"أرشيف الوجع العراقي" ذاكرة امرأة عراقية تروي حكاية وطن

في جلسة أسبوعية مؤثرة في العاصمة العراقية بغداد، عرضت الفنانة العراقية كفاح مجيد مشروعها "أرشيف الوجع العراقي"، موثقةً عبر 23 لوحة تشكيلية ذاكرة وطن مثقل بالحروب والمعاناة.

رجاء حميد رشيد

العراق ـ شهدت الجلسة التي حملت عنوان "حوار بصري، موسيقى، أدب" تفاعلاً واسعاً من فنانين ونقاد، مؤكدةً على دور الفن في مقاومة النسيان وحفظ التاريخ.

حين تتحول المأساة إلى فن، والألم إلى لون، يصبح العمل الفني أكثر من مجرد تعبير جمالي، يصبح وثيقة وطنية تقاوم النسيان، وتحفظ تاريخاً مهدداً بالتآكل هذا ما جسدته الفنانة العراقية كفاح مجيد في مشروعها الفني المؤثر "أرشيف الوجع العراقي" الذي كان محور الجلسة الأسبوعية التي أقامها كاليري مجيد في بغداد، أمس الجمعة 17 تشرين الأول/أكتوبر، تحت عنوان "حوار بصري، موسيقى، أدب".

المحور الأبرز للجلسة كان مشروع الفنانة كفاح مجيد بعنوان "أرشيف الوجع العراقي" وهو عمل فني تركيبي يضم 23 لوحة تشكيلية، أنجزتها الفنانة في فترات مختلفة من الزمن العراقي الصعب خلال الحروب، والحصار، والديكتاتورية من ثمانينيات القرن الماضي وحتى عام 2006، وعملها الفني لا يُعدّ مجرد تجربة تشكيلية شخصية، بل هو محاولة جادة لإعادة تشكيل الذاكرة العراقية بصرياً، وتوثيق سنوات من الألم والمعاناة، في أحلك فترات التاريخ العراقي الحديث.

"أرشيف الوجع العراقي" ليس مجرد مجموعة لوحات، بل شهادة حية على ما عاشه شعب، وما واجهته امرأة اختارت أن توثق الألم بدل أن تتركه للغياب، إنه عمل يفرض على الذاكرة أن تبقى، وعلى الفن أن يتحمّل مسؤوليته.

 

فنٌ يقاوم النسيان ويحفظ الذاكرة

وقالت الفنانة كفاح مجيد "قررت أن أجمع هذه الأعمال في أرشيف بصري يحمل ذاكرة شعب، وأطلقت عليه اسم أرشيف الوجع العراقي، كجزء من مشروع لحفظ الذاكرة العراقية، فالفن هنا ليس ترفاً بل مسؤولية تاريخية وأخلاقية تجاه من عاش الألم ولم يملك صوتاً يرويه".

وأوضحت أن "كل لوحة في هذا الأرشيف تمثل لحظة من وجع العراق، حروب طاحنة، سجون مظلمة، حصار اقتصادي خانق، فقر مدقع، فساد ممنهج، طائفية، هجرة الشباب، وأمهات ثكالى، إنه أرشيف يتحدث عن ذاكرة امرأة حملت ألم جيلٍ كامل، ذاكرة أمهات فقدن أبناءهن، أطفال كبروا قبل الأوان، رجال ابتلعوا صمتهم حتى الموت، هو توثيق لحروب لأن كل الدول المتقدمة تحتفظ بذاكرة شعوبها لتعزز وجودهم وهويتهم، نحن بحاجة لتأصيل هويتنا عبر الحفاظ على ذكريات نحن شاركنا معها الألم".

