طلبة الثانوية العامة في غزة... بين حلم طال انتظاره وحرب دمرت كل شيء
في خضم حربٍ استمرت لمدة ما يقارب عام وثلاثة أشهر، وقف طلبة الثانوية العامة في قطاع غزة عند مفترقٍ مصيري، يتحدّون غياب المنظومة التعليمية والنزوح القسري ليخوضوا معركةً مزدوجة من أجل تحقيق حلمهم تحت وطأة المستحيل.
نغم كراجة
غزة ـ في ظل الحروب والأزمات، يبقى التعليم أحد الأحلام الأكثر صعوبةً في تحقيقها، خصوصاً في المناطق التي تعاني من ويلات القصف والنزوح، وفي قطاع غزة حرم طلبة الثانوية العامة منذ ما يقارب عام وثلاثة أشهر خلال الحرب من إكمال تعليمهم في مدارسهم، ومن تقديم اختباراتهم في موعدها، بسبب القصف والدمار الذي طال كل شيء، بما في ذلك المنظومة التعليمية التي باتت شبه غائبة تماماً.
منذ بداية الحرب التي اندلعت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، لم يتمكن الطلبة من استئناف الدراسة بشكل منتظم، ومع غياب الأمن وانعدام الموارد وتعطل البنية التحتية، أصبح الحديث عن التعليم رفاهية في نظر البعض، لكنه في الواقع معركة يخوضها طلاب غزة وأسرهم بكل ما يملكون، ومن أحد أبرز هذه الأسر هي أسرة أنعام سلمان، التي تُجسد قصة صمودٍ وأملٍ في مواجهة الظروف المستحيلة، بينما تحاول بكل ما أوتيت أن تدعم ابنتها المتفوقة رهف سليمان لتخوض امتحانات الثانوية العامة رغم كل ما يحيط بهما من دمار.
أحلام مهددة وسط الرماد
"أملي الوحيد كان أن أرى ابنتي رهف سليمان تقدم امتحانات الثانوية العامة، وكنا نحلم بأن تحقق معدلاً عالياً وتلتحق بكلية الطب لكن الحرب لم تترك لنا مجالاً للحلم، بل حتى الأمل صار معجزة"، بهذه الكلمات بدأت أنعام سلمان حديثها، وهي تجلس في زاوية خيمة بالكاد تقيها وأسرتها من برد الشتاء، مضيفةً وعيناها ترنو إلى الكتب القليلة التي تمكنت من تجميعها "منذ أكثر من عام والحرب تأكل أحلامنا، ابنتي مثل كل طلاب الثانوية العامة، لم ترَ مدرستها، تارة نُجبر على النزوح، وتارة أخرى نفتقد الكتب والمعلمين لكنني لم أسمح لنفسي يوماً أن أستسلم".
رهف ابنة الثامنة عشر عاماً، التي كانت قد قطعت شوطاً طويلاً في دراستها، وجدت نفسها في بداية الحرب تواجه انهياراً نفسياً تاماً، حول ذلك قالت أنعام سلمان وهي ترفع إحدى الكتب المنهجية "في كل مرة كنت أراها تضع رأسها بين يديها وتقول لي (كيف يمكن أن أدرس بينما كل شيء من حولي ينهار؟) كنت أقف بجانبها لأجاوبها مهما حصل سنجد الطريق، الحلم لا يموت إذا كان لدينا إيمان به".
التعليم في ظل النزوح والدمار
وبعد أن اجتاحت الآليات الإسرائيلية المنطقة التي كانت تعيش فيها الأسرة قبل ثلاثة أشهر، أجبروا على النزوح تاركين خلفهم كل شيء، بما في ذلك الكتب الدراسية التي جمعتها أنعام سلمان بصعوبة "عندما بدأ القصف، لم يكن لدينا وقت لشيء، كنا نحاول الهروب، نركض بحثاً عن مكان آمن، تركنا خلفنا كتب رهف سليمان التي كنا قد اشتريناها بثمنٍ باهظ، وتوسلنا كي نجدها بعد ذلك بين الركام، لكننا لم نستطع".
