نساء إيران… ضحايا العطش والتهميش

أزمة المياه في إيران لم تعد مجرد قضية بيئية أو طبيعية، بل تحولت إلى معضلة سياسية ـ اجتماعية، تكشف عن عمق التهميش الذي تعانيه الفئات الأضعف، وعلى رأسها النساء في المناطق الريفية والمهمّشة.

شيلان سقزي

في إيران، تُدار قضية المياه ضمن إطار سياسي مركزي يُعلي مصالح المؤسسات العسكرية والمشاريع الاستعراضية والسياسات التنموية غير الفعالة على حساب الاحتياجات الحيوية للمجتمعات المهمّشة. هذا النموذج الإداري لا يكتفي بحرمان سكان المناطق الطرفية، خصوصاً الريفيات، من البنى التحتية الأساسية كالمياه، بل يفرض عليهم أدواراً جسدية قسرية تعكس غياب العدالة.

 

حين تتحوّل التنمية إلى عبء على الإيرانيات

تحوّلت أجساد النساء، من الفتيات إلى المسنّات، إلى أدوات لسدّ الفراغ البنيوي، حيث يُجبرن على حمل أواني المياه لمسافات طويلة. هذه الممارسة لا تُعد مجرد أزمة معيشية، بل هي تجسيد صارخ للعنف البنيوي الذي يُمارس بحقّهن، ويكشف عن خلل عميق في أولويات الدولة تجاه مواطنيها الأضعف.

تواجه النساء في المناطق النائية من إيران أزمة بيئية تُخفي في طياتها كارثة سياسية عميقة. فالنظام الحاكم، من خلال تركيز السلطة في العاصمة وتجاهله التام لمبدأ العدالة البيئية، لم يكتفِ بإنتاج هذه الأزمة، بل عمد إلى التستر عليها وإلقاء عبئها على كاهل النساء. في هذا السياق، لا يُختزل كون المرأة في منطقة تعاني من شحّ المياه في الحرمان فحسب، بل يتعداه إلى انهيار كامل لشروط الحياة الإنسانية. فالجفاف هنا ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل أداة من أدوات العنف الجنسي - الهيكلي، تُستخدم لتقييد حياة النساء حرفياً ومعنوياً.

في نظام يرى التنمية من منظور أمني محض، ويُخضع الموارد الطبيعية لمنطق السيطرة، تتحول أزمة المياه إلى نتيجة مباشرة لسياسات مركزية مختلّة. هذه السياسات دفعت بالمناطق النائية، خاصة في الجنوب، الجنوب الشرقي، الغرب، والمناطق القاحلة، إلى حافة البقاء. وفي خضم هذا التهميش، تتحمّل النساء عبئاً مزدوجاً، أولاً كضحايا لتوزيع غير عادل للموارد، وثانياً كعاملات غير مرئيات في تقسيم جنسي للعمل داخل بنى اجتماعية أبوية.

وفي قلب أزمة المياه، تتحمّل النساء عبئاً مضاعفاً، إذ تقع عليهن مسؤولية توفير المياه للأسرة وسط ظروف قاسية. من الوقوف في طوابير طويلة، إلى التنقل الشاق لملء العبوات، وغسل الملابس في مجاري الأنهار شبه الجافة، وصولاً إلى السعي اليومي للحفاظ على صحة الأطفال بسبب شح المياه النظيفة، ومع ذلك، تغيب أصوات النساء عن سياسات إدارة الأزمات وعن الخطط الوطنية الكبرى.

إن أزمة المياه ليست مجرد خلل طبيعي، بل نتيجة مباشرة لعقود من السياسات الفاشلة تمثلت في بناء سدود غير مدروسة، نقل المياه بين الأحواض لخدمة المدن الميسورة، وتدمير النظم البيئية المحلية. النساء اللواتي كنّ جزءاً من هذه البيئات فقدن مواردهن الطبيعية، وحقّهن في المشاركة باتخاذ القرار بشأنها. حتى مشاريع التنمية الريفية، التي يُفترض أن تُراعي احتياجات السكان، صُمّمت دون إشراك النساء.

المرأة الريفية بين صمت السياسات وثقل البقاء

في مناطق شاسعة من الريف الإيراني، لا سيما في المناطق القاحلة والمهمّشة، تغيب الدولة عن أداء أبسط واجباتها في توفير البنى التحتية الأساسية كشبكات المياه، وتستعيض عن ذلك بتكليف النساء والفتيات بأدوار قسرية تُحوّلهن إلى "بنية تحتية بديلة". فهؤلاء النساء اللواتي يقطعن يومياً مسافات طويلة سيراً على الأقدام، ويقضين ساعات في طوابير الماء، ويحملن عبوات ثقيلة بصمت، لا يقمن بمساعدة أسرهن فحسب، بل يسدّدن ثمن السياسات التنموية الجائرة وأولويات الدولة التي تتجاهل العدالة الاجتماعية.

في هذه المعادلة السياسية - الاقتصادية المختلّة، تُحرَم الفتيات من حقهن في التعليم بسبب أزمة المياه، وتُختزل النساء في منتصف العمر إلى دور توفير الاحتياجات البيولوجية الأساسية، بدلاً من مشاركتهن في صنع القرار المحلي. هذا الواقع لا يُعد مجرد إهمال، بل هو شكل ممنهج من العنف المؤسسي.

في هذا السياق، تتحوّل المرأة إلى ضحية للسياسات العامة وأداة لبقاء النظام في آنٍ واحد، حيث تتحمّل النساء في المناطق المهمشة العبء الأكبر، وهنّ اللواتي لا يظهرن حتى في الإحصاءات الرسمية، لكن أجسادهن باتت الأعمدة الخفية التي تستند إليها منظومة سياسية متداعية.

