في اليوم العالمي للمرأة... نساء غزة تقفن وحيدات في مواجهة الفقر والتشرد
في يومٍ يفترض أن يكون احتفاءً بقوة المرأة، تقف نساء غزة في مواجهة قاسية مع واقع يفتقد لأبسط مقومات الحياة، حيث يستمر الألم والمعاناة بعد عام ونصف من الحرب.

نغم كراجة
غزة ـ في يوم المرأة العالمي، تُرفع الشعارات عن حقوق النساء وتمكينهن، لكن في غزة لا تزال النساء تواجهن واقعاً مريراً بعيداً عن أي احتفال، فبعد عام ونصف من الحرب لم تنتهِ معاناتهن بل ازدادت قسوة مع انقطاع مقومات الحياة الأساسية من مياه وكهرباء وغذاء، بين الفقر والحرمان والمسؤوليات الثقيلة تستمر النساء الفلسطينيات في النضال اليومي للحفاظ على أسرهن في ظل ظروف لا ترحم.
الحياة تحت خيمة ممزقة وذكريات لا تُنسى
داخل خيمة ممزقة في مخيم اليرموك وسط مدينة غزة، تعيش وفاء الرضيع منذ نزوحها القسري من بيت لاهيا، شمال القطاع في تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٤، لم تتمكن من العودة إلى منزلها المدمر بعد دخول الهدنة في 9 كانون الثاني/يناير 2025 حيث باتت المنطقة الشمالية مدمرة بالكامل.
تتحدث وفاء الرضيع وعيناها تغرقان في الدموع عن اللحظات القاسية التي مرت بها، خصوصاً في تشرين الأول/أكتوبر 2024 عندما كانت تسابق الموت للخروج من المنطقة وسط القصف الإسرائيلي العنيف "لم أصدق أنني نجوت أنا وأطفالي وزوجي المصاب من ذلك الجحيم، غادرنا تحت تهديد السلاح وسط إطلاق النار العشوائي على مداخل مراكز الإيواء، سِرنا لساعات طويلة، الدموع في أعيننا والخوف يتملك قلوبنا، لم يكن هناك وقت لحمل أي شيء، خرجنا بأجسادنا فقط، بلا ملابس، بلا أغطية، بلا ذكريات حتى".
لم تكن معاناتها فقط في النزوح ذاته، بل في كل لحظة بعدها، في مستشفى الأهلي العربي، مكثت أسبوعاً بعد إصابتها بمشاكل صدرية نتيجة الغبار الكثيف الذي أثارته الدبابات الإسرائيلية، مما زاد من معاناتها الصحية بسبب الألياف في صدرها، ومع انقطاع العلاج، تدهورت حالتها، لكنها لم تكن قادرة على توفير الدواء.
اليوم، لا تملك وفاء الرضيع سوى قطعة ملابس واحدة، أما الطعام، فتعتمد أسرتها على المعلبات التي أصبحت سبباً في أمراض جلدية وتسمم غذائي أصابها أحد أطفالها، دون أي قدرة على تلقي الرعاية الصحية.
وبينت أن "المساعدات الإغاثية تصل ولكنها قليلة، والمياه بالكاد تكفي للشرب، فكيف لي أن أغسل ملابسي أو أعتني بأبنائي؟ حتى بعد الهدنة، لا كهرباء، لا مياه، لا غذاء كافٍ، فقط المزيد من المعاناة".
أصبح زوجها الذي تعرض لجلطة دماغية، مشلولاً في أطرافه، مما زاد من أعبائها، لم تعد فقط مسؤولة عن أبنائها بل عن رجل مشلول يحتاج إلى عناية خاصة أيضاً، في ظل بيئة لا ترحم، وتقول "كنت أحمل المياه مع أبنائي خلال الحرب، واليوم أحمله وحدي بينما يبحث أبنائي عن أي طعام في مراكز الإغاثة، ظننت أن الهدنة ستعيد لنا شيئاً من الحياة، لكنها لم تفعل سوى مضاعفة الألم".
بين جحيم الفقر والخوف على الأطفال
في خيمة مفتوحة لا تقي من البرد ولا الحر، تنام مفيدة صبح وأطفالها، على الأرض دون حتى حصيرة تقيهم من البرد القارس، كل شيء في حياتها بات معاناة حتى الهواء المحمل بغبار الركام الذي يكسو يديها وقدميها "أصبحت أحلم بخيمة حقيقية تأويني وأطفالي حتى أدنى مقومات الحياة لا تتوفر لنا، لا ماء نظيف، لا غذاء كافٍ، فقط انتظار طويل في طوابير الإغاثة لأجل وجبة لا تكفي لإطعام طفلي الرضيع".
