الإيزيديون... تاريخ من الإنكار وصمود الهوية (2)

الإيزيديون في أرمينيا مرّوا من التهميش إلى فرص محدودة في الحقبة السوفيتية، ثم واقع هامشي بعد الاستقلال، السياسات القومية والنخب الإيزيدية كرست الفصل بين الجماعتين، مما أدى إلى تراجع الصوت الكردي وتحوله إلى أقلية صامتة.

شيلان سقزي

مركز الأخبار- بعد تناول تاريخ الإيزيديين في شنكال وتحولهم من جماعة مهمّشة إلى قوة ذات هوية سياسية، ننتقل في الجزء الثاني إلى الإيزيديين في القوقاز خصوصاً في أرمينيا، هنا تكشف دراسة التعقيدات التاريخية والثقافية والسياسية كيف ساهمت إعادة تعريف الهوية وسياسات الدولة والتجربة المشتركة في رسم مسار مختلف، حيث لعبت ذاكرة الضحية والنضال من أجل البقاء دوراً في بلورة ثنائيات الهوية والسياسة بين الكرد الإيزيديين، حيث يمثل وجود ودور الكرد القوقازيين في الفترات التاريخية الثلاث ما قبل الاشتراكية، والسوفييتية، وما بعد السوفييتية تفاعلات سياسية وثقافية وديموغرافية معقدة.
 

كرد القوقاز... من الحكم الذاتي إلى التهميش السياسي

1 ـ ما قبل الاشتراكية حتى عام 1920

سكن الكرد منذ زمن بعيد المناطق الحدودية بين شرق الأناضول وجنوب القوقاز وشمال بلاد ما بين النهرين، وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ونتيجة الظروف الأمنية والهجرة القسرية والاقتصادية والعسكرية نقلوا إلى جنوب القوقاز من قبل الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، لتتشكل لاحقاً قرى كردية في لاتشين، زنجيزور، كاراباخ، نخجوان وأجزاء من شرق أرمينيا، كما هاجر الإيزيديون وهم جزء من المجتمع الكردي إلى القوقاز نتيجة الضغوط الدينية العثمانية، وفي ظل الإمبراطورية الروسية القيصرية بقيت الهوية الكردية محصورة في إطار العشيرة والدين واللغة دون أي مؤسسات سياسية مستقلة، ومع ذلك لعب الزعماء المحليون والخانات والشيوخ دوراً شبه مستقل في غياب الدولة القومية، فشكّلوا هياكل للتنظيم الذاتي وضمان البقاء.

حظي المجتمع الإيزيدي بدعم نسبي من روسيا القيصرية، إذ صُنّفوا كـ "مجتمع غير مسلم" واستُخدموا في خدمة أهدافها ضد النفوذ العثماني، لكن دون دور سياسي منظم في تلك الفترة حيث لم تتوفر مؤسسات تعليمية أو إعلامية باللغة الكردية في جنوب القوقاز واقتصر استخدامها على المجالات الشفهية مثل القصص والدين والشعر، ضعف القراءة والكتابة وغياب الكتابة الرسمية والمؤسسات الثقافية أضعف الوعي الجماعي الكردي، رغم وجود أنشطة ثقافية محدودة ودروس كردية غير رسمية في يريفان وتبليسي بين عامي 1918 و1919.

كانت مرحلة ما قبل الاشتراكية بالنسبة لكرد القوقاز فترة تهميش سياسي واستعمار قيصري وهندسة سكانية أدت إلى تفتيت المجتمع وإقصائه من معادلات القوة، لم تعترف روسيا القيصرية بالهوية الكردية ولم يتمكن الكرد بسبب بنيتهم العشائرية والدينية واللغوية من تشكيل وحدة سياسية لكن هجرة بعض المتعلمين إلى باكو وتبليسي وتواصلهم مع الاشتراكيين والبلاشفة أسست لنخب كردية جديدة، ولعبت لاحقاً في الحقبة السوفيتية دوراً بارزاً بدعم الشيوعية، عبر تأسيس "جمهورية النجمة الحمراء" ونشر الصحف، هذه النخب كانت نتاج التفاعل الثقافي في مدن القوقاز أكثر من كونها امتداداً للمجتمع التقليدي، ومن أبرز رموزها عرب شمو، أول روائي كردي في الاتحاد السوفييتي.
 