في مدن مثل سيستان وبلوشستان، خوزستان، كهغيلويه وبوير أحمد، كرمان، لرستان، وأجزاء من شرق كردستان، يُجبر غياب البنية التحتية المستدامة لتوصيل المياه النساء والفتيات على خوض معاناة يومية شاقة. في ظل درجات حرارة قاسية، سواء في الصيف أو الشتاء، يقطعن مسافات طويلة، غالباً عبر طرق وعرة وخطرة.

ففي قرى جنوب كرمان، على سبيل المثال، تنطلق الفتيات منذ الرابعة صباحاً حاملات عبوات بلاستيكية نحو ينابيع تبعد أحياناً خمسة كيلومترات، عبر طرق ترابية، جبال، ووديان، أو طرق سريعة بلا حواجز. وقد سُجّلت حوادث متكررة من لدغات أفاعٍ، سقوط، حوادث سير، بل وحتى اعتداءات جنسية.

في القرى المحيطة بدزفول، لا يقتصر عبء أزمة المياه على النساء، بل يمتد ليشمل حتى الأطفال الذين يُجبرون على الوقوف في طوابير طويلة. تسير أمهاتهم خلفهم، بأجساد منهكة وظهور منحنية، حاملات عبوات الماء ومسؤوليات المنزل. هذه التجربة اليومية لا تُعد مجرد نقص في الخدمات، بل هي تجسيد لعنف بنيوي مستمر، يُكرّس القمع القائم على النوع الاجتماعي تحت غطاء "الواجب الطبيعي للمرأة".

 

يوميات العطش في قرى إيران

في قرية "تمبي" ببلوشستان، حيث تصل درجات الحرارة صيفاً إلى 50 درجة مئوية، تُجبر الفتيات بين سن 10 و15 عاماً على السير يومياً نحو ساعتين لجلب الماء من بئر موسمي يبعد عدة كيلومترات عن القرية. بعضهن يقطعن الطريق حفاة، فتتسلخ أقدامهن تحت الشمس الحارقة، وغالباً ما يُجبرن على ترك المدرسة لأن تأمين الماء بات أولوية قصوى. هذا الواقع يُجسّد فقدان الحق في التعليم كنتيجة مباشرة لانعدام العدالة في البنية التحتية.

وفي منطقة "دشت‌ آزادكان" بمدينة خوزستان، تنقل النساء عبوات ماء سعة 20 لتراً من مصادر ملوثة قرب نهر الكرخة، مستخدمات العربات اليدوية، الحمير، أو حتى أكتافهن. هذا الجهد الجسدي الشاق أدى إلى انتشار أمراض في العظام والكلى بين النساء. تقول امرأة تبلغ من العمر 35 عاماً "سقطت ثلاث مرات من فوق الساتر الترابي، لكن يجب أن أواصل نقل الماء لأن أطفالي عطشى. زوجي إما بلا عمل أو مريض. كل شيء يقع على عاتقي".

أما في المناطق الجبلية، فتُجبر النساء على عبور طرق شديدة الانحدار وزلقة. تروي امرأة شابة أنها في أحد أيام الشتاء، عندما كانت الأرض مغطاة بالجليد، سقطت أثناء عودتها من النبع وانكسرت عبوة الماء. في ذلك اليوم، كان طفلها مريضاً، ولم تتمكن من تحضير الطعام له لأنها لم تحضر الماء "في تلك اللحظة شعرت أن كونك امرأة يعني أن تسلكي دائماً أصعب الطرق من أجل أبسط الأمور".

في القرى العشائرية بمدينة كهغيلويه وبوير أحمد، تُجبر النساء على حمل المياه حتى في أكثر لحظاتهن هشاشة، كفترة الحمل أو ما بعد الولادة. إحدى النساء، وبعد ثلاثة أيام فقط من إنجاب طفلها، اضطرت إلى الذهاب للنبع برفقة رضيعها لجلب الماء، لغياب أي دعم أو مساندة.

وفي قرى خوزستان، تحوّلت النساء اللواتي كنّ فاعلات في الزراعة وتربية المواشي إلى حاملات عبوات ماء من صهاريج متنقلة تصل في وقت محدد إلى القرية. وإذا نفد الماء أو لم يحصلن عليه، فعليهن الانتظار حتى اليوم التالي.

تُظهر هذه الحالات الميدانية أن غياب السياسات العادلة لا يعني فقط تقصيراً في الخدمات، بل يُفضي إلى استبدال جسد المرأة بالتنمية نفسها؛ حيث تتحوّل النساء إلى بنية تحتية حيّة، تؤدي مهاماً كان من المفترض أن تضطلع بها الحكومة، ولكن بثمن من الإنهاك، الألم، والصمت.

في محافظة سيستان وبلوشستان، لا سيما في قرى مثل سرباز، قصرقند، وزهك، تعبر النساء يومياً طرقاً ترابية وخطرة لساعات طويلة من أجل ملء بضع عبوات ماء من قنوات ملوثة أو آبار يدوية. وتشير تقارير محلية إلى أن بعض الفتيات يضطررن للسير جماعات خوفاً من الذئاب، الأفاعي، أو التعرض للتحرش والاعتداء.

أزمة المياه في إيران، خصوصاً في المناطق الريفية، تكشف فشلاً بنيوياً في السياسات التنموية التي تُقصي النساء وتحمّل أجسادهن عبء غياب البنية التحتية. تتحوّل النساء إلى أدوات لتأمين الاحتياجات الأساسية، ما يكرّس التهميش ويمنعهن من التعليم والمشاركة الاجتماعية. ما لم تُعالج هذه الأزمة من جذورها، ستبقى التنمية الحقيقية بعيدة المنال.