في المخيم الذي لجأت إليه العائلة، بدأت رحلة أخرى من المعاناة، وهو البحث عن الكتب الدراسية مرة أخرى، فكانت أنعام سلمان تمشي بين الخيام تسأل "من لديه كتب للثانوية العامة؟ هل يمكن أن أحصل على ملخصات؟"، مضيفةً "كنت أشعر أنني أبحث عن إبرة في كومة قش، لكنني كنت على الإصرار إذا توقفت، فكيف ستكمل ابنتي دراستها، تمكنتُ من جمع عدد قليل من الكتب، لكن النقص كان واضحاً".
وبينت أنه لم يكن أمامها سوى كتابة باقي المحتوى بيدها "كتبتُ مئات الصفحات، خطاً بخط، كي أساعد ابنتي على التعلم، في بعض الأحيان كنت أقضي الليل كله أنسخ كتاباً أو أكتب ملاحظات، كل هذا من أجل أن أرى ابنتي تستعيد الأمل".
غياب المنظومة التعليمية وتحديات المنصات الإلكترونية
الحرب لم تكن العائق الوحيد أمام طلاب الثانوية العامة، فحتى مع بدء المنصات الإلكترونية التي أطلقتها وزارة التربية والتعليم، كانت هناك تحديات كبيرة تواجه الطلاب وأسرهم، من ضعف البنية التحتية للإنترنت، إلى انقطاع الكهرباء المستمر، كانت الرحلة إلى استكمال المنهاج الدراسي أشبه بالمستحيل.
ورغم كل هذه الظروف، اضطرت رهف سليمان، كغيرها من الطلبة، إلى الاستعداد للامتحانات في مهلة زمنية لم تتجاوز خمسة أشهر، وهي مدة غير كافية لاستيعاب المناهج التعليمية بشكل كامل "خمسة أشهر ليست شيئاً، كيف يمكن أن يستوعب طالب هذا الكم من الدروس وهو يعيش في خيمة، لكننا نحاول، وهذا كل ما يمكننا فعله".
لجأت العديد من العائلات إلى إنشاء خيام تعليمية صغيرة كبديل عن المدارس المغلقة، وتروي أنعام سلمان وهي تشير إلى إحدى زوايا خيمتها "هذه الخيمة أصبحت مدرستنا، هنا نضع الكتب، وهنا تدرس رهف سليمان، أحياناً يجتمع معها طلاب آخرون ليراجعوا الدروس معاً".
واستمرت في البحث عن معلمين لمساعدة ابنتها على مراجعة المواد الأساسية "كان من الصعب العثور على معلمين، لكننا وجدنا بعضهم ممن تطوعوا لدعم الطلاب في هذه الظروف".
مع اقتراب موعد الامتحانات في شباط/فبراير المقبل، يعيش طلاب الثانوية العامة وأسرهم حالة من القلق والتوتر "ابنتي ستدخل الامتحانات، لكنها ستدخلها بحلم أكبر من الامتحان نفسه، حلم أن تعود الحياة لطبيعتها، هذه ليست مجرد اختبارات دراسية، بل معركة لإثبات أننا ما زلنا أحياء، وما زلنا نحلم".
صمود الأمهات... قصص من نور
وفي ختام حديثها، قالت أنعام سلمان "الأم هي من تصنع الأمل، نحن هنا ليس فقط لنكون أمهات، لنكون أيضاً الدرع الذي يحمي أبنائنا، هذه الحرب أخذت منا كل شيء، لكنها لن تأخذ منا إصرارنا، ابنتي رهف سليمان ستقدم الامتحانات، وستحقق حلمها، ولن يستطيع أحد أن يمنعنا من رؤية هذا اليوم".
هذه كلمات تختصر قصة آلاف الأمهات في غزة اللاتي تحاربن من أجل أبنائهن وبناتهن، ويثبتن أن الأمل يمكن أن يولد حتى من تحت الأنقاض، وبينما تستعد رهف سليمان وزملاؤها لخوض الامتحانات في ظروف أشبه بالمستحيل، يبقى صمود الأمهات وشجاعتهن نوراً يضيء الطريق نحو المستقبل.