وأضافت "هكذا علّمتني فلسفة النحت والجمال أن أجعل من الذاكرة كتلة محسوسة، تشهد وتتكلم وترفض أن تصمت"، وهذا ما يبدو واضحاً من خلال شرحٍ مفصّلٍ لخمسٍ من لوحاتها، حملت العناوين "أرشيف الوجع العراقي"، "المنبوذ"، "الوطن لا يهاجر"، "حزن عراقي".

توقفت كفاح مجيد عن الرسم عام 2006، متجهة نحو دراسة النحت لكنها لم تنسَ لوحاتها الأولى، بل طرحت على نفسها سؤالاً محورياً "هل يُعقل أن أهمل هذه اللوحات لأنها وُلدت خارج الدراسة الأكاديمية؟ هل أمنح النسيان سلطة لمحو ذاكرتي؟".

من هنا جاءت فكرتها في جوهر مشروعها الذي حول تلك الأعمال إلى جسد مادي بصري، كتلة فنية تحاكي الألم وتحفظه وتحتل مكانها في الفضاء، بصرية لا يمكن تجاهلها، موثّقة لذاكرة لا يجب أن تُنسى، وتكون حاضرة بقوة في الفضاء الفني والثقافي.

تستلهم كفاح مجيد جزءاً كبيراً من مشروعها من فاجعة شخصية عميقة، تمثّلت في فقدان عائلتها التي أُعدمت على يد النظام السابق، وهي مأساة تركت أثراً عميقاً في نفسها ما شكّل ركيزة أساسية في أسلوبها الفني، ودفعها للانتماء إلى المدرسة التاريخية التعبيرية، التي تؤمن بأرشفة التاريخ ليس فقط للشعوب، بل أيضاً للأفراد وتجاربهم الحياتية.

 

رغم الصعوبات... الكتلة تنطق

وتابعت "كان الفن لغتي الوحيدة لإنقاذ الحقيقة من الصمت، ولتحويل الفقد إلى حضور دائم، ورغم الصعوبات  التقنية التي واجهتها، حيث لم يكن تنفيذ هذا المشروع سهلاً، إذ واجهت مصاعب جمّة، خاصة في التعامل مع الخامات الصعبة كقطع الحديد، وتبويب الأعمال وزخرفتها، لكن مع ذلك أرى أن النتيجة كانت تستحق العناء، وسعادتي تكمن في أنني استطعت تكوير أكثر من فكرة داخل كتلة مادية، وجدت لها حيزاً في الفضاء، هذا العمل بالنسبة لي انتصار شخصي وفني".

اختتمت كفاح مجيد حديثها بالتأكيد على دور المرأة العراقية في الحياة المدنية والثقافية قائلة "تلعب المرأة العراقية دوراً محورياً في الحراك المدني، رغم الخسارات الكثيرة التي أصابتها، لكنها تظل صبورة، وسموحة، وحاضرة بقوة، حاملة لذاكرة وطن وشريكة في صناعة مستقبله".

"أرشيف الوجع العراقي" ليس مجرد مجموعة لوحات، بل شهادة حية على ما عاشه شعب، وما واجهته امرأة اختارت أن توثق الألم بدل أن تتركه للغياب، إنه عمل يفرض على الذاكرة أن تبقى، وعلى الفن أن يتحمّل مسؤوليته.

وتخللت الجلسة مداخلات من قبل الحضور من فنانين وأكاديميين ونقاد وأدباء، إضافةً إلى مشاركات من مختلف التخصصات العلمية والمعرفية، وأن الموضوع المطروح ليس عابراً، بل هو من القضايا التي تلامس شغاف القلب العراقي، وتثير في الوجدان تساؤلاتٍ وهواجس ممتدة عبر الأجيال، إنه موضوع ذو شجون، تتقاطع فيه التجربة الذاتية مع الهمّ الجمعي، ويستدعي منا جميعاً وقفة تأمل وإعادة نظر، لأن ما يُناقش هنا ليس مجرد فكرة، بل هو انعكاس لروح وطن بأكمله، بطموحاته، وجراحه، وأحلامه.