2 ـ الحقبة السوفيتية 1920–1991

مع انهيار الإمبراطورية الروسية وصعود الحكم البلشفي، تغيّر المشهد الجيوسياسي في القوقاز، ودخل الكرد مرحلة جديدة من "المواطنة الثقافية" ضمن سياسات الاتحاد السوفيتي، ففي عشرينات القرن الماضي وفرت سياسة "كورنيزاتسيا" (التوطين) فرصة غير مسبوقة لكرد أرمينيا لإبراز هويتهم، بعد تهميشهم في الحقبة القيصرية، أنشئت عشرات المدارس الكردية، وصدرت صحف مثل (روزا كرد)، (ريا تازه) التي أصبحت ركيزة لتطور اللغة الكردية، كما لعبت إذاعة يريفان الكردية دوراً محورياً في نشر الأدب واللغة الكردية، وفي إطار دعم الحزب الشيوعي تأسس "اتحاد الكتاب الكرد" عام 1932، وأُنشئ أول مسرح حكومي كردي في ألاغياز، ونُشرت أول رواية كردية عام 1935 ما مثّل خطوة تاريخية في الأدب الكردي المكتوب.

خلال هذه المرحلة، أسهمت شخصيات بارزة مثل (رومان أمويان، أمين أودال، عرب شاملوف، فاريك بولادبيكوف، إيرم سيليان، جليل جليل) في تأسيس الأبجدية الكردية السيريلية، لكن هذا الازدهار توقف عام 1937 مع صعود الستالينية وحملات التطهير، حيث رُحّل مئات الكرد من أرمينيا وأذربيجان وجورجيا إلى آسيا الوسطى وأُغلقت الأنشطة الثقافية، وبعد وفاة ستالين عام 1953 شهد عهد خروتشوف إحياءً محدوداً للأنشطة الكردية، لكنه لم يبلغ مستوى التنظيم والحماس الذي عرفته ثلاثينيات القرن العشرين، وهكذا اتسمت هذه الحقبة بازدواجية معقدة من جهة وفّرت فرصاً غير مسبوقة للتعليم والنشر والإعلام، ومن جهة أخرى فرضت قمعاً ممنهجاً ونفياً للنخب الكردية، فسياسة "كورنيزاتسيا" رغم ظاهرها الداعم للأقليات، كانت في جوهرها أداة للسيطرة الثقافية وتعزيز الهيمنة الروسية عبر اللغة والتعليم والإعلام، ما يجعل الازدهار المؤقت انعكاساً لأهداف خفية أكثر منه مكسباً مستداماً.


3– حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي 1991-2025

لم يكن انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 مجرد نهاية لنظام عالمي، بل بداية مرحلة من عدم الاستقرار في الجمهوريات المستقلة حديثًا مثل أرمينيا، بالنسبة للكرد مثّل ذلك انهيار نظام المحسوبية السوفيتية ونهاية سياسات التوطين، ليجدوا أنفسهم في وضع هامشي ومضطرب مع تشكّل الدول القومية الجديدة، منذ أواخر الثمانينيات وحتى مطلع الألفية، ومع تصاعد التوترات العرقية وحرب كاراباخ الأولى هاجر الكثير من الكرد من أرمينيا إلى روسيا وأذربيجان وآسيا الوسطى تحت ضغوط اجتماعية وسياسية وأمنية، في المقابل بقيت شريحة كبيرة من الإيزيديين بحكم روابطهم الثقافية والدينية في أرمينيا وشاركوا في القتال إلى جانب قواتها في حرب كاراباخ.

يعيش الكرد المتبقون في أرمينيا اليوم في مقاطعة أراغاتسوتن غرب أرمينيا، خاصةً حول قرى أرمافير، أرارات، تالين، أباران، وكوتايك، إضافةً إلى يريفان والمناطق الجبلية في ألغي، لكن بخلاف الحقبة السوفيتية التي اتسمت بكثافة سكانية وتنظيم مؤسسي، يعانون الآن من التشتت وضعف التماسك وغياب سياسة ثقافية واضحة.

