الإيزيديون... تاريخ من الإنكار وصمود الهوية (1)

على الرغم من الاعتراف التاريخي بالإيزيديين، يعكس الواقع المعاصر تبايناً في الهوية بفعل ضغوط خارجية، بينها التطرف الديني، وضعف التمثيل الداخلي، ما أعاد إنتاج مظاهر التهميش رغم أصالتهم في البنية الكردية.

شيلان سقزي

مركز الأخبار– يُشكل الإيزيديون في شنكال ويريفان مكوّناً أصيلاً ومتجذراً من مكونات الأمة الكردية، إلا أن الخطاب السياسي والهوياتي المعاصر غالباً ما يضعهم في موقع التهميش أو الفصل عن الجسد الكردي بوصفهم "آخراً مؤمناً"، ولا يرتبط هذا الواقع فقط بتاريخ الإبادة الجماعية والإقصاء وانعدام الجنسية المستمر، بل يكشف أيضاً عن قصور فكري داخل الحركات الكردية في صياغة هوية جماعية شاملة ومتعددة، ورغم أن المصادر العثمانية والصفوية والنصوص القومية الحديثة اعتبرت الإيزيديين جزءاً من المجتمع الكردي، فإن الضغوط الخارجية مثل الإسلاموية المتطرفة، إلى جانب ضعف التمثيل والدعم الداخلي، أدت إلى بروز تباينات في الهوية.

 إعادة تعريف الهوية الكردية تقتضي إدراج الإيزيديين باعتبارهم عنصراً مؤسساً ومقاوماً وحافظاً للذاكرة التاريخية، إذ لا يمكن لأي سرد جامع للهوية الكردية أن يكتمل من دون شنكال الجريحة ويريفان المنفية.

في هذا القسم من التقرير سنعرض تاريخ الإيزيديين في شنكال، مع إبراز مسار تحوّلهم من جماعة دينية قائمة على معتقداتها إلى قوة اجتماعية وسياسية ذات هوية ناشئة ومرنة، وكيف ساهمت التجارب التاريخية الخارجية في إعادة تشكيل مواقع الإيزيديين داخل المشهد الكردي والإقليمي، بحيث لم يعودوا مجرد جماعة إيمانية، بل أصبحوا فاعلاً يحمل مشروعاً سياسياً ويطالب بالتمثيل والاعتراف.
 

المجتمع الإيزيدي في شنكال من العزلة إلى التنظيم الذاتي  

إن وجود ودور المجتمع الإيزيدي في شنكال شمال كردستان في خمس فترات تاريخية قبل الإسلام، وفترة مشاريع التطهير من قبل الخلافة العثمانية حتى القرن العشرين، وفترة الاندماج في بناء الدولة العراقية، وفترة المصير السياسي للإيزيديين في شنكال بعد عام 2003، وفترة الإبادة الجماعية عام 2014، ووحدات المقاومة، تشير إلى أن الإيزيديين كانوا دائماً منخرطين في الصراع بين الإقصاء والبقاء، والرفض والتنظيم الذاتي، والتهميش والمركزية، وتحولوا الآن من مجتمع قائم على معتقداتهم إلى قوة صامدة ذات هوية سياسية ناشئة.
 

قصة إيزيدي شنكال قبل الإسلام وبعده

يعد المجتمع الإيزيدي من أقدم الجماعات في غرب آسيا، وقد حافظ على وجود مستقر ومنظّم في بلاد الرافدين وجبال شنكال، قبل ظهور الإسلام كان معتقد الإيزيديين مزيجاً من تقاليد دينية وفكرية متوارثة من حضارات بلاد الرافدين القديمة، إلى جانب عناصر مهريّة وزروانية وزرادشتية، خلال تلك الحقبة لم تكن جبال شنكال مجرد موطن جغرافي، بل شكلت مركزاً للأيمان والسياسة، حيث امتلك الإيزيديون هيكلاً سياساً خاصاً بهم، بطبقات دينية وقادة محليين وطقوس مميزة، ومع ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي وقيام الخلافة الإسلامية، تغيّر النظام الاجتماعي والعقائدي في المنطقة، ولم تُعترف المعتقدات الإيزيدية كديانة قائمة بذاتها، بل وُصفت بالبدعة أو الكفر. ونتيجة لذلك حُرم الإيزيديون من الامتيازات والحماية القانونية التي مُنحت لأهل الذمة في ظل الخلافتين الأموية والعباسية.