وتحاول مفيدة صبح تأمين حياة أطفالها بكل الطرق، فهي تقوم بتعبئة الماء، وتنتظر دورها في "التكية" للحصول على الطعام، وتبحث عن أي عمل لتوفير ثمن الحليب لطفلتيها، ولكن مع ذلك، تعيش في بيئة موبوءة بالفئران والحشرات التي تهاجمها وتهاجم أطفالها، مسببة لهم الأمراض الجلدية.
طفلتها ذات العام الواحد، تأكل/تمص إصبعها طيلة الوقت من شدة الجوع، بينما طفلها الآخر يمشي حافي القدمين غير قادر على تحمل الطرقات الباردة والمليئة بالركام، فقط لأن والدته لا تستطيع شراء حذاء له وسط الغلاء الفاحش.
وتقول مفيدة صبح "يتحدث العالم عن حقوق النساء، لكن أين نحن من ذلك؟ أين حقوقنا ونحن نتضور جوعاً، ونُهَان في طوابير الإغاثة؟ نعم، نجونا من القصف، لكننا لم ننجُ من هذه الحياة المذلة".
التأثير النفسي للحرب على النساء
بدورها ترى الأخصائية النفسية ريهام أبو يوسف أن الحرب التي استمرت لعام ونصف، لم تترك فقط دماراً مادياً بل دماراً نفسياً هائلاً في نفوس النساء الفلسطينيات، اللاتي تحولن من زوجات وأمهات إلى معيلات وحيدات لأسرهن في ظل ظروف معيشية قاسية.
وأضافت "الحرب قلبت حياة النساء رأساً على عقب، فقدن أزواجهن، وبيوتهن، وأصبحن يحملن أعباءً لم تكن في الحسبان، النساء في غزة لم يعدن فقط أمهات، بل طبيبات وممرضات ومعيلات، يواجهن الجوع والفقر والمرض وحدهن، دون أي دعم".
أوضاع النساء النفسية كارثية، فالكثير منهن تعانين من اكتئاب حاد، اضطرابات القلق، ونوبات الهلع، خصوصاً بعد رؤية أحبائهن يُقتلون أمام أعينهن، بعضهن أصبحن يعانين من فقدان الشهية، الأرق، والكوابيس المتكررة.
الأثر النفسي لا يقتصر على الحزن، بل امتد إلى الغضب والانفصال العاطفي عن الواقع، كثير من النساء لم يعدن قادرات على الشعور بالحياة، وكأنهن عالقات في كابوس مستمر، غير قادرات على تقبل الواقع.
وتقول ريهام أبو يوسف "تأتي إليّ نساء في مراكز الإيواء يبكين دون توقف، يسألنني: هل هذه الحياة تستحق العيش؟ كيف أستطيع الاستمرار؟ هن لا يحتجن فقط إلى طعام وشراب، بل إلى من يسمعهن، إلى من يشعر بهن، إلى من يخفف عنهن هذا الحمل الثقيل".
يوم المرأة العالمي... نساء غزة في مواجهة الحياة القاسية
في الثامن من آذار، اليوم الذي يحتفل به العالم بإنجازات النساء، تقف نساء غزة وحيدات في مواجهة الفقر والجوع والتشرد، لم يكن هذا اليوم يوماً للاحتفال، بل لتذكير العالم بمعاناة الفلسطينيات اللاتي فقدن كل شيء لكنهن لم تفقدن إرادتهن.
وأشارت ريهام أبو يوسف إلى أنه "نحن النساء في غزة لسنا مجرد أرقام في تقارير الحرب، نحن أمهات فقدن أبناءهن، وزوجات فقدن أزواجهن، ومعيلات فقدن مصادر رزقهن. نحن لم نختر هذه الحياة، لكنها فرضت علينا، ورغم ذلك، ما زلنا نقاوم".
بعد عام ونصف من الحرب، لا تزال نساء غزة تعشن ظروف قاسية في ظل غياب أبسط مقومات الحياة، ومع ذلك فإن صمودهن دليل على قوتهن، فرغم الألم لا زلن تقاوم من أجل البقاء.