اليوم يشارك الكرد في يريفان عبر جمعيات ومنظمات عامة مثل مجلس الشعب الكردي، لجنة كردستان 1990، مجلس المثقفين، مجلس الصداقة الأرمنية الكردية، والاتحاد الوطني الإيزيدي، إضافةً إلى حركة المرأة الكردية الحرة. كما تصدر صحيفة "ريا تازه" ومجلة "زاغروس"، وتبث قناة "تشيرا تي في" برامج دينية وثقافية، وتُدرّس الدراسات الكردية في جامعة يريفان. ورغم هذه الأنشطة، تعكس المرحلة الراهنة تهميشاً ممنهجاً للكرد في أرمينيا، حيث تكرّس السياسات القومية والقيود الهيكلية والهجرة والاندماج الإيزيدي في المجتمع الأرمني واقعاً أقرب إلى الخضوع الثقافي منه إلى التعايش، فيما تبقى هذه الرموز الثقافية مجرد عزاء رمزي لغياب التماسك المؤسسي وإعادة بناء الهوية الكردية.
 

شنكال ويريفان مهدان لهوية المجتمع الإيزيدي

منذ تسعينيات القرن الماضي، ومع اعتماد دستور جديد في أرمينيا، خُصصت حصص برلمانية للأقليات، بينها مقعدان لكرد الإيزيديين تحت مسمى "الأقلية الدينية والثقافية الإيزيدية" هذا الفصل في التمثيل يعكس سياسة هوية تهدف إلى إدارة الأقليات وإضعاف الصوت الكردي، كما ساهمت فيه النخب الإيزيدية وضعف التنظيم الكردي، وبذلك أصبح التمييز لتداخل ثلاثة عوامل وهي بناء الدولة القومية والأرمنية، خطاب الذات الإيزيدي، ضعف البنية السياسية الكردية، مما أدى إلى مأسسة الفصل وقبوله من الدولة والمجتمع الإيزيدي معاً.

سعياً وراء التعديلات السياسية والهوية العرقية، اعترفت الحكومة في أرمينيا بالإيزيديين كجماعة منفصلة عن الكرد مستفيدة من هذا الفصل لتعزيز سيطرتها، في المقابل يرى الكثير من القادة الإيزيديين أنفسهم جماعة مستقلة لأسباب تاريخية وثقافية ودينية، ويسعون لتأكيد هذا التمييز في البرلمان والإعلام والتعليم، هذا الموقف يذكّر بميل بعض الإيزيديين في شنكال قبل هجوم داعش، وكذلك بجزء من مجتمع يارسان في شرق كردستان الذي يفضّل الهوية الدينية على الانتماء الكردي، وبمعنى آخر فإن فصل الكرد عن الإيزيديين في التشريعات الأرمنية لا يعكس اعترافاً بالهوية الكردية، بل يكرّس انقساماً مؤسسياً يعيد تعريفها بشكل مُسيطر وغير سياسي، ونتيجة لذلك تراجع الصوت الكردي في المجال العام، ليُقدَّم الكرد كأقلية ثقافية ـ دينية صامتة بدلاً من فاعل سياسي.

في ظل غياب استراتيجية واضحة من النخبة الكردية وضعف التماسك بين الكرد الإيزيديين، تراجعت الهوية الجماعية تدريجياً لتقتصر على الطقوس الدينية، بعدما كانت حاضرة في الإعلام والثقافة عبر إذاعة يريفان، ما تبقى للجزء الخامس من كردستان في أرمينيا هو وضع هامشي غير مؤكد، يحتاج إلى تدخل سياسي جريء وإعادة بناء المؤسسات الثقافية ونقد داخلي، وإلا ستتحول التجربة إلى جرح صامت في الذاكرة الكردية ومع صعود الهوية القومية الأرمنية بعد أزمة كاراباخ، تعزز التماسك الأرمني على حساب الأقليات، فتركزت أولويات الدولة على الأمن القومي وإعادة إنتاج خطابها القومي، ما أدى إلى تراجع المشاركة السياسية للكرد، و تقلص عدد مؤسساتهم الثقافية، وضعف حضورهم في الإعلام وصنع القرار حتى اختفى تقريباً.
 

