المرأة الكردية في مسار السلام... من الأطروحة الفكرية إلى القيادة الواقعية
في عالم يتغير باستمرار، وتتقاطع فيه الفلسفة بالسياسة والتاريخ بالهوية، تنبثق القضية الكردية بوصفها مرآة حقيقية للفوضى المنظّمة التي تعيد تشكيل المعنى، فالتغيير لا يولد من الصمت، بل من الصراع والوعي والانفجار المعرفي الذي يفتح أبواباً جديدة للفهم والتحوّل.

المقال بقلم زهيدة معمو عضوة في أكاديمية الجنولوجيا ـ الشرق الأوسط
التغيير بطبيعته حالة متقلبة، وهو عملية مستمرة تتميز بالديناميكية، وتحمل في طياتها أبعاداً فلسفية وأيديولوجية. تمر الحياة بمراحل متعاقبة، وكل مرحلة تستدعي مراجعة وتصحيحاً للمسار، سواء على مستوى الفرد أو على نطاق الكون بأسره. فالإنسان، باعتباره كوناً مصغراً، يعكس التغيرات الكونية داخله أي في عقله، أفكاره، وتكوينه الجسدي. ومن هذا المنطلق، فإن التغيير ليس حالة ثابتة، بل هو خاضع لحركة الكون وقوانينه الطبيعية، كالجاذبية والدوران وغيرها، ما يجعل منه عملية متواصلة تعكس نبض الكون ذاته.
لفهم التغيير بعمق، علينا أن نتساءل: لماذا هو ضروري؟ ما الذي يميز المرحلة التي تسبق التغيير عن تلك التي تلحقه؟ وما هي الأخطاء التي دفعت إلى إعادة النظر في المسار؟ ما الأخطاء التي وقعت وكيف يمكن تصحيحها؟ وما الجذور التي أدت إلى حدوث هذا التغيير؟ وما الظروف التي دفعت إلى تبني نهج جديد لتطويره؟
اليوم، بعد مرور قرن على اتفاقية سايكس بيكو، تبرز الحاجة إلى إعادة تشكيل الإيديولوجية السائدة، وصياغة براديغما جديدة تستند إلى ما توفر من فرص لتقوية الأسس العسكرية والسياسية والاجتماعية. الهدف الأساس هو استرداد ما سُلب من المجتمع الكردي، وإنهاء الهيمنة التي سعت إلى محو هويته الثقافية والجغرافية، عبر الاحتلال، التهجير، القتل، تخريب البيئة، واستهداف المرأة، وتفريغ العقول الناشئة من جذورها المعرفية واللغوية.
ورغم محاولات الطمس الممنهجة، فإن الطريق لم ينقطع. المجتمع الكردي سار على نهج فكري واضح رسمه القائد عبد الله أوجلان، من خلال أطروحاته وإيديولوجيته المتماسكة التي رسخت البراديغما المعاصرة بالإضافة إلى المانيفستو. وبهذا، استطاع الكرد، إن لم يكن جميعهم، فغالبيتهم، أن يثبتوا جذورهم في أجزاء كردستان الأربعة وفي الشتات، محافظين على هويتهم المجتمعية وثقافتهم ولغتهم الأم.
لهذا، من الضروري إدراك ماهية التغيير، والبحث عن سبل تحقيقه، وفهم المعوقات التي تعترض طريقه. في "مانيفستو السلام والمجتمع الديمقراطي"، طرح القائد عبد الله أوجلان مجموعة من المفاهيم والمصطلحات التي تتناول العلاقة بين الكون وطريقة تفكير الإنسان، وكيفية استخدام العقل في السلوك، وتأثير العواطف على القرارات. وقد تناول في هذا السياق فيزياء الكم "الكوانتوم"، مؤكداً أن لا وجود لثوابت مطلقة، وأن كل شيء في الكون خاضع للتغيير، ويتفاعل معنا ونتفاعل معه، فكل ما هو موجود، ويتكون من ذرات، قابل لتغيير شكله ومضمونه؛ لذلك لا مكان للدوغمائية في هذا التصور.