وخلال فترة الخلافة الإسلامية، تعرض الإيزيديون لضغوط متزايدة ومنظمة تمثلت في عدم الاعتراف بمعتقداتهم، الأمر الذي أدى إلى حرمانهم من موقعهم في النظامين الضريبي والاجتماعي، كثيراً ما أجبروا على اعتناق الإسلام أو واجهوا التهميش، كما أبعدوا عن مراكز السلطة وحرموا من ملكية الأراضي ما دفعهم إلى الاحتماء بالمناطق الجبلية مثل شنكال، قمع الشعائر الدينية ومصادرة الأماكن المقدسة ساهم في إضعاف شرعيتهم الدينية والرمزية تدريجياً، لكنه في المقابل جعل من جبل شنكال ملاذاً جيوسياسياً للإيزيديين، حيث نشأ شكل من الحكم الذاتي والمقاومة الثقافية رغم التهميش، تاريخ الإيزيديين في شنكال بعد الإسلام يعكس مزيجاً من الاستعمار الأيديولوجي الديني وإعادة إنتاج المقاومة العرقية والدينية التي امتدت حتى العصر الحديث، وصول الإسلام لم يكن بالنسبة لهم مساراً للتكامل أو الحوار الحضاري، بل ارتبط بالإنكار والإقصاء والتهميش، وهو مسار استمر بأشكال مختلفة عبر الإمبراطورية العثمانية والدول الحديثة وصولاً إلى القوى الأصولية مثل تنظيم داعش.
 

مشاريع تطهير إيزيدي شنكال

مع دخول الخلافة العثمانية إلى سنجار في القرن السادس عشر، واجه الإيزيديون مرحلة جديدة اتسمت بالخطورة والتهميش، فعلى الرغم من اعتماد العثمانيين رسمياً نظام "الأمة" لإدارة التنوع الديني والعرقي، بقيت الديانة الإيزيدية خارج هذا الإطار، إذ اعتبر اتباعها لا مسلمين ولا أهل الكتاب ما جعلهم محرومين من الحماية القانونية وعرضة للعنف الممنهج من الدولة وأجهزتها شبه العسكرية، هذا الإقصاء لم يقتصر على حرمانهم من وضع أهل الذمة بل فتح الباب أمام فرض عقوبات فقهية، بل تعرضوا لحملات تطهير ديني، وخلال القرنين السابع عشر والتاسع عشر، تعرض الإيزيديون في سنجار لسلسلة من الحملات الدموية التي قادها حكام عثمانيون مثل بديع الزمان وداود باشا، وصولاً إلى مجزرة عام 1832 التي ارتكبها محمد باشا، حاكم الموصل، والتي تُعد من أبشع الجرائم ضدهم.

ونفذ العثمانيون، من خلال أدوات مثل التوطين القسري للقبائل المسلمة في المناطق التي يسكنها الإيزيديون، مشروعاً فعالاً يهدف إلى "تغيير التركيبة الديموغرافية"، وكانت هذه السياسات شكلاً من أشكال الاستعمار الداخلي الذي استهدف الهوية العرقية والدينية للإيزيديين، وفي القرن التاسع عشر ومع إصلاح الحكومة العثمانية وتوجهها نحو المركزية، بُذلت محاولات للقضاء على أي استقلالية للإيزيديين، قُمعت ثوراتهم المحلية بعنف وقُتل أو نُفي قادتهم المحليون والدينيون، وعشية انهيار الدولة العثمانية استُهدف الإيزيديون مثل الأرمن والآشوريين وغيرهم من الأقليات، بسياسات قومية إسلامية وتركية، قُتل أو هُجّر العديد من الإيزيديين قسراً خلال اضطرابات الحرب العالمية الأولى وما بعدها.

