بين الكلمة والصورة... المرأة اللبنانية ومسيرة البحث عن الهوية
تنسج المرأة هويتها الثقافية، لتقاوم النسيان والتهميش، ففي ظل الأزمات، يبقى الإبداع مساحةً للبحث عن المعنى وإعادة تشكيل الذاكرة الجماعية، حيث الكلمة والصورة تحفظ التاريخ وتعيد كتابته بعيداً عن زيف التأريخ.

فاديا جمعة
بيروت ـ في عالم تتعالى فيه الأسئلة عن الوجود والهوية، يبقى الفن والأدب نافذتين مشرعتين على تكوين الوعي واستمرارية الهوية الوطنية، فمن الشعر الذي يحمي الحقائق من زيف التأريخ، إلى السينما التي تمثل القصص بأدق التفاصيل، تتجسد رحلة البحث عن المعنى، حيث الإبداع يبقى مرآة للمجتمع وروحاً نابضة في مواجهة التحديات.
عندما تحلق المرأة في فضاء الثقافة والإبداع تتسع دائرة الوعي في المدى النسوي والبنية المجتمعية لأي كيان إنساني، لا بل تتراجع أيضاً القيم، كالتعصب والتمييز الجندري والعنف وعدم المساواة، فالثقافة كفيلة بتنقية الشوائب من حدود إنسانيتنا، وتنقلنا من حضيض الجهل إلى رحاب النور.
شكلت الكتابة والسينما، سبيلاً لبلورة صورة حية عن المجتمع اللبناني في ظل تصعدات خطيرة وسط الأزمات المتلاحقة، وأيضاً مع الحرب وما نجم عنها من تبعات خطيرة ما تزال إلى الآن تؤرق اللبنانيين، وبين السطور الشعرية وصور السينما، تتكامل الرواية اللبنانية المعاصرة كما تراها فناناتها، في ظل الأزمات المتلاحقة، خصوصاً وأن الفن يبقى مساحة مفتوحة للسؤال والمقاومة والبحث عن المعنى، من الأدب إلى السينما، ومن الذاكرة الفردية إلى الهوية الجماعية.
وقد شاركت الشاعرة حنان فرفور وكالتنا مقارباتها حول تأثير الفن على تشكيل الوعي، وعلى استمرارية الهوية الوطنية، وللدور المحوري الذي تلعبه النساء في الحفاظ على التراث الثقافي من خلال الكلمة والصورة.
الأدب يحمي الذاكرة الوطنية والإنسانية
حول كيفية مساهمة الأدب، وتحديداً الشعر، في تشكيل أو حفظ الهوية اللبنانية، قالت الشاعرة والأكاديمية اللبنانية حنان فرفور إنه "ثمة مقولة قد تبدو للوهلة الأولى مستهلكة وممجوجة، لكنها تحمل في عمقها الكثير من الصواب، وتعبر عن جوانب مثبتة من الحقيقة، كون الأخيرة مطمحاً فكرياً وإنسانياً صعب المنال، وأقصد هنا ما نسمعه، وما بت أؤمن به شخصياً "أن التاريخ يكتبه المنتصرون"، وبما أن الأدب غالباً تعبير صادق عن الوجدان الإنساني الفردي والجماعي، وهو نتاج الذوات الحساسة المرهفة المتأثرة والمنفعلة مع ما يحيط بها من أحداث وأنماط حياة وسلوك، يمكننا اعتبار الأدب واحداً من أصدق حوافظ الذاكرة الزمنية".
وأشارت إلى أن "الأدب يحمي الحقائق من زيف التأريخ، ويخلد الحدث انطلاقاً من انفعال الشعوب به، فيقيه من النسيان والتحريف، مقارنة بالتاريخ، فهو يحمي الذاكرة الوطنية والإنسانية في الزمن الممتد، ويشكلها ويسهم في بنائها في الزمن الحاضر".