وفي سياق الحديث عن القضية الكردية، أشار القائد أوجلان إلى مبدأ عدم اليقين في الكوانتوم، معتبراً إياه مفتاحاً لفهم تعقيدات الواقع الكردي والتحولات التي يمر بها، حيث إن عدم الثبات هو جزء من طبيعة الواقع، ومن هذا المنطلق يمكن الانطلاق نحو حلول أكثر مرونة وواقعية.
يُقاس المعنى وفقاً لحجم الفوضى، وهذا ما ينطبق تماماً على القضية الكردية، فلولا حالة الغموض العميقة وعدم الفهم الذي أحاط بها، هل كان بإمكاننا أن ننتج هذا الكم الهائل من المعنى؟ لقد تولّد معنى عظيم من رحم التعتيم والستار المسدل، وقد قمنا بتمزيق ذلك الستار.
أما عن حقيقة القائد عبد الله أوجلان، فهو الشخصية التي مزّقت الغلاف الثقافي والسياسي المفروض على الكرد، وفتح طريقاً لفهم الذات الجمعية بوضوح غير مسبوق، لقد وجهنا مشرط الفكر إلى كل جوانب الغموض التاريخي والراهن، فكان الناتج انفجاراً معرفياً هائلاً. ونحن الآن في قلب لحظة انفجار كامل للمعنى.
بهذا، بدأ القائد عبد الله أوجلان طرح عملية السلام في شباط/فبراير الماضي، داعياً إلى الانتقال نحو مرحلة جديدة من التغيير، تتسم بالعقلانية والديمقراطية، وترتكز على المبادئ التي تمسك بها الكرد والكردستانيون، تضمنت المبادرة الدعوة إلى حل حزب العمال الكردستاني، ونبذ السلاح، وفتح مسار سياسي جديد، يتأسس على قوة الفكر والإرادة.
ومن أبرز العبارات المؤثرة التي وردت في "مانيفستو السلام والمجتمع الديمقراطي" ما كتبه القائد أوجلان "المحاربون فقط هم من يستطيعون تحقيق السلام؛ فلا يمكن للقوى الأخرى أن تكون قوة للسلام"، لقد أكد أن السلام لا يصنعه العاديون، بل أولئك الذين يحملون قوة الفكر، والروح، والعاطفة. وهذا ما جسّده "درويش عفدي"، الذي لم يكن رجلاً نمطياً، بل مثّل جوهر الرجولة والعشق والكردياتية، درويش لم يكن رجلاً نمطيا كلاسيكياً، في عروقه نبضت روح الوطن، وفدى نفسه لأجل القضية، وكان رمزاً للتضحية والشغف الذي سكن جبال كردستان، ووُجد في زنازين إمرالي.
في الحقيقة المرأة بالنسبة للقائد أوجلان كما هي بالنسبة لدرويش، لقد جعل القائد أوجلان من النساء رمزاً عالمياً للكرامة والتحرر، فقد درس هوية المرأة، وناقش ماهيتها، ودعا إلى أن تتعرف النساء على ذواتهن من خلال النقاشات التي أجراها مع المناضلات في صفوف الحزب، اللواتي حملن السلاح ضمن مقاومة مشروعة، وفي الوقت ذاته طوّرن البنية التنظيمية، وساهمن بفعالية في الساحة السياسية.
واليوم، يظهر هذا الإرث جلياً في ريادة النساء الكرديات للمرحلة الحالية، والدور الفاعل الذي يقمن به في حماية الحقوق والقضية الكردية، وفي رسالته الأخيرة إلى حركة "الجنولوجيا"، تناول القائد أوجلان تحليل واقع المرأة في كردستان والشرق الأوسط، كاشفاً عن هيمنة المجتمع الذكوري، ومسلّطاً الضوء على ما ينبغي للنساء فعله لاسترداد ما سُلب منهن عبر القرون.
