من خلال المشاركة بمعرض... كفيفات غزة تظهرن مقاومتهن تحت نيران الحرب

"الفن للجميع" معرض فني استثنائي في قلب المعاناة، حيث استطاعت مجموعة من الفتيات المكفوفات، رغم العتمة، أن ترسمن رؤيتهن للعالم، متجاوزات قيود الإعاقة والحرب.

نغم كراجة

غزة ـ وسط أجواء الحرب والحصار التي تخيم على قطاع غزة، ينبثق الفن كمقاومة وصوت للحياة، يتحدى الظلام ويحمل في طياته رسالة أمل وإبداع من قبل مبادرة حملت اسم "أثر الفراشة" والتي لم تكن مجرد تجربة فنية، بل كانت إثباتاً حياً على أن الإبداع لا يحتاج إلى بصر، بل إلى بصيرة تتلمس.

فالمعرض الفني الذي حمل اسم "الفن للجميع" جاء ضمن مبادرة "أثر الفراشة" ليكون مساحة إبداع لم تُمنح مسبقاً لواحدة من أكثر الفئات تهميشاً في المجتمع الفلسطيني، لا سيما في ظل الحرب المستمرة.

تقول الفنانة التشكيلية آية جحا، مشرفة المبادرة ومنسقة المعرض "حين قررنا إطلاق هذه المبادرة، كنا نعلم أننا نقف على حافة المستحيل، فأن تطلب من كفيف أن يرسم يعني أنك تراهن على حاسة اللمس والإحساس والذاكرة لا أكثر، ومع ذلك آمناً أن الفن لا يحتاج للعين بقدر ما يحتاج إلى الروح، إلى الإحساس العميق بالحياة، أطلقنا عليها اسم (أثر الفراشة)، إيماناً منا أن التأثير الجميل قد يكون غير مرئي ولكنه موجود، تماماً كأثر الفراشة على الهواء".

وأشارت إلى أنه تم استهدف فئة المكفوفين تحديداً النساء منهم "إذ نجحنا في جمع عشرين مشاركاً بينهم خمس عشرة كفيفة، لم يكن الوصول إليهم سهلاً على الإطلاق، طرقت أبواب المؤسسات المعنية لكن لم أجد تجاوباً، فاضطررت للتنقل بين مخيمات النزوح، أبحث عن كفيفة تقبل أن تُشاركنا الحل، لم أكن أبحث عن عدد بل عن إصرار على كسر العزلة التي فُرضت عليهم قسراً تحت الحرب والإهمال".

 

تجربة حسية تتحدى البصر

في اليوم الأول من الورشات الفنية، جلست آية جحا أمام المشاركين والمشاركات، أصغت إليهم بإنصات البعض منهم لم يمسك بفرشاة قط، لم يرَ الألوان ولا يدرك شكل الفراشة أو العصفور أو حتى وجه الإنسان، وتقول "كانوا يتحدثون عن الأشياء كما تخيلوها في ذهنهم، الفراشة بالنسبة للبعض كانت شيئاً صغيراً يُحلق في خيالهم دون شكل محدد، العصفور كان صوتاً لا أكثر، قررنا أن نبدأ من الصفر وأن نمنحهم الأدوات ونشرحها بالتفصيل، أن نُعلّمهم كيف يلمسون الورق والصدف والفرشاة، وكيف يحوّلون هذا الحس إلى تعبير فني وبصري".

لم تكن المهمة سهلة فالفئة حساسة للغاية والعمل معها تطلّب مستوى عالياً من الدقة والصبر، لكن ما بدأ كرهبة تحول مع الوقت إلى شغف "تحول الخوف إلى ذهول شاهدتهم يُشكّلون مجسمات ويدمجون بين الألوان على طريقتهم يرسمون وجوهاً لم يروها أبداً، لكنهم تخيلوها بعمق يُربك الفنانين المحترفين"، بهذه الكلمات أوضحت آية جحا ما شعرت به.

 

التحديات والرسالة

وأضافت أن إنجاز المعرض لم يكن سهلاً، فإلى جانب التحديات اللوجستية المرتبطة بجمع المشاركين والمشاركات تحت القصف، كان هناك نقص حاد في المواد الخام، صعوبة في التنقل، انعدام الكهرباء، وانقطاع مستمر للاتصال "كنا نعمل على مدار شهر، نصنع الفن تحت هدير الطائرات، نصقل الإبداع تحت الظلام، كل لوحة رسمت هنا كانت مقاومة، كانت إعلاناً صريحاً بأننا نرفض أن نموت في الصمت".

