العنف البنيوي ضد النساء من مواقع العمل إلى النظام السياسي

ترى الدكتورة آصلي أودمان أن العنف ضد النساء في تركيا لا يقتصر على العنف المنزلي بل يمتد إلى مواقع العمل وسلاسل التوريد العالمية، والنظام السياسي يستخدم جسد المرأة كأداة في "حرب ثقافية" تخفي الصراع الطبقي.

أليف آكجول

إسطنبول ـ في تركيا، يواصل النظام الحاكم سياساته التي تسعى إلى حبس المرأة داخل إطار "العائلة" وإقصائها عن الحياة العامة، فيما يُفرض على العاملات واقع قاسٍ يقوم على العمل بلا ضمانات، خارج نطاق القانون، وفي ظروف أقرب إلى العبودية.

بينما يُطمس دور النساء ويُجعل عملهن غير مرئي، تتفاقم الأزمة الاقتصادية والظلم الاجتماعي، لتكون النساء هن الأكثر تضرراً من الفقر.

 

"الجريمة تتحول إلى قوة عبر استغلال النساء"

خلال الأشهر العشرة الأولى من العام الجاري، فقد 1,737 عاملاً حياتهم في حوادث العمل، بينهم 114 امرأة وفق ما نُشر في وسائل الإعلام. وفي هذا السياق، أكدت عضوة جمعية الصحة والسلامة العمالية، الدكتورة آصلي أودمان، أن العنف ضد المرأة لا يقتصر على العنف المنزلي أو الاعتداءات الجسدية، بل يمتد ليشمل العنف البنيوي الذي تتعرض له العاملات في مواقع العمل. مشيرةً إلى أن معاناة النساء في سوق العمل جزء لا يتجزأ من أشكال العنف الممنهج ضدهن.

وترى أن الضغوط التي تواجهها العاملات، سواء في بيئة العمل أو في تفاصيل حياتهن اليومية، ليست مجرد ممارسات عابرة، بل تُستخدم كأداة منهجية للحفاظ على استمرار "الأدوار الجندرية" المفروضة اجتماعياً. وفي تقييمها، شددت على أن العاملات يُبقين بشكل دائم داخل دائرة ضغط ممنهج، تُحكم قبضتها عليهن لضمان استمرار هذا النظام غير العادل.

وأشارت آصلي أودمان إلى أن العنف القائم على النوع الاجتماعي، أي الموجّه ضد النساء، يمتد ليشمل أيضاً بُعداً مرتبطاً بحوادث العمل وسلامة العمال، حيث يتخذ هذا العنف شكلاً جندرياً واضحاً. فالأدوار الاجتماعية المفروضة على أساس الجنس لا يمكن أن تستمر إلا عبر محاصرة النساء بأشكال متعددة من العنف، لتظل حياتهن محاطة بقيود ممنهجة.

وأكدت أن العنف في أماكن العمل يمثل صورة مصغّرة من العنف في النظام الرأسمالي، حيث يُعاد إنتاج التمييز من خلال "تأنيث العمل"، فالمرأة كثيراً ما تُجبر على العمل دون أجر، ويُنظر إلى جهدها باعتباره مجرد "مساهمة في الأسرة"، لا عملاً يستحق أجراً عادلاً، وهو ما يعكس عمق البنية العنيفة التي تُحاصر النساء في المجتمع والاقتصاد.

وأوضحت أن هذا النظام لا يقوم فقط على مرتكزات اقتصادية أو ثقافية، بل يُبنى أساساً عبر خيارات سياسية واعية ومقصودة "العنف في الشارع، العنف في مكان العمل، العنف ضد جسد المرأة، عنف الاغتصاب، عنف العلاقات، جميعها تشكّل منظومة جندرية تُحاصر المرأة وتقيّد حركتها وتمنعها من النظر خارج حدود مفروضة عليها. إن مجموع هذه الممارسات لا يمكن أن يستمر إلا من خلال ما نسمّيه بالـ "عنف النظام السياسي"، أي عبر التشريعات والسياسات التي رسّخت هذا الواقع. وبهذا، شهدنا تراجعاً واضحاً في حقوق النساء، تماماً كما حدث في حقوق العمال".

ودائرة العنف هذه لا تستهدف الفرد وحده، بل تمتد لتعيد تشكيل نظام العمل، وسياسات التمدّن، والأسرة، وعلاقات الإنتاج في آن واحد كما أوضحت "إن تداخل نظام العمل مع النظام الجندري والنظام المكاني في إطار عنف واحد هو ما يفضي في النهاية إلى إنتاج النظام السياسي".

وفي تفسيرها لأسباب تفضيل رأس المال العالمي لعمل النساء، قالت إن القضية لا تتعلق فقط برخص اليد العاملة، بل إن وضع النساء تحت ضغط دائم يخلق آلية "ترويض" يمكن لرأس المال استغلالها بشكل مستمر. مضيفةً "في مثال ديلوفاسي، لاحظنا كيف يُفضَّل أن تعمل النساء معاً في مجموعات نسائية، ويُقال 'حتى لو كانت الظروف سيئة، على الأقل تعمل النساء معاً'. إن قبضة المحافظة والبطريركية تجعل جسد المرأة أداة في دائرة العنف، عبر تحويلها إلى موضوع للرغبة، وأداة لإعادة الإنتاج، وعاملة يُنظر إليها كمن توفر الأمان داخل الأسرة لا في المجتمع، مع عرقلة حركتها الاقتصادية والاجتماعية".

