الهجرة قضية جيوسياسية معقدة وليبيا تدفع ثمن اختلال السياسات الدولية

في ظل تصاعد أزمات الهجرة في المنطقة، باتت ليبيا إحدى أبرز نقاط العبور والتكدس للمهاجرين، سواء النظاميين أو غير النظاميين، ما يضعها أمام تحديات إنسانية واقتصادية وأمنية وثقافية متشابكة.

ابتسام اغفير

بنغازي ـ أكدت رئيسة منظمة "نوازي للدراسات والتنمية" حنين بوشوشة، على أن غياب التشريعات الموحدة، والتناقض بين القوانين المحلية والدولية، إلى جانب التأثيرات الاجتماعية والثقافية، يجعل إدارة ملف الهجرة أكثر تحدياً.

إن تعقيدات ملف الهجرة في ليبيا، وتقاطعاته مع القوانين المحلية والدولية، فضلاً عن تأثيراته الاجتماعية والثقافية، والتحديات التي تواجه الدولة الليبية في ظل الانقسام السياسي والوضع الأمني الراهن، وضعت ليبيا في مرمى المهاجرين غير الشرعيين بحكم وضعها الأمني.

وتعقيباً على ذلك قالت رئيسة منظمة "نوازي للدراسات والتنمية" حنين بوشوشة، أن الحديث عن قضايا الهجرة معقد وشائك "تُعد الهجرة قضية عالمية وقديمة قِدم الإنسان نفسه، وفي الآونة الأخيرة، تزايد الحديث عن الهجرة، خاصة الغير نظامية، إلى جانب العديد من المصطلحات والمسميات التي تدور جميعها حول مسألة واحدة، وهي مغادرة الأشخاص لبلدهم بطرق غير رسمية أو في أوضاع غير نظامية، وقد أثارت هذه القضية بالتأكيد العديد من الملفات الأخرى المرتبطة بها، وعلى رأسها ملف الأمن القومي، سواء في دول المقصد أو في دول العبور، ولا سيما في الحالة الليبية".

وأكدت على أنه لا بد أولاً أن يتم تحديد مفهوم الهجرة، سواء كانت داخلية أو خارجية، حتى نتمكن من تناولها بوضوح واختصار، فالهجرة الخارجية هي انتقال فرد أو أفراد من دولة إلى أخرى، بينما الهجرة الداخلية تعني انتقال فرد أو أفراد من منطقة إلى أخرى داخل نفس الدولة، وتتعدد أسباب هذه الهجرة، فقد تكون اقتصادية أو أمنية أو بيئية ومناخية.

 

التحديات والأنماط والتأثيرات الاجتماعية

وأشارت إلى أن الليبيين أنفسهم قد اضطروا للهجرة إلى الخارج في أوقات مختلفة، سواء كانت هجرة قسرية بسبب الحروب أو لأغراض التعليم أو العلاج، أو الهجرة الاقتصادية، وتُبرز أن المرحلة التي مرت بها ليبيا عام 2011، أدت إلى موجة من الهجرة إلى دول مثل مصر وتونس، حيث أقام المهاجرون هناك لفترات متفاوتة، ثم عاد من عاد منهم، في إطار هجرة مؤقتة فرضتها الظروف.

وأوضحت أن الوافدين إلى ليبيا يُقسمون إلى فئتين، الأولى فئة العمالة الوافدة التي تدخل البلاد بشكل رسمي وقانوني، ويحمل أفرادها إذن دخول صادر عن الدولة، والثانية فئة المهاجرين غير النظاميين، وهنا تفضل حنين بوشوشة استخدام مصطلح "الهجرة غير النظامية"، عوضاً عن المصطلح القانوني المستخدم في ليبيا حسب القانون رقم (19)، الذي يصفها بـ "الهجرة غير المشروعة".

ولفتت إلى أن الداخلين إلى ليبيا بطريقة غير قانونية أو غير نظامية يأتون غالباً من دول الجوار مثل تونس ومصر، أو من السودان، وأحيانا من دول إفريقيا جنوب الصحراء، مثل تشاد والنيجر ومالي، حيث يتجمعون في نقاط عبور معينة، ويدخلون الأراضي الليبية عبر الجنوب، وتشير إلى إحصائية صادرة عن منظمة IOM (المنظمة الدولية للهجرة) تفيد بأن أغلب المهاجرين في أوضاع غير نظامية يدخلون عبر الجنوب الليبي.

وبحسب إحصائيات IOM لهذا العام، فإن 13% من المهاجرين الموجودين في ليبيا يتمركزون في الجنوب، بينما 53% منهم يتواجدون في المنطقة الغربية، والبقية في المنطقة الشرقية.

