روانسر بين جيلين... من أمومة مفروضة إلى خوف من الإنجاب
من أمهات خضعن لثلاث عشرة ولادة دون خيار، إلى شابات يؤجلن الأمومة عن وعي؛ تتجسد في شرق كردستان وإيران حكاية جيلين، تكشف عن تغيرات جذرية في موقع المرأة داخل الأسرة والمجتمع، تحت وطأة الأزمات الاقتصادية، وتداعيات التقدم السكاني.

شهلا أحمدي
روانسر ـ في قلب مدينة روانسر بشرق كردستان، تتقاطع حكايات النساء بين الماضي والحاضر، لتكشف عن تحولات عميقة في مفهوم الأمومة، ودور المرأة، والواقع الاقتصادي الذي يثقل كاهل الأسر.
مع تصاعد التضخم، وتراجع فرص العمل، وتزايد الهجرة، تتجه مدينة كرماشان نحو شيخوخة سكانية مقلقة، تعكس ليس فقط أزمة ديموغرافية، بل تحولات اجتماعية وثقافية عميقة، في وقت تطرح فيه تساؤلات حول معنى الأمومة، وحق المرأة في اتخاذ القرار، ومصير المجتمعات التي لم تعد ترى في الطفل بركة، بل عبئاً لا يُحتمل.
"الأمومة دون حق الاختيار"
فهيمة راد (اسم مستعار)، امرأة من قرية سراويان، بلغت السبعين من عمرها، خلال رحلة طويلة من الأمومة أنجبت ثلاثة عشر طفلاً، فقدت ثانيهم في سن مبكرة، بينما كبر الآخرون وتزوجوا، ولكل منهم الآن حياته المستقلة.
رغم سنواتها التي حفرت التجاعيد في يديها، لا تزال فهيمة راد تحتفظ بعزيمتها وحنكتها، تقف في فناء منزلها، تغمس يدها في دلو الطحين، وتخلطه بالماء بخبرة امرأة اعتادت على الحياة بكل تفاصيلها، تصنع العجين لدجاجاتها بنفسها، دون كلل، وكأنها تروي حكاية عمرها في كل حركة، تنظر بثبات إلى الفناء، وتقول بصوت يحمل طبقات من الحكمة والحنين "في ذلك الوقت، كان وجود الأطفال يعد نعمة، وكلما كثر عددهم، كان ذلك أفضل؛ إذ كانوا يساهمون أكثر في الأعمال، زوجي أراد أطفالاً منذ أن كان عمره ستة عشر عاماً، وكان الجميع يقولون إن كثرة الأبناء ستكون لصالحنا في المستقبل، لكن الآن، عندما أنظر إلى الماضي، أسأل نفسي: هل كانت تلك الولادات الثلاث عشرة مفيدة حقاً لمستقبلي؟".
وتابعت "بعد أن أنجبت ابنتي الثالثة، أصبحت الأمور أسهل قليلاً؛ لأنها كانت تساعدني في تربية بقية الأطفال، ومع ذلك، لا زلت أرى أن تلك الولادات الثلاث عشرة كانت ظلماً كبيراً ارتكبته بحق نفسي".
وأضافت "في تلك الأيام، لم يكن الوصول إلى الأطباء متاحاً لنا، ولم نكن نعرف شيئاً عن وسائل منع الحمل، وحتى لو عرفنا، لم يكن الحديث عنها ممكناً؛ فقد كانت من المحظورات، كانت السلطة بيد الرجال، وكلما أراد الزوج، كنا نحمل، دون أن يسألنا أحد عن رغبتنا أو استعدادنا".
بين أمومة مفروضة وأمومة مختارة... حكاية جيلين من النساء
وتقول مريم. ر، وهي تجلس إلى جانب والدتها "كانت كل فتاة ما إن تكبر قليلاً، تحمل مسؤولية رعاية إخوتها الأصغر، أمي أنجبت حتى بلغت الخامسة والأربعين، وكان الفارق بين الأبناء كبيراً لدرجة أنني، وأنا في الثانية والثلاثين لدي إخوة أبناؤهم أكبر مني سناً، هذه ليست مجرد تفاصيل من طفولتي، بل صورة لجيل كامل تحولت فيه الفتيات إلى أمهات بديلات، دون أن يُسألن أو يخيرن".
