من "الزواج الشرعي" إلى شرعنة الاستغلال... قراءة في واقع تزويج القاصرات
يُستخدم مفهوم "الزواج الشرعي" لتبرير استغلال النساء والقاصرات، وتحويلهن إلى أدوات للتبادل تحت غطاء ديني وقانوني في ظل غياب الرقابة والعدالة، ومواجهة هذا الواقع تتطلب مراجعة القوانين ونقد التقاليد الضارة، وترسيخ قيم المساواة وحقوق الإنسان.
نسيم أحمدي
كرماشان ـ تُستخدم مصطلحات مثل "العقد الشرعي"، "الخطوبة الشرعية"، و"الزواج الشرعي" في كثير من المجتمعات لتضفي طابعاً من المشروعية الدينية على علاقات تُشبه في جوهرها عمليات تملّك أو تبادل للنساء. هذه المفردات التي يُفترض أن تحمي كرامة الإنسان، تتحول في بعض السياقات إلى أدوات تُكرّس التمييز وتُغطي على علاقات غير متكافئة، حيث تُختزل المرأة إلى كيان خاضع للسلطة الذكورية.
في إطار "الشرع" لا تُعامل المرأة كفرد مستقل يتمتع بحقوق متساوية، بل تُقدَّم كموضوع للامتلاك أو الاستهلاك، ويُستخدم "الشرع" كغطاء أخلاقي يُبرر هذا التفاوت. فبدلاً من أن تكون هذه المفاهيم ضماناً للعدالة والاحترام، تُستخدم لتثبيت بنى اجتماعية تُقصي إرادة المرأة، وتُخضعها لإذن الرجل وموافقته.
إن هذه اللغة، حين تُوظف لتبرير التسلط، تُساهم في إخفاء جوهر الهيمنة، وتُعيد إنتاج أنماط من العلاقات تُهمّش المرأة وتُقيّد حريتها، تحت ستار من المشروعية الدينية. وبالتالي، فإن إعادة النظر في هذه المفاهيم ضرورة ملحّة لبناء علاقات إنسانية قائمة على المساواة والاحترام المتبادل، لا على التملّك والتبعية.
في مثل هذا النظام، لا يُستخدم "الشرع" كوسيلة لتحقيق العدالة، بل يتحول إلى أداة لإعادة إنتاج السلطة وترسيخها؛ سلطة تُقصي المرأة عن موقع الفاعلية، وتحولها إلى كائن خاضع، لا فاعل. فالمصطلحات المتداولة باسم الشرع، من خلال تكرارها في الخطاب اليومي والثقافة العامة، تترسخ تدريجياً كجزء من الواقع الاجتماعي، حتى تغدو بمرور الوقت مُسلمات لا تُناقش.
في ظل هذا الواقع، تصبح المتاجرة بجسد المرأة، ومشاعرها، وحياتها، ممارسات مغطاة بختم "الشرعية"، ما يمنحها حصانة من النقد والمساءلة. وهكذا، تُستخدم اللغة الدينية لتجميل علاقات غير متكافئة، تُكرّس التمييز وتُضفي طابعاً أخلاقياً زائفاً على ممارسات تُنتهك فيها كرامة المرأة باسم الفضيلة.
ففي مناطق متفرقة من إيران، تُعرض يومياً العديد من الفتيات تحت مسمى "الزواج الشرعي"، في فضاءات تخضع لإشراف مؤسسات رسمية، وكأنهن سلع تُقدَّم للمقايضة. من أبرز هذه المنصات موقع "آدم وحواء" للزواج، الذي يعرض بيانات شخصية لفتيات قاصرات، ليغدو فعلياً سوقاً مفتوحاً لتزويج الطفلات دون سن الثامنة عشرة، حيث تتضمن الإعلانات حالات لفتيات لا تتجاوز أعمارهن 13 عاماً.