ونوهت حنين بوشوشة إلى أنه من بين المهاجرين من يدخلون البلاد لغرض العمل فقط، ويغادرونها متى شاءوا، إذ لديهم عائلات في بلدانهم الأصلية، وغالباً ما ينتمي هؤلاء إلى الجنسيات المصرية أو التونسية أو المغربية أو السودانية، هؤلاء برأيها لا يشكلون تهديداً على النسيج الاجتماعي الليبي.

وفي المقابل، تشير إلى فئة أخرى من المهاجرين الذين يتخذون من ليبيا نقطة عبور نحو أوروبا، وهؤلاء يتمركزون غالباً في الشريط الساحلي، خاصة في المنطقة الغربية التي تنشط فيها شبكات التهريب والاتجار بالبشر.

 

تحديات الهجرة بين السيادة الوطنية والمواثيق الدولية

وترجع حنين بوشوشة تعقيد قضية الهجرة إلى غياب التماثل القانوني بين القوانين الناظمة لها، سواء على المستوى الدولي أو الوطني، فالمغادرة بحسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية، تُعد حقاً مكفولاً لكل إنسان، لكن الدخول إلى بلد آخر يُعد امتيازاً، ويتطلب تأشيرة أو مبررات، ما يدخل في إطار السيادة الوطنية لكل دولة.

وتعتقد أن الإشكاليات بدأت تزداد بعد صعود التيارات اليمينية في أوروبا عام 2015، إذ صاحبه تغيير في السياسات العامة، وتم استخدام "القوة الناعمة" لمواجهة الهجرة، ولم يقتصر الأمر على أوروبا فقط، بل امتد إلى أمريكا، كما تجلى في خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد المهاجرين، وذوي البشرة الملونة، وأتباع الديانات الأخرى، مما أحدث تناقضاً كبيراً بين القانون الدولي لحقوق الإنسان من جهة، والخطاب السياسي والإعلامي المحلي للدول من جهة أخرى.

وأوضحت أن الحدود الشمالية لأوروبا قد "رُحّلت" فعلياً إلى السواحل الليبية، بموجب اتفاقيتين؛ الأولى مع إيطاليا في عام 2017، والثانية مع مالطا، وتجدد كل عام، بداية من حكومة الوفاق الوطني، ولاحقاً من حكومة الوحدة الوطنية، ووفقاً لهذه الاتفاقيات، تُلزم ليبيا بإعادة كل مهاجر يتم اعتراضه في البحر إلى أراضيها، ليُحتجز في مراكز الإيواء الليبية.

وتعقّب على هذه النقطة بالقول إن هذه المراكز، على الرغم من جهود ليبيا للسيطرة عليها من خلال جهاز مكافحة الهجرة، تعاني من أوجه خلل عديدة بسبب محدودية الإمكانيات، وتزايد الأعباء والتكاليف مع ازدياد عدد المهاجرين، خاصة وأن ليبيا تمر بمرحلة انتقالية، والانقسام السياسي يجعل الوضع أكثر خطورة، سواء على المهاجرين أو على ليبيا وسكانها.

 

التأثير الثقافي للهجرة غير النظامية في ليبيا

وعن التأثير الثقافي للمهاجرين غير النظاميين الذين استوطنوا الأحياء السكنية، تقول "دعينا أولاً نوضح نقطة مهمة، وهي أن الهوية الليبية ليست واحدة، بل هي جامعة ومتنوعة، وهذا ما يميز ليبيا، حيث يتعايش العرب، الأمازيغ، التبو، الطوارق، والقريت (كراغلة)، فنحن أفارقة ومن شمال إفريقيا في الوقت ذاته، وهذا التعدد الثقافي يشكل ثراءً لا تهديداً".

لكنها حذرت من أن الدول المحيطة بليبيا تشهد انفجاراً سكانياً، وقد تتحول إلى تهديد طويل المدى إذا لم تضع ليبيا سياسات ثقافية واعية، تحافظ على الهوية الجامعة، وتحمي الموروث الثقافي، وتؤسس لما تسميه "الأمن الثقافي"، كما هو الحال مع الأمن القومي والأمن الوطني.

ولفتت إلى أن مصر وتونس لم تتأثرا سلباً بالهجرات الوافدة من الدول العربية نتيجة الحروب، والسبب في ذلك يعود إلى حجم سكانهما الكبير، وتوافر سياسات ثقافية مدروسة، أما ليبيا، فهي ذات عدد سكان صغير، ومع غياب السياسات الثقافية، فإن خطر التأثير الثقافي يصبح أكبر.