أصل مشترك، مسارات مختلفة

مسألة تعريف بعض الإيزيديين أنفسهم كجماعة منفصلة عن الكرد أو تفضيلهم الهوية الدينية على القومية الكردية هي قضية معقدة ومتعددة الأبعاد مرتبطة بالتاريخ والسياسة والتمثيلات الإعلامية الحديثة، تاريخياً أعتُبر الإيزيديون جزءاً من المجتمع الكردي كما ورد في النصوص العثمانية والصفوية، لكن سلسلة من الهجمات والإبادات بدءاً من الدولة العثمانية وصولاً إلى الجماعات المتطرفة عززت شعورهم بالإقصاء، في الذاكرة الجماعية الإيزيدية، تُسجَّل هذه المجازر كـ"فرمانات"، أبرزها الفرمان 74 الذي أصدره داعش عام 2014.

بعد فرمان 2014، أعادت بعض القوى الإيزيدية في شنكال وأرمينيا تعريف الهوية الإيزيدية كهوية مستقلة عن الكردية، غالباً في معارضة للأحزاب الكردية، خصوصاً الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي، ويعود ذلك إلى شعورهم بالخيانة أو الإهمال في لحظات مصيرية، مثل انسحاب البيشمركة من شنكال أثناء هجوم داعش.

بعد الاستقلال اتجهت أرمينيا، مثل باقي دول ما بعد الاتحاد السوفيتي إلى بناء الدولة على أساس القومية المسيحية الأرمنية الأرثوذكسية، في هذا السياق جرى التعامل مع الأقليات وفق حقوق دينية وثقافية لا قومية، فاعتراف بالإيزيديين كـ"أقلية دينية وثقافية" لا كجزء من الأمة الكردية، ونتيجة لذلك بُنيت معابد إيزيدية في أرمافير قرب يريفان وبُثّت برامج دينية عبر التلفزيون، وأُقر يوم وطني للإيزيديين، لكن لم تُنشأ آلية مستقلة لتمثيل الكرد سياسياً في الهياكل الرسمية.

من جهة أخرى فضّلت النخب الإيزيدية في أرمينيا التأكيد على الهوية الثقافية والدينية بدل الهوية القومية الكردية، خوفاً من الارتباط بالحركات الكردية في جميع أجزاء كردستان، وما قد يثيره ذلك من حساسية لدى الحكومة الأرمنية ونتيجة لذلك ساهمت سياسات الدولة وخيارات الإيزيديين أنفسهم في تكريس الفصل بين الإيزيديين والكرد وتهميش المطالب السياسية ذات الطابع القومي.

في سوريا والعراق، استُخدم التمييز بين الإيزيديين والكرد أداةً لتقويض مشاريع الحكم الذاتي الكردي، وروّجت بعض وسائل الإعلام العربية والتركية والفارسية لهذا الفصل لتقسيم الحركة الكردية، في المقابل ساهمت مؤسسات إعلامية كردية في سوء الفهم عبر تجاهل خصوصية المجتمع الإيزيدي وتعميم الهوية الكردية، لكن القول بانفصال جميع الإيزيديين عن الكرد مبالغة ناتجة عن تغطية إعلامية منحازة من حكومات الأجزاء المختلفة من كردستان.

رغم اختلاف المجتمعين الإيزيديين في أرمينيا وشنكال من حيث الجغرافيا والسياسة، إلا أن كليهما يشترك في سرديات الضحايا وسياسات الهوية وصراعات داخلية، وقد عززت الذاكرة المشتركة للإبادات مثل الفرمان 74 وهجوم داعش عام 2014، تماسكاً هوياتياً، ففي شنكال سعى بعض الإيزيديين إلى بناء حكم ذاتي مستقل، بينما في أرمينيا ركز قادة إيزيديون على إبراز خصوصيتهم عبر دعم الحكومة والاستفادة من الحصة الانتخابية المخصصة لهم.

وفي كلا المجتمعين، أفرزت ثنائيات مثل الإيزيدي/الكردي والديني/القومي والمحافظ/اليساري انقسامات داخلية، في أرمينيا، ويرى المثقفون الكرد أن الفصل بين الإيزيديين والكرد خطوة سياسية مصطنعة، ويطالبون بحصة مشتركة "للكرد"، بينما تميل الحكومة إلى التعامل مع الأقليات كجماعات ثقافية دينية لا قومية، في المقابل اختار جزء من المجتمع الإيزيدي إبراز التمييز بين الهوية والديانة، ما جعل تخصيص حصة منفصلة لهم نتيجة طبيعية لهذه الثنائية.