مريم. ر التي تعمل اليوم معلمة تقول "المرأة اليوم مطالبة بأن تكون أماً، وعاملة، وفاعلة في المجتمع، وفي الوقت نفسه تعتني بنفسها. صحيح أننا نملك قدرة أكبر على اتخاذ القرار، لكن لا تزال كثيرات محاصرات بتقاليد ومحرمات قديمة"، مضيفةً "حين أصبحت أماً، بدأت أرى والدتي بعين مختلفة، الفرق بيننا لا يكمن فقط في عدد الأطفال، بل في فهمنا للأمومة ولأجسادنا، أنا اخترت أن أكون أماً بعد تفكير ومشاورة، أما أمي فلم يمنح لها ذلك الحق".
الوضع الاقتصادي والتضخم
وترى مريم. ر أن أحد أبرز دوافع ترددها في الإنجاب يعود إلى التدهور الاقتصادي والتضخم المتسارع "الظروف المعيشية الصعبة، وارتفاع الأسعار المستمر، وانعدام العدالة الاجتماعية، دفعت كثيراً من الأسر إلى التخلي عن فكرة الإنجاب، في واقع يتغير فيه سعر السلع أكثر من مرة في اليوم، ويواصل الارتفاع بلا توقف، أصبح الأمل في المستقبل شبه معدوم، نحن نشعر بالقلق تجاه مستقبل الطفل الذي أنجبناه بالفعل".
وأضافت "الوعي اليوم بات أكبر؛ كثير من الناس يدركون أن الإنجاب دون استقرار مالي هو مخاطرة، لو توفرت فرص عمل حقيقية، وسكن مناسب، ومعيشة تضمن الكرامة، وبيئة آمنة للشباب، عندها فقط يمكن التفكير في الزواج وتكوين أسرة".
"المرأة ليست مجرد أداة للإنجاب"
رغم أن صورت محمدي لم تنجب عدداً كبيراً من الأطفال، إلا أنها حملت عبء التقاليد الصارمة، والأحكام الجاهزة، والصمت المفروض على نساء جيلها، بصوت هادئ تستعيد تفاصيل البدايات "كنت في الخامسة عشرة حين أجبرتني عائلتي على الزواج، وبعد أربعة أشهر فقط، قالت لي والدة زوجي بسخرية: الحديقة لا تُعرف إلا بثمارها، لم أفهم ما تعنيه، فسألت أمي، فأجابت بأن المقصود هو أن علي الإنجاب بسرعة، وهكذا، وجدت نفسي حاملاً في السادسة عشرة، دون استعداد جسدي أو نفسي، ودون أن أعي معنى الأمومة".
بعد لحظة تأمل قالت "لم أحمل مرة أخرى حتى بلغت الخامسة والعشرين، كان طفلي الأول فتاة، ومع ولادتها بدأت مرحلة جديدة من اللوم، النظرات، والتلميحات. لكن هذه المرة، لم أسمح لأحد أن يقرر عني، أدركت أن جسدي وفكري ملك لي، وأن قرار الإنجاب يجب أن ينبع مني، لا من الآخرين".
"شيخوخة السكان نتيجة انخفاض معدلات الإنجاب"
تشهد مدينة كرماشان تحولاً ديموغرافياً لافتاً، يتمثل في ارتفاع نسبة كبار السن إلى 13.5% من إجمالي السكان، في ظل تراجع حاد في معدلات الزواج والإنجاب، وتزايد معدلات البطالة، هذا الواقع يدفع الشباب إلى الهجرة بدلاً من تأسيس أسر، ما يسرع من وتيرة الشيخوخة السكانية.
معدل الخصوبة في كرماشان يبلغ 1.31، وهو أقل من المتوسط الوطني البالغ 1.6، وأدنى بكثير من معدل الإحلال السكاني المطلوب (2.1). هذا الانخفاض لا يقتصر على الأرقام، بل يعكس أزمة أعمق تتعلق بالفقر، وسوء الإدارة، وانعدام الأفق الاقتصادي.
الدراسات الحديثة تشير إلى أن 60% من السكان لا يرغبون في الإنجاب، مدفوعين بواقع اقتصادي ضاغط، وتكاليف معيشية متصاعدة، وتغيرات جوهرية في نمط الحياة. لم يعد الطفل يُنظر إليه كنعمة، بل كعبء مالي ونفسي لا يمكن تحمله في ظل الظروف الراهنة.
هذا التراجع في معدلات الإنجاب لا يعني فقط انخفاضاً في عدد السكان، بل يكشف عن تحولات اجتماعية وثقافية عميقة، أبرزها إعادة تعريف دور المرأة، وتزايد الفجوة بين الأجيال، وتبدل أولويات الحياة، لفهم هذا التحول، لا بد من الإنصات لتجارب الجيل السابق، ومواجهة مخاوف النساء اليوم بجدية، باعتبارهن في قلب هذا التغيير.