ظل إمبراطورية لاهثة
هل تسعى روسيا إلى لعب دور في بناء نظام جديد، أم أنها تحاول ببساطة تجنب تكاليف انهيار آخر على حدودها؟

شيلان سقزي
مركز الأخبار ـ بينما استمرت الجهود الدبلوماسية التي تبذلها دول المنطقة لاحتواء الحرب الإيرانية الإسرائيلية، فإن الهجوم الأمريكي المباشر على المنشآت النووية الإيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان في 22 حزيران/يونيو الجاري، وما تلاه من وقف إطلاق نار أحادي الجانب بعد 12 يوماً، قد غيّر المعادلات السياسية والأمنية في المنطقة بشكل جذري.
يشير رد فعل موسكو الفوري والتحذيرات الصريحة من المسؤولين الروس من احتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة، إلى القلق العميق لدى القوى العالمية من انتشار الأزمة وعواقبها الكارثية على أمن الطاقة والاستقرار الدولي.
روسيا، التي تخوض الآن حرباً مع أوكرانيا على جبهة أخرى كوكيل لحلف شمال الأطلسي، أدانت علناً هذه العملية العسكرية الأميركية، ووضعت نفسها في موقف تعتبر فيه استمرار الأزمة تهديداً لأمن الشرق الأوسط وحتى تهديداً لأمن الطاقة العالمي.
ينبع هذا النهج من التهديد الذي تتعرض له المصالح الاستراتيجية الروسية في الممرات والطرق التجارية مع إيران على سبيل المثال، ممر النقل بين الشمال والجنوب (INSTC)، الذي استثمرت فيه موسكو مليارات الدولارات لإنشاء مركز تجاري بين إيران وبحر قزوين وروسيا، وتقليل الاعتماد على الطرق الغربية، أصبح الآن مهدداً لأنه يضمن نقل البضائع إلى آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا، وحتى الهند.
الممر التالي هو ممر تشابهار ـ بندر عباس ـ روسيا، إذ شكّل خط السكة الحديدية من ميناء تشابهار (أو ميناء عباس) إلى شمال إيران، والمتصل بشبكة السكك الحديدية الروسية، جزءاً هاماً من استثمار إيراني ـ روسي مشترك بمليارات الدولارات في البنية التحتية، كان من المقرر اكتماله بحلول عام 2028، ويُعتبر منافساً قوياً لطريق قناة السويس.
بالنسبة لروسيا، كانت هذه الممرات وسيلةً للالتفاف على العقوبات وتقليل الاعتماد على الطرق الغربية، وكان من المفترض أيضاً أن تصبح إيران نقطة وصل للتجارة الأوراسية، وستظل روسيا، نظراً لمصالحها الاقتصادية، شريكاً محورياً لطهران.
إن الحرب الروسية الأوكرانية والتعرض للتوترات بين الولايات المتحدة والقوات الإسرائيلية وإيران، من ناحية، أضر بالبلاد، ومن ناحية أخرى، قلل من قدرة روسيا على الصمود وإدارة الأزمة، لأن هناك خطر الضغوط متعددة الجبهات ووجود حرب متزامنة في منطقتين مهمتين أدى إلى استنزاف موارد روسيا المتناقصة بشكل أكبر وتقليص إمكانية التركيز على أوكرانيا.
ومن ناحية أخرى، قد يؤدي الصراع الإيراني الأميركي إلى اضطرابات في صادرات إيران من التكنولوجيا العسكرية إلى روسيا، مثل أنظمة الطائرات بدون طيار المستخدمة في أوكرانيا.
قد يؤدي عدم الاستقرار في إيران إلى توقف مشاريع سكك حديدية كبرى، ويهدد القطاع الخاص الروسي، لهذا السبب، وعلى عكس الغرب، تحدثت موسكو علناً عن الوساطة، وأعلنت استعدادها لتسهيل "مفاوضات معقولة" لتخفيف التوترات عبر مجلس الأمن أو القنوات الثنائية، ويتماشى هذا الجهد الروسي مع صورة روسيا كفاعل عالمي مسؤول ومُستقر، يسعى إلى تعزيز مكانتها كصانعة نظام جديد.
من وجهة نظر روسيا، يُشكّل تصعيد الحرب الإيرانية الإسرائيلية والتدخل الأمريكي المباشر تهديداً متعدد الأوجه، في حين تستمر حربها على الجبهة الأوكرانية، لذلك تسعى موسكو إلى ضمان أمن الممرات والاستثمارات من خلال مزيج من التحذير السياسي والدبلوماسية النشطة والوساطة الرسمية، ومنع تركيز الاهتمام العالمي على معركة إقليمية كبرى، وترسيخ مكانتها كصانعة لنظام متعدد الأقطاب.
لكن إذا استمرت الحرب المُنظَّمة، فلن تخسر موسكو مساراتها الاقتصادية المهمة فحسب، بل ستُحاصر أيضاً بين أزمتين عالميتين: أوكرانيا والشرق الأوسط. لذا، ستدخل روسيا الملعب الأمريكي بحذر أكبر.
من جهة، تسعى روسيا إلى تحقيق مصالحها في إيران، ومن جهة أخرى تسعى من خلال الدبلوماسية إلى منع تصاعد التوترات. بالنسبة لروسيا، تُمثل هذه الأزمة اختباراً رئيسياً للحفاظ على قوتها الناعمة والاقتصادية في عصر عالمي متعدد الأقطاب مدفوع بالصراعات.
إن روسيا تعتمد في سياستها على التكيف وإدارة الأزمات، ولا تريد أن تُقطع إيران من جذورها، ولكن إذا تم تدمير الطرق أو المنشآت الإيرانية أو أصرت الولايات المتحدة على قرع طبول الحرب، فإن الكرملين يرى مصالحه الاستراتيجية والاقتصادية والأمنية في خطر، وسوف يكثف استجابته من خلال الوساطة والضغط الدبلوماسي.
تواجه موسكو وضعاً بالغ التعقيد والمخاطر، إذ تقع بين فكي كماشة المصالح الجيوسياسية والتوجهات الاقتصادية الاستراتيجية، ومتطلبات الحرب الأوكرانية المتزامنة، لذلك تسعى روسيا إلى بقاء النظام الإيراني، حتى لو كان ضعيفاً.
ومن ناحية أخرى، ونظراً لرؤيتها الاستراتيجية، تسعى إلى فقدان مكانتها ليس فقط في إيران، بل في الشرق الأوسط أيضاً، لأن تصاعد الأزمة في إيران، وخاصةً إذا استمرت الولايات المتحدة والقوات الإسرائيلية في مهاجمتها أو سقوط النظام الإيراني، يهدد أمن هذا البلد ومصالحه، ويمكن القول إن روسيا قلقة من انهيار أمني سيؤدي إلى تعطيل طرق التجارة، وعدم استقرار على حدودها الجنوبية، وتراجع نفوذها في المنطقة.
وعلاوة على ذلك، فإن روسيا، التي لم تعد قادرة على الدخول في حرب ومغامرة أخرى بسبب حربها مع أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية الشديدة، تحاول لعب دور الوسيط النشط باستخدام الأدوات الدبلوماسية، سواء لتعزيز صورتها الدولية أو لمنع المزيد من عدم الاستقرار الذي من شأنه أن يعرض مصالحها للخطر.