ومن القرن السادس عشر إلى أوائل القرن العشرين، لم تكتفِ الدولة العثمانية بحرمان الإيزيديين من هياكل دعمهم الديني، بل استخدمت أيضاً أدوات سياسية وعسكرية واجتماعية لتهميشهم، لم تكن سياسات الخلافة قائمة على عدم المساواة في المعتقدات الإيزيدية فحسب، بل تداخلت أيضاً مع مشاريع الهندسة العرقية والسيطرة الإقليمية، في نهاية المطاف أصبح إيزيدو شنكال خلال الفترة العثمانية ضحايا لسياسة ممنهجة من الإقصاء التاريخي والإنكار والصمت، وهي سياسة أخفت العنف الهيكلي والاستعمار الديني الثقافي تحت ستار الشعارات الإسلامية للخلافة.
 

الإيزيديون في مشروع بناء الدولة العراقية

شكّل تأسيس الدولة العراقية عام ١٩٢١ بداية مشروع قومي عربي همّش الهويات القومية والعرقية والدينية، بما فيها الهوية الإيزيدية، ورغم الاعتقاد بأن انهيار الخلافة العثمانية قد يرفع عن الإيزيديين تمييز القرون الماضية، فإن الدولة العراقية الحديثة استبدلت العنف السياسي بسياسات دمج القسري وإقصاء رمزي وإنكار للهوية.

لم يُعترف بالإيزيديين دستورياً كجماعة دينية أو قومية، وصنّفوا إما كمسلمين "منحرفين" أو "كرد بلا ديانة"، ما تركهم دون حماية قانونية. وفي عهد البعث (1968-2003)، تكثفت سياسة التعريب في المناطق ذات الأغلبية الإيزيدية، مثل شنكال، وسُجّلوا رغماً عنهم كعرب أو مسلمين، وتعرضهم أماكنهم المقدسة للتدمير.

اعتبر حزب البعث الإيزيديين تهديداً محتملاً بسبب توجههم الثقافي ومعتقداتهم، في ثمانينيات القرن الماضي، خلال حملة الأنفال، قُتل أو هُجّر آلاف الإيزيديين، ووضع الكثيرون على قوائم "غير جديرين بالثقة"، ومُنعوا من العمل الحكومي والعسكري، وبقيت منطقة شنكال واحدة من أكثر المناطق حرماناً في العراق، عانت من تهميش متعمد، وأغلقت المدارس الدينية، وأُجبروا مراراً وتكراراً على مغادرة شنكال تحت ضغط السلطات، في السبعينيات والثمانينيات غيرت حكومة البعث التركيبة السكانية لصالح العرب من خلال مشاريع مثل توطين القبائل العربية في المناطق الإيزيدية.

في الواقع أصبحت الدولة العراقية الحديثة بعد عام ١٩٢١ مع ظهور مفهوم بناء الأمة والتنمية، مشروعاً متكاملاً للدمج القسري والقضاء التدريجي على الأقليات، أما الإيزيديون الذين كانوا يأملون بالاستقرار بعد قرون من العنف العثماني فقد هُمّشوا هذه المرة ليس بالسيف بل بالوسائل القانونية والهوية والإدارية، ويعكس وضعهم السياسات القومية والمركزية التي اعتُبرت فيها "وحدة الأمة" بمثابة قمع لصوت الأقليات، وفي هذا السياق لم يكتفِ إيزيديون شنكال بعدم التمتع بحقوق المواطنة الكاملة، بل أصبحوا رمزاً واضحاً للاستعمار الداخلي في قلب الدولة الحديثة.
 

المصير السياسي للإيزيديين

كان سقوط نظام البعث عام ٢٠٠٣بداية مرحلة جديدة من الفوضى والعنف الطائفي. كان سقوط نظام البعث عام 2003 بداية مرحلة جديدة من الفوضى والعنف الطائفي. لم يؤدّ هذا التغيير إلى تحسين أوضاع الإيزيديين، بل تركهم في فراغ سياسي وأمني خطير، وباتت شنكال منطقةً عازلة بين بغداد وإقليم كردستان، ما جعل المجتمع الإيزيدي رهينةً للتنافس الجيوسياسي.