 

"المرأة في قلب الرأسمالية المتسارعة"

وأفادت آصلي أودمان أن عمل النساء في سلاسل التوريد العالمية يُستغل بشكل ممنهج، حيث يُعاد إنتاجه في كل حلقة من حلقات هذه الشبكات التي تخدم كُبريات العلامات التجارية "في ظل الرأسمالية المتسارعة، كانت شركة رافيفا في ديلوفاسي تعمل بالتصنيع والتعبئة لصالح شركة أخرى، وهذه الأخيرة تنتج عطوراً لعلامات مثل Zara وLCW وH&M. وهكذا، في كل مستوى من مستويات هذه السلاسل، يُستغل العمل النسائي الأرخص ثمناً. فالسلاسل تزداد قوة كلما تجزأت، وتزداد قوة كلما ارتكبت المزيد من الانتهاكات".

ويكشف توصيفها بأن "الجريمة تتحول إلى قوة" بوضوح كيف يتداخل عمل النساء مع العنف، وانعدام الضمانات، والاستغلال "قد نتساءل، لماذا لا نشهد انفجاراً في مصانع العطور بفرنسا مثلاً؟ لكن عندما ننظر إلى مواقع العمل التي يُستغل فيها العمال المهاجرون والنساء، نجد مثلاً العمال الزراعيين الموسميين المتنقلين في إسبانيا، وهم جزء من هذه القوة العاملة العالمية غير المرئية للتشريعات الوطنية. وفي تركيا، للنزعة المحافظة أثر طويل المدى على توزيع الدخل والموارد، حيث أُنشئت أيديولوجيا تُخفي تقدّم رأس المال في الصراع الطبقي عبر تقديمه كـ "حرب ثقافية" بين متدينين وعلمانيين".

وأشارت آصلي أودمان إلى أن عمل النساء في تركيا يُهمَّش منذ البداية بشكل منهجي، حيث لا يُحتسب في الإحصاءات الرسمية ولا يُمنح التقدير الاجتماعي اللازم، مما يفسر انخفاض نسبة مشاركة النساء في سوق العمل إلى حدود 30ـ35%. مضيفةً أن فئات واسعة مثل ربات البيوت والعاملات الموسميات في الزراعة المتنقلة تُستبعد تماماً من المشهد، ليظل عمل النساء في موقع أكثر هشاشة وتهميشاً.

وبيّنت أن هذا التهميش لا يقتصر على إخفاء العمل، بل يمتد ليشمل أيضاً إخفاء العنف الذي تتعرض له النساء. مستشهدةً بحادثة انفجار مصنع الذخيرة في منطقة هندك بتركيا، لتوضيح الصورة، قائلةً إنها في البداية افترضت أن الضحايا من الرجال، لكنها فوجئت بأن عدداً كبيراً منهم نساء. موضحةً أن الإدارة بدلاً من الاستثمار في إجراءات السلامة وضعت النساء على خط الإنتاج بحجة أنهن أكثر حرصاً ودقة، وهو ما يكشف كيف يُستغل جسد المرأة في دوامة العنف والإهمال.

 

25 تشرين الثاني بين أشكال العنف وقوة مقاومة النساء

وفي اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة، يبرز سؤال جوهري مفاده هل يمكن ربط أشكال العنف المختلفة ببعضها البعض؟ لتجيب آصلي أودمان "منذ فترة طويلة نسعى إلى دراسة العلاقة بين جرائم العمل التي تطال النساء وبين جرائم قتل النساء. ففي تركيا، مع انهيار النموذج الاقتصادي القائم على الرجل كمعيل للأسرة، تراجعت الأدوار المرتبطة بالرجولة و"شرف الرجل"، هذا الانهيار يبدو مرتبطاً بزيادة العنف ضد النساء".

وترى أن خروج النساء من المنزل، حتى بشكل غير رسمي، للعمل وتوسيع مجال حركتهن، يتقاطع مع توترات اجتماعية عميقة، وهو ما يؤدي إلى تفاقم عنف الرجال ضدهن.

وذكّرت بأن 25 تشرين الثاني/نوفمبر لا يقتصر على كونه محطة لمناهضة العنف ضد المرأة، بل يمثل أيضاً رمزاً للقوة التاريخية لمقاومتها "في تركيا، سواء في الحركات البيئية أو العمالية، نجد دائماً مناضلات في الصفوف الأمامية حيثما يتحول النضال بشكل جذري. وهذا أمر لافت للغاية. ففي بلد يصعب فيه الحصول على فرص عمل، عندما تصل النساء اللواتي يعانين من أشكال متعددة من العنف إلى لحظة الانفجار، يصبح من المستحيل إيقاف الحراك".

وقالت في ختام حديثها "المرأة عبر النضال تتحرر فردياً، وتكسر قيود العنف بأشكاله المختلفة، وتحقق استقلالها. وعندما تتذوق هذه الحرية، تتحرر من الزوج، ومن نظام الأسرة التقليدي، ومن عبء رعاية الأطفال، ومن كل أشكال العنف الرمزي المفروض عليها. وهذا ما يجعلني شديدة التفاؤل".