زواج القاصرات في غزة... واقع مأساوي بين الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وغياب القانون
أكدت الأخصائية الاجتماعية والنفسية في غزة ريهام لبد، أن زواج القاصرات لا ينهي المعاناة بل يضاعفها ويجعل الفتيات الصغيرات ضحية للقرارات المجتمعية التي تغلبت على مصلحتهن الشخصية، ويواجهن معارك في الحرمان والفقدان والعنف بأشكاله.
نغم كراجة
غزة ـ في ظل الحرب الدائرة وتفاقم الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، باتت قضية زواج القاصرات أكثر بروزاً وإلحاحاً، متجسدة في قصص مأساوية لفتيات فقدن طفولتهن وأحلامهن في سبيل ما وصفه البعض بـ "الحلول الاجتماعية"، بينما هو في الحقيقة امتداد لدوامة العنف والفقر والقهر.
قصص من الواقع... وجوه للمعاناة والصمت
سمية الراعي، اسم مستعار لفتاة لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها، تروي قصتها بصوت متقطع مليء بالخذلان "ظننت أن الزواج سيحميني من أهوال النزوح، لكني وجدت نفسي في سجن جديد"، تزوجت أثناء الحرب، بعدما أقنع أهلها أنفسهم بأن تزويجها هو الخيار الأفضل لضمان حمايتها وتخفيف الأعباء الاقتصادية عن الأسرة، لكن واقعها كان أبعد ما يكون عن الأمان.
فمنذ بداية زواجها، تعرضت للتعنيف الجسدي واللفظي بشكل يومي، حيث تروي عن تلك الفترة "لم يكن يمر يوم دون صراخ أو ضرب حتى الجيران النازحين كانوا يسمعون كل شيء، ولم يجرؤ أحد على التدخل"، لم تستطع الصبر طويلاً، وبعد عدة أشهر فقط، لجأت إلى الطلاق، محاولة الفرار من دائرة العنف، إلا أن ما واجهته بعد الطلاق لم يكن أقل قسوة حيث دخلت في حالة من العزلة والاكتئاب، فاقدة الثقة بمن حولها.
هدى علي، فتاة في السادسة عشرة من عمرها، أُجبرت على الزواج بدافع الظروف الاقتصادية القاسية التي تعاني منها أسرتها "قالوا لي إن الزواج سيخفف عنهم العبء، لكنهم لم يسألوني إن كنت أتحمل هذا العبء الجديد"، هكذا وصفت بداية قصتها.
ولم يكن زوجها، الذي يكبرها بخمسة عشر عاماً، مهيأً للتعامل مع فتاة لم يكتمل نضجها النفسي أو الجسدي "لم أكن أفهم كيف أعيش كزوجة، كان كل شيء ثقيل عليّ، من المسؤوليات المنزلية إلى التعامل مع شخص لا يراعي احتياجاتي"، ومع تزايد الخلافات اليومية، بدأت تعاني من نوبات قلق وضغوطات حادة، وشعرت أنها أصبحت محاصرة في دوامة من التوقعات التي تفوق قدرتها، ومعزولة عن مجتمع لم يمنحها الفرصة لفهم الحياة أو الاستعداد لها.
"لا أنسى تلك اللحظة التي أُجبرت فيها على القبول بزواج داخل خيمة مهترئة، كنت أشعر أنني مجرد سلعة"، نسمة القاسم، فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، وجدت نفسها عروساً رغم صغر سنها، في بيئة تفتقر لأبسط مقومات الحياة.
تعيش مع عائلة زوجها الكبيرة في خيمة صغيرة، تفتقد للخصوصية أو حتى الكرامة الإنسانية، مبينة أن "كل شيء يُسمع حتى أصوات الجدال والهمسات لا تبقى سرية، شعرت أنني محاصرة في قفص صغير لا مهرب منه"، تحملت الفتاة الصغيرة مسؤوليات فوق طاقتها، من جمع الحطب وإعداد الطعام إلى جلب المياه، بينما يعجز جسدها الصغير عن مواكبة هذه الأعباء.
لم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت نسمة القاسم حاملاً، لكن سوء التغذية والظروف المعيشية القاسية تسببت في إجهاضها في الشهر الرابع، وتصف تلك اللحظة بحرقة "شعرت أنني أفقد نفسي بالكامل، لم أعد أرى أملاً في أي شيء، تعرضت لأزمة صحية خطيرة بعد إجهاضي حيث عانيت من تبعيات نزيف لم تتمكن الإمكانيات الطبية المتاحة من إيقافه".