كانت شنكال إحدى المناطق المتنازع عليها بين الحكومة العراقية المركزية وإقليم كردستان، وبينما كانت قوات البيشمركة مسؤولة ظاهرياً عن أمن المنطقة، إلا أنها لم تُنشئ أي هياكل حماية للإيزيديين، عملياً أصبح الإيزيديون رهائن للسياسات العرقية، لم يُعتَبَروا إيزيديين بالكامل، ولم يكونوا تابعين للحكومة ذات المركز العربي في بغداد.

وعندما اجتاح تنظيم داعش شنكال في آب/أغسطس 2014، ارتكب إبادة جماعية راح ضحيتها أكثر من 5000 رجل، فيما أجبر آلاف النساء والأطفال على العبودية الجنسية والعمل القسري. انسحبت قوات البيشمركة دون قتال، وترك ذلك الإيزيديين بلا حماية، فانهارت ثقتهم بالمؤسسات الرسمية. وكان التدخل السريع لمقاتلي حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب ( YPG) القوة الوحيدة التي حالت دون الإبادة الكاملة، وشكّل نقطة تحول في وعي الإيزيديين السياسي.
 

إيزيديو شنكال بين عامي 2014 ـ 2025

بعد أكثر من عقد على هجوم داعش لا يزال المجتمع الإيزيدي يواجه عدم الاستقرار السياسي ونقص الخدمات الأساسية والتهديدات الأمنية. ورغم تخصيص الحكومة العراقية عام 2023 مبلغ 50 مليار دينار لإعمار شنكال، فإن الخلافات بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان عرقلت التنفيذ. وبحلول نيسان/أبريل 2024 عاد فقط 43% من أكثر من 300 ألف نازح إيزيدي إلى ديارهم، فيما بقيت البنية التحتية متهالكة.

شكّل هجوم داعش نقطة تحول محورية؛ إذ انتقل الإيزيديون من موقع الضحية إلى موقع المقاومة والتنظيم الذاتي. ولأول مرة تأسست قوات عسكرية "وحدات حماية شنكال" من شباب وشابات إيزيديين، مستلهمةً مبادئ "الإدارة الذاتية الديمقراطية" التي طرحها قائد الشعب الكردي عبد الله أوجلان. وأسهمت هذه الوحدات في تعزيز الأمن والهوية السياسية للإيزيديين.

وفي السرد الكلاسيكي كان يُنظر إلى الإيزيديين على أنهم أقلية معزولة وعُزل، ومع ذلك فإن دخول وحدات حماية الشعب/ حزب العمال الكردستاني، أعاد تعريف دورهم، لم يعد الإيزيديون الآن مدافعين عن بقائهم الجسدي فحسب، بل أصبحوا أيضاً حاملين لمشروع سياسي للحكم الذاتي، والدفاع عن النفس، والسيادة المحلية في إطار فكرة "الكونفدرالية الديمقراطية"، وعلى غرار وحدات حماية الشعب في روج آفا، نظمت النساء الإيزيديات أنفسهن أيضاً في وحداتهن الخاصة (YJŞ)، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ المجتمع الإيزيدي.

لم يكن هذا التحول مجرد رد فعل دفاعي على الإبادة، بل بداية مشروع اجتماعي- سياسي أوسع كالانتقال من التهميش التاريخي إلى التنظيم الذاتي، ورغم المعارضة الإقليمية والتهديدات الأمنية، نجح هذا المشروع في بناء نموذج للمقاومة المحلية في المنطقة، ويرتبط مستقبل شنكال اليوم بقدرة هذا المشروع على الاستمرار والتماسك.

لطالما كانت شنكال ويريفان مهداً لهوية الإيزيديين، الأولى في جبالها وأزماتها المستمرة، والثانية في فضاء القوقاز المتناثر والمعقد، ولكن كيف تتقاطع التجربة الإيزيدية في القوقاز مع مقاومة وهوية إيزيدي شنكال؟ هذا ما ستناوله في القسم التالي، عبر استعراض تاريخ الكرد في القوقاز، من الاستقلال الذاتي ما قبل الحقبة الاشتراكية إلى التهميش السياسي المعاصر، وعلاقتهم المعقدة مع مجتمع شنكال الإيزيدي.