الغربة قدر يلازم المبدعين
وعما إذا كانت كتاباتها تُشعرها بالانتماء لمكانٍ معيّن، أو أنها تكتب من "هوية متحرّكة"، توضح حنان فرفور "الشاعر يكتب دائماً من منفى ما، هو كائن داخلي يعيش في ذاته المتعددة الغامضة غربتين، واحدة عن نفسه التي يكتب ليكتشفها، وأخرى عن مجتمعه الذي يختلف عنه ويتمايز ويتمرد على الكثير من جوانبه، هذه الغربة قدر يلازم المبدعين الذين كلما نجحوا في سفرهم الداخلي كلما لامسوا الإنسان".
وأضافت "ألسنا جميعاً في النهاية واحداً بوجوه لا تحصى؟ انطلاقاً من هذا المنفى المعنوي أكتب سعياً إلى المشترك الإنساني الذي يخفّف من وطأة هذه الغربة ومرارتها، أما في فقه الجغرافيا، فإن ذاتي المتغربة في الأصل معجونة وملتصقة بهذا الجنوب الذي شكل الكثير من ملامحها، وساهم في رفد إبداعها، الجنوب هو الجذور، ومنها نمت تلك الشجرة، تسعى في الفضاءات وفي كل الاتجاهات نحو الشمس والحرية والإنسان".
تأثير الحرب والانهيار
وحول تأثير الأحداث الأخيرة في لبنان على كتابتها وما إذا تغيرت لغتها ومواضيعها وصوتها، أوضحت حنان فرفور أنها "لم تكن حرباً، كانت زلزالاً مرعباً دمّر كل شيء، وزعزع الكثير من الثوابت، وبجّل الدمار وكرسه، الحرب الممتدة على مدى عامين، كانت ولا زالت كفيلة أن تغير وجه هذا الشرق، وتعري الإنسان المعاصر في أزمته الأخلاقية، وتكشف زيفه القيمي، وهشاشة المبادئ والحقوق الإنسانية التي صدّع رأس الكوكب بها في الخمسين عاماً الأخيرة، الحرب الأخيرة فتحت الباب على مصراعيه للوحش المادي النفعي الجشع الذي ينهش في جثة الروح وفي جسد المعنى الإنساني، الوحش الذي في زمن ما بعد الحداثة يبشر بموت القيم التي نادت وسألت لأجلها المحابر والألوان والموسيقى، نعم غيرت الحرب اللغة وأعادت تعريف المعنى لأنها وضعتنا بشكل فج أمام الصراع الأزلي بين الروح والمادة، وبين الشر الذي يبدو منتصراً حتى الآن، والخير المأزوم بهزائم موجعة، فقولي ليّ كيف لن تتغير القصيدة والعالم كل العالم قد تغير؟".
وعما إذا كان دور الشاعرة أو الكاتبة تغيّر اليوم في ظل الأزمات المتكررة، أشارت إلى أنه "في هذا الصراع الدموي بين الخير والشر، بين القيم ومعناها، بين الوحش والإنسان، وفي عصر سيادة النفعية المادية والسقوط المدوي للشعارات والمسلمات الأخلاقية التي لم تكن إلا مطية للرأسمالية المتوحشة، يبدو دور الشاعر والفنان والمبدع على صعوبته، أكثر أهمية ومحورية في إعادة الثقة بكل قيم الجمال أمام التوحش وهيمنة النفعية".
