكردية، وهي قضية دولية، حالت دائماً دون حلها من خلال المؤامرات الداخلية ومصالح القوى الأجنبية المهيمنة".