ولفتت إلى أن رغم كل ذلك، نجح الفريق في تنظيم معرض فني متكامل، افتُتح يوم أمس الأحد الأول من حزيران/يونيو، في أحد المراكز الثقافية غرب مدينة غزة، وسط حضور لافت من النشطاء والمؤسسات المحلية والمهتمين، ويستمر على مدار ثلاثة أيام متواصلة "نحن لا نقدم لوحات فنية وحسب بل نعرض أثر الفراشة الحقيقي، أثر لا يُرى بالعين بل يُحس بالقلب".

 

من العتمة إلى ضوء الإبداع

واحدة من أبرز المشاركات في المعرض كانت الكفيفة هديل سعد، والتي وجدت في هذه المبادرة فضاءً يضاهي الحلم ولفتت إلى أنه "حين أخبرتني إحدى المشرفات عن الورشة، قلت لها فوراً انعم، لم أتردد لحظة رغم الحرب والنزوح والقصف شعرت أنها فرصة لن تتكرر، شعرت لأول مرة أن أحداً يراني كإنسانة قادرة لا كعالة في مجتمع لا يمنحني شيئاً سوى التجاهل".

وبدأت هديل سعد تجربتها دون أن يكون لها سابق معرفة بالفن، لكنها سرعان ما غرقت فيه وتوضح "رسمتُ عصفوراً خارج قفصه، شعرت أنني أنا هذا العصفور وأحلق خارج حدود إعاقتي ونزيف الحرب، ورسمتُ فراشة بالفسيفساء، مستخدمة مربعات بلاستيكية بدل الزجاج حرصاً على سلامة أيدينا كما رسمت وجه امرأة متعددة الألوان، أردت أن أقول إننا رغم الألم نُجسد الأمل والحياة".

 

الحلم يُمسك بالفرشاة

ختام بكرون، كفيفة أخرى شاركت في المعرض، وصفت التجربة وكأنها لحظة انعتاق من السكون الداخلي، وتقول "في المرة الأولى التي أمسكت فيها بالفرشاة، شعرت وكأنني أحلم، ولم أعد عاجزة ومثل أي شخص يُبد، إرادتي صنعت أربع لوحات فنية وهذا بالنسبة لوضعي يُعد إنجازاً يُبكيني فخراً".

أنتجت لوحة تجسد قلباً يتفرع منه علم فلسطين، بخيوط تنزف دماً في تعبير مؤلم عن الجراح الوطنية، كما أنتجت لوحتين بالتقنية اليدوية، مستخدمة أدوات بسيطة لكنها نجحت بتفريغها بدقة لافتة وأكدت أن مشاركتها رسالة للعالم "أننا لسنا عالة بل طاقة الإعاقة لا تعني العجز بل هي نافذة أخرى لرؤية العالم، نافذة لا تحتاج إلى ضوء بل إلى عزيمة".

 

الطفلة التي ولدت من الضوء

ومن بين المشاركات كانت الطفلة مسك هنية البالغة من العمر عشر سنوات، أصغر المشاركات في المعرض، ورغم إعاقتها البصرية استطاعت أن تُبهر الجميع بلوحاتها بدعم مباشر من والدتها غدير حميدة، التي رفضت أن تستسلم لواقع الحرب، وأوضحت والدتها "أردت أن أُشعر ابنتي أنها ليست مختلفة، أن ترى نفسها مبدعة كما غيرها، اخترنا أن نخوض هذه التجربة رغم كل الألم، لا شيء يجب أن يمنع أي طفل من أن يحلم، لا القصف، ولا الدم، ولا الظلام".

رسمت مسك هنية شجرة متعددة الأفرع والألوان، للتعبير عن وطن يحب الحياة ويكره الموت، كما صممت مجسماً لقبة الصخرة باستخدام الورق في إحالة إلى الذاكرة البصرية الموروثة "حين نتحدث عن كفيفة ترسم، فنحن لا نتحدث فقط عن تجربة فنية، بل عن لحظة ولادة جديد، عن طفلة تعيد تعريف الفن والبصيرة" تقول والدتها.

 

رسالة تتجاوز حدود المعرض

هذا المعرض، بما حمله من تجارب فردية مذهلة، لا يمكن قراءته كمجرد مبادرة فنية بل هو شهادة حية على أن ذوي الإعاقة البصرية قادرون على أن يكونوا مهندسي الألوان، رغم أنهم لا يرونها، أن الفن لا يُخلق من العين بل من الأعماق، وأن البصيرة يمكنها أن تبني عوالم من الجمال في أحلك الظروف.