صوت الحقيقة وسط الفوضى
وتعمل الأخصائية الاجتماعية والنفسية ريهام لبد، ميدانياً مع العائلات النازحة في قطاع غزة، وتشرح بتفصيل ووضوح ما تعتبره أزمة اجتماعية وإنسانية تستحق الوقوف أمامها بكل جدية، وتسلط الضوء على هذه الظاهرة المؤلمة حيث قالت "زواج القاصرات ليس مجرد قضية اجتماعية إنه اضطهاد مباشر للفتيات اللواتي تجدن أنفسهن ضحايا لقرارات أسرية تهدف إلى الهروب من الفقر والعوز، دون أي اعتبار لتبعات هذه القرارات على مستقبل الفتيات".
وأوضحت أن الحرب الحالية فاقمت هذه الظاهرة بشكل غير مسبوق حيث تشير الإحصائيات السابقة إلى أن نسبة زواج القاصرات في غزة كانت تبلغ 19.3%، لكنها الآن أصبحت أعلى بكثير، ومع غياب التوثيق الرسمي بسبب الظروف، أصبح من الصعب تحديد النسبة بدقة، لافتةً إلى أن "الأهالي غالباً ما يخفون زواج بناتهم خوفاً من الوصمة المجتمعية، مما يجعل من الصعب التعامل مع هذه القضية بشكل مباشر".
وبينت ريهام لبد أن السبب الأساسي لتفاقم الظاهرة هو الوضع الاقتصادي المأساوي الذي تعيشه معظم الأسر في القطاع "اليوم، العائلات ترى الفتيات كعبء اقتصادي يجب التخلص منه، لا كأفراد لهم حقوق وأحلام، انتشار الفقر المدقع جعل الأسر تبحث عن حلول سريعة تخفف من وطأة الأوضاع، وزواج القاصرات يبدو للأسف بالنسبة لهم كخيار منطقي في ظل هذا اليأس".
وأضافت "هناك عامل آخر لا يقل أهمية، وهو انعدام الخصوصية الناتج عن التكدس في أماكن النزوح عندما تعيش العائلات في الخيام أو مراكز الإيواء، حيث تختفي الحدود بين أفراد الأسرة والمجتمع، ويشعر الأهالي بالخوف على شرف بناتهم وسمعتهم، للأسف الحل الذي يتبادر إلى أذهانهم هو تزويجهن، دون التفكير في العواقب المستقبلية لهذه الخطوة".
وسيلة للحصول على المساعدات الإغاثية
وأشارت ريهام لبد إلى أن أحد أكثر الجوانب مأساوية في هذه الظاهرة هو استغلال الأسر للأزمات الإنسانية للحصول على المساعدات الإغاثية، وتقول "معظم الرجال أصبحوا يرون في الزواج وسيلة لتأمين المساعدات الغذائية والإغاثية التي توزع فقط على المتزوجين، تصوروا حجم المأساة أن تُجبر فتاة صغيرة على الزواج من أجل الحصول على سلة غذائية أو بعض الإمدادات الأساسية، وهذا انتهاك صارخ لإنسانية الفتيات".
من خلال عملها الميداني، تحدثت ريهام لبد عن التأثير النفسي والجسدي العميق الذي يتركه زواج القاصرات على الفتيات، قائلة "الفتاة التي تُجبر على الزواج في سن مبكرة تعيش في دوامة من العنف والحرمان. فهي غالباً غير مهيأة نفسياً لتحمل أعباء الزواج ومسؤولياته. جسدها لا يكون مستعداً للحمل والولادة، مما يعرضها لمضاعفات صحية خطيرة قد تلازمها طيلة حياتها".
وأشارت إلى أن "أغلب الفتيات اللواتي عملت معهن تعانين من اضطرابات نفسية حادة مثل القلق، الاكتئاب، ونوبات الذعر، العديد منهن تخجلن من التعبير عن معاناتهن بسبب الخوف من الوصمة الاجتماعية، أو تعرضهن لمزيد من العنف من أسرهن إذا تحدثن عن مشاكلهن".
وتابعت "المشكلة أن هذه العائلات لا تدرك أن التستر على الظاهرة يزيد من تعقيداتها، الفتيات اللواتي تتزوجنّ في هذه الظروف يُحرمن من أبسط حقوقهن، مثل التعليم والصحة، وتصبحن عرضة للعنف والاستغلال دون أي وسيلة قانونية لحمايتهن".