 

السياسات الأمنية والهجرة بين التشريعات والتحديات الميدانية

وأكدت حنين بوشوشة على أن غياب السياسات الأمنية الواضحة ضمن الاتفاقيات الموقعة زاد من تعقيد الوضع، إضافة إلى تداخل اختصاصات الأجهزة المعنية بالهجرة، والانقسام السياسي، وتعدد القوانين، مثل قانون العمل، وقانون رقم 19، وقانون عدم التوطين لعام 2024، وقانون رقم 6 الخاص بالجنسية والإقامة، مشددةً على ضرورة وجود دليل موحد وشامل يوضح آليات التعامل مع المهاجرين.

وانتقدت القانون رقم 19 لسنة 2010، لأنه لم يُفرّق بين المهاجر كضحية أو كمخالف، في حين أن خلفياتهم مختلفة "مثلاً الأشقاء السودانيون قدموا إلى ليبيا بسبب ظروف الحرب، ويجب أن تُؤخذ تلك الخلفيات في الاعتبار، مع التأكيد على أن ليبيا ليست بلد لجوء، وهذه مسألة محورية".

ونوهت إلى أن ليبيا ليست طرفاً في اتفاقية عام 1951 الخاصة باللاجئين، لكنها طرف في اتفاقية منظمة الوحدة الإفريقية لعام 1967، التي تنص على حماية المهاجرين وطالبي اللجوء من إفريقيا، لذا، من المهم مراجعة القوانين الوطنية، وسد الثغرات، ووضع سياسات واضحة للتعامل مع الهجرة غير النظامية، وتحصين الحدود الليبية، وهو ما تعمل عليه القوات حالياً، إلى جانب ضرورة تسجيل المهاجرين، لا سيما السودانيين.

وأكدت على أن عملية حصر المهاجرين مهمة وطنية، ولا يجب أن تعتمد الدولة الليبية فيها فقط على المنظمات الدولية، بل يجب أن يكون لديها بيانات دقيقة لتتمكن من التعامل مع ما ينجم عنها من قضايا، مثل الجرائم أو دراسة الأوضاع الاجتماعية في مناطق التمركز.

 

تأنيث الهجرة والفقر

ووصفت ما أُثير في الصحف الدولية ومواقع التواصل الافتراضي مؤخراً حول ترحيل مهاجرين متهمين في أمريكا إلى ليبيا، بـ "الخطير جداً"، داعية إلى دراسته من قبل خبراء في المجالات الأمنية، الثقافية، الاقتصادية، والقانونية، لفهم الأساس القانوني لهذه الاتفاقيات، وما إذا كانت تحقق مصلحة حقيقية للدولة الليبية، مع تأكيدها أن الوضع الليبي الحالي لا يسمح باستقبال المزيد من المهاجرين في ظل الأزمات المالية التي تعاني منها مراكز الإيواء.

وأشارت إلى أن أوضاع المهاجرين والوافدين في ليبيا غير واضحة، حتى من يدخلون بتأشيرة، لا يعرفون كيفية تجديدها بعد انتهائها، منوهة إلى وجود بطاقة "حصر" في المنطقة الشرقية، لكنها لا توفر حماية قانونية كافية، رغم أنها تقدم بعض الخدمات الصحية.

وأضافت "إذا أردت حماية بلادي، فعليّ أن أحترم كرامة الإنسان الوافد إليها، لأنه لم يأتِ إلا لأسباب قاهرة، سواء كانت اقتصادية أو غير ذلك، نعم، نرى رجالاً وأطفالاً غير مصحوبين، وأحياناً كبار سن خاصة من السودان بعد الحرب الأخيرة، وهؤلاء سيعودون بمجرد عودة الأمان إلى وطنهم".

وفي ختام حديثها تطرقت حنين بوشوشة إلى "تأنيث الهجرة"، التي تُعد مسألة خطيرة جداً، خاصة في ظل تقاطعها مع "تأنيث الفقر"، فكلما ارتفعت معدلات الفقر في إفريقيا، زادت هجرة النساء، مما أحدث خللاً واضحاً في النمط التقليدي للهجرة، التي كانت تقتصر على الشباب والرجال، الآن، أصبحت النساء أكثر عرضة للمخاطر، ويعملن في أعمال رعائية دون حماية، ويتحملن مسؤولية إعالة أسرهن، مما يستدعي توفير الحماية الكاملة لهن ولأطفالهن، باعتبارهم الفئات الأكثر تهميشاً.