ينبغي تطهير هوية المرأة من رواسب المعتقدات الذكورية التي شكّلتها عبر الزمن، على المرأة أن تغوص في ذاتها، وأن تفكر بعمق في هذه الحقيقة، كما قالت فرجينيا وولف "يجب أن تمتلك المرأة غرفة تخصّها وحدها؛ يجب أن تفكر بشأن ذاتها، وأن تكون قادرة على بناء ذاتها".
يقول القائد أوجلان "أدرك جيداً مدى صعوبة أن تكوني امرأة، ومن هذا الإدراك العميق أقول من الصعب على المرأة أن تبني ذاتها بحرّية وهي تعيش داخل ثقافة ذكورية مغلقة. لكنني لا أعلم ما إذا كانت النساء يشعرن بهذا الألم الحارق أو الغضب الذي يشتعل في داخلي. وبهذا الغضب أجدّد ذاتي فكرياً كل يوم، أبحث عن حلول، وأعيش من أجل أن تنال المرأة حريتها. وهكذا يتجلى معنى الحياة عندي بواقعية واضحة. يُقال إن بعض النسويات يتساءلن، لماذا يقود رجل الحركة النسوية الكردية؟ وهن محقات في تساؤلهن. تمنّيت لو أن النساء قدن هذه الحركة. تمنّيت ذلك بصدق، لكن للأسف، لم تظهر هذه الريادة بشكل عام حتى خارج إطار الحركة الكردية. لطالما عبّرت عن رؤيتي لكيف يجب أن تكون المرأة الحرّة، وابتكرت مشاريع ونظريات لأجل ذلك. طوّرت إيديولوجياً لتحرير المرأة، وأنشأت علم الجنولوجيا، ووصلت بهذه المفاهيم إلى مستوى تنظيمي حقيقي. لقد سعيتُ جاهداً لتغيير الرجال، واعتبرت تحرير المجتمع لا يتحقق إلا من خلال النساء. فعلت ذلك لأكون طفلاً جديراً بالآلهة. أتمنى أن تُفهم حقيقتي كما هي، بصدقها وعمقها. أنا على يقين بأن المرأة ستقود مرحلة "السلام والديمقراطية" التي نسعى إلى ترسيخها. فهنّ صاحبات أكثر من نصف النجاحات التي تحققت حتى الآن".
من أبرز النقاط الملفتة في التقييم هي أن النساء في الحركة الكردية والمجتمع الكردي كنّ في طليعة من حقق الانتصارات والنجاحات، وهو ما يشكّل دافعاً قوياً لنا كنساء لأن نكون الأساس في تطوير عملية السلام، وفهم فكر القائد عبد الله أوجلان بشكل موضوعي وعميق، وتحليل أطروحاته علمياً، بما يوازن بين العقل والعاطفة.
فالدعم والنقد الذي قدّمه القائد أوجلان لا يهدف إلا إلى دفعنا نحو مزيد من التطوّر، وتوجيهنا إيديولوجياً بشكل ينسجم مع متطلبات المرحلة الراهنة، في أجزاء كردستان الأربعة، وكل مكان يتواجد فيه المجتمع الكردي.
إضافة إلى ذلك، فإن الرسالة المصوّرة التي نُشرت بعد 26 عاماً أثبتت لجميع القوى المهيمنة وللعالم أن هذا المشروع يسير بخطوات ثابتة منذ سنوات، ومبادراته واضحة وواقعية على الأرض، وبات من الجلي أن لا حل للأزمة والقضية الكردية إلا من خلال السلام والحوار، وإقامة حلقات النقاش التي تبرز فيها النساء كقوة فعّالة في صناعة هذا النجاح والانتصار.
فالنساء، بوعيهن، وكينونتهن، وأفكارهن، قد أكملن المشروع غير المكتمل الذي تحدّث عنه القائد عبد الله أوجلان، عبر مساهمتهن الرائدة في كل الساحات، السياسية والمجتمعية والتنظيمية.