الجانب الحقوقي والقانوني
ووفقاً للاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW) يعتبر زواج الفتيات دون سن 18 عاماً جريمة تنتهك حقوقهن الأساسية في التعليم، الصحة، الحماية من العنف، والاختيار الحر في تقرير مصيرهن.
وفي ظل غياب الرقابة الأمنية الفاعلة، وانهيار دور المحاكم الشرعية بسبب الحرب والأوضاع المعيشية القاسية في قطاع غزة، أصبحت هذه الانتهاكات تمر دون مساءلة قانونية حقيقية، فتزويج القاصرات غالباً ما يتم بعيداً عن أعين السلطات أو خارج الإطار الرسمي، مما يجعل الفتيات في حالة قانونية هشة، ويمنعهن من المطالبة بحقوقهن في حال التعرض للعنف أو الطلاق أو استغلالهن من قبل أزواجهن.
فإن غياب المحاسبة القانونية يساهم في تفشي الظاهرة، حيث يصبح المجتمع بيئة خصبة لهذه الممارسات غير المشروعة، لذا فإن تعزيز الرقابة الأمنية وتفعيل دور المحاكم الشرعية بصرامة ضد هذه الظاهرة يعد ضرورة قصوى ويتطلب ذلك إصدار تشريعات أكثر وضوحاً وصرامة، إلى جانب برامج توعية تركز على أهمية حماية حقوق الطفولة، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
الحلول المقترحة بين الأمل والواقع
وتؤمن ريهام لبد بأن الحلول ممكنة لكنها تحتاج إلى جهد مشترك ومستدام من المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني "التوعية هي الخطوة الأولى لكن التوعية وحدها ليست كافية، نحتاج إلى إنشاء نقاط إرشاد نفسي واجتماعي داخل أماكن النزوح، تقدم الدعم للفتيات وأسرهن، وتوضح لهم العواقب الوخيمة لزواج القاصرات، هذه المراكز يمكن أن تكون نقطة البداية للتخفيف من حجم المشكلة".
واقترحت أيضاً توفير برامج اقتصادية تعزز من قدرة الأسر على تلبية احتياجاتها دون اللجوء إلى تزويج بناتها "إذا استطعنا توفير فرص عمل أو مساعدات اقتصادية مستدامة للأسر، فلن يكون هناك حاجة لإجبار الفتيات على الزواج، كذلك يجب أن تكون هناك قوانين صارمة تجرّم الزواج القاصرات، مع تفعيل آليات لمتابعة تنفيذها على أرض الواقع".
الدور التعليمي... أولوية غائبة
وشددت ريهام لبد على أهمية إعادة تفعيل العملية التعليمية في قطاع غزة كجزء أساسي من الحل "غياب التعليم لأكثر من عام ونصف نتيجة الحرب جعل الفتيات تفقدن الأمل في المستقبل. عندما تسأل العائلات لماذا يزوجون بناتهم، يكون الجواب غالباً (ماذا سيفعلن إذا لم يكن هناك مدارس؟) علينا أن نعيد الأمل لهن من خلال ضمان حقهن في التعليم، مهما كانت الظروف".
ووجهت ريهام لبد نداء إلى المجتمع بأسره "زواج القاصرات ليس حلاً بل هو العنف بكل أشكاله ويفاقم المعاناة بدلاً من أن يخففها، يجب أن نعمل معاً لحماية فتياتنا، لضمان طفولة آمنة، وتعليم جيد، ومستقبل أفضل، الفتاة ليست عبئاً على أسرتها إنما عماد المجتمع، وإذا استمرينا في تهميشها وقمعها، فإننا ندمر أجيالاً كاملة".
بين قصص سمية وهدى ونسمة، تتجلى مأساة زواج القاصرات في قطاع غزة بكل أبعادها، فتيات صغيرات تدفعن ثمناً باهظاً لظروف لا يد لهن فيها، وقرارات تضعف آمالهن في حياة كريمة، يبقى الأمل معقوداً على التكاتف المجتمعي والحلول المستدامة لوقف هذه الكارثة الإنسانية "زواج القاصرات لا ينهي المعاناة، بل يضاعفها"، كما تقول ريهام لبد، ليبقى صوتها شاهداً على مأساة تستحق كل الجهود لإنهائها.