المرأة ومواجهة الفكر التقليدي
وعن كونها امرأة تكتب في مجتمعٍ لا يزال يُحمّلها أدواراً تقليدية، وكيفية خوضها هذه المعركة، لفتت حنان فرفور إلى أنه "ما زال مجتمعنا مكبلاً بالكثير من العادات والتقاليد وأنماط التفكير الرجعية، وما زال يرهن عقول بنيه حتى يرضى العقل الماضوي الذي يحكم ويتحكم في مفاصل حياتنا الخاصة والعامة، والكتابة تكون مقلقة وموجعة إذا كانت فعل تحرر تواجه مثل كل حركات التغيير تحديات وصعوبات، لأنها تابوهات مقدسة، أما إن كنت تقصدين التحديات التي تواجه المرأة دون الرجل، فأعتقد أن هذا الأمر بات خلفنا إلى حد ما، فقد أثبتت المرأة اليوم جدارتها، ورفعت صوتها وانتزعت اعتراف المجتمع بها كمبدعة ومفكرة وناشطة، بعد عقود من الإنكار، التحدي الآن ليس في جنس الكتابة، إنما بمقدار مواجهتها وجرأتها في خلخلة الماضي السائد".
الحرية شرط الإبداع
وعما إذا كان ثمة شيء "نسوي" في نصّها، أو أن التصنيف يقيّدها، أوضحت حنان فرفور "الحرية شرط الإبداع الأهم، وتتطلب بالضرورة التخلص من كل الأطر والتصنيفات والمكبلات، لكن ذلك لا يعني أبداً نفي الخصوصية الجندرية عن النص، فالإبداع بصيغة المؤنث مميزاته إذ وجدت الشاعرة أخيراً صوتها الخاص، ولا يعني أيضاً التنصل من قضايا المرأة، لذا تحمل نصوصي التي تنطلق من كل ما تقدم من إيماني بالحرية، واحترامي لقضايا المرأة المهمشة والمظلومة تاريخياً، ومن بحثي الدؤوب عن صوتي الخاص، صلب المرأة الإنسان والأرض والقضية".
وعن ذاكرة الطفولة أو تراث المكان، قالت "من متطلبات الإبداع أن تخف القصدية، وتطغى العفوية، بمعنى أن ما يرد في النص عليه أن يكون وليد التداعي الحر بنسبة ما، لذا من الطبيعي أن تحمل وتحتفي نصوصي بالمكان والهوية وتسعى لتشكيلهما وفق رؤية مغايرة، بعيداً من القصدية، لأنني كما قلت مثل غيري نتاج معقد وغامض لما أنتجته الجغرافيا وما جاد به التاريخ".
هويات الشعوب المستضعفة والإبادة
وعما إذا كانت ترى نفسها ككاتبة تحفظ جزءاً من التراث الثقافي، وكيف يتمظهر ذلك في أعمالها، قالت حنان فرفور "أعتقد أن كل كاتب شاهد على العصر بالحد الأدنى، ذاكرة كما قلنا تحفظ الأحداث وتدلل على المتغيرات وتنحاز للحقيقة الانفعالية كون المشاعر خزاناً صادقاً للوجود، ألم يعترف فرويد أن الفضل فيما توصل إليه من نظريات التحليل النفسي، يعود للأدباء الأقدر على الغوص في الذات الإنسانية؟ فحينما ينفعل الشاعر مع واقعه سلباً أو إيجاباً، وحينما يكتب الحب والأرض والإنسان وحينما يحاور الوجود لا شك أنه يحفظ هذه الهوية الثقافية ويعززها، ففي زمن العولمة والقيم السائلة تغدو الكتابة الأصيلة فعل مقاومة تحافظ على فرادة الثقافة الخاصة إيماناً بأهمية التعددية في مواجهة الفردية التي تهدد هويات الشعوب المستضعفة بالإبادة والمحو".
الروح والذاكرة
ولا تفصل حنان فرفور في العمق بين الذاكرة واللغة "أعتقد أنهما سياج الوطن في مواجهة التوحش الرأسمالي الذي يهدد وجودنا الحضاري وامتدادنا التاريخي وكياننا الخاص، لذا نعم أخاف على لغتنا وذاكرتنا من التسطيح والتسفيه والتشويه، لأن عماد الوطن هو هذا الإنسان المهدد ليس من القوة المادية المفرطة، بل من خسارته، أهم ما يكفل بقاءه، الروح والذاكرة".