أُطلق هذا الموقع عام 2018 بزعم "تسهيل الزواج" و"تعزيز وساطة الزواج وتوسيع نطاق الزواج الصحيح وتكوين أسرة على أساس التعاليم الإسلامية"، إلا أنه تحوّل في الواقع إلى أداة تتيح الوصول السهل إلى القاصرات بغرض الزواج أو الصيغة، في انتهاك صارخ لحقوق الطفل وكرامة الإنسان. فبدلاً من حماية الطفلات، يُسهم هذا النظام في شرعنة استغلالهن، ويُمهّد الطريق أمام ممارسات تُكرّس التمييز والعنف البنيوي ضد الفتيات.
هذا المسار لا يُمثل فقط انتهاكاً صارخاً لحقوق الطفل، بل يعكس أيضاً خللاً عميقاً في البُنى الاجتماعية والقانونية التي، بدلاً من حماية الأطفال، تُسهّل استغلالهم. ففي ظل غياب الرقابة الفعالة والشفافية القانونية، تتحول هذه المنصات إلى أدوات تُضفي شرعية زائفة على العنف الجنسي ضد الأطفال، تحت غطاء "الزواج الشرعي" الذي يمنحه المجتمع والدين قبولاً، رغم كونه شكلاً واضحاً من أشكال الإساءة وانتهاك الكرامة الإنسانية.
عند التمعّن في هذه الظاهرة، يتّضح أنها امتداد لنظرة أداتية تجاه النساء والفتيات، تُكرّسها بعض البُنى الرسمية والثقافية، حيث تُعرّف هويتهن لا على أساس الفردية والحقوق، بل وفق أدوار تقليدية وخضوع لإرادة الرجل. في هذا السياق، تُحرَم الفتيات من حق الاختيار والتعليم، ويُستخدمن كوسائل لترسيخ علاقات السلطة داخل الأسرة والمجتمع، ويُعاد إنتاج مفاهيم تُشرعن التمييز، فتُبادَل الفتيات تحت مسميات جديدة، لمجرد كونهن إناثاً.
أما المنصات التي تُروّج لما يُسمّى "الزواج الدائم" عبر الإنترنت، وتخضع لإشراف جهات مرتبطة بالسلطة، فهي تجسيد حديث لاستغلال جنسي ممنهج للقاصرات. إذ إن صِغر سنهن يُثير لدى بعض الأفراد رغبات منحرفة، ما يكشف عن خلل بنيوي في فهم الزواج، وتحويله إلى وسيلة للهيمنة والسيطرة، لا علاقة إنسانية قائمة على الاحترام والمساواة.
وبمجرد إجراء بحث بسيط في بعض مواقع الزواج الإلكتروني، تظهر خيارات تشمل في الغالب فتيات تتراوح أعمارهن بين 13 و15 عاماً؛ طفلات مسجّلات ظاهرياً للزواج الدائم. ورغم أن الزواج الدائم في هذا السن يُعد بحد ذاته موضع نقد حاد، إلا أن ما يجري فعلياً خلف هذه الإعلانات ليس زواجاً دائماً، بل غطاء لزواج مؤقت.
تُقدّم العديد من هذه المواقع نفسها على أنها تعمل ضمن إطار "الشريعة الإسلامية"، وتعلن أن السن القانوني للزواج هو "خط أحمر"، لكن هذا الشعار يُنتهك عملياً، إذ يُسمح حتى للفتيات الأصغر سناً بالتسجيل. وتُشكّل هذه المنصات بيئة تُسهّل عمليات يُنظر فيها إلى الأطفال كأدوات للمقايضة.
وبحسب القوانين السارية في البلاد، يمكن تزويج الفتيات دون سن 13 عاماً لرجال تصل أعمارهم إلى 50 عاماً، بل إن بعض المرجعيات الدينية لا تكتفي بعدم الاعتراض، بل تُشجّع هذا النوع من الزواج. هذا الواقع يثير تساؤلات جوهرية حول حقوق الطفل، والأخلاق العامة، ودور المؤسسات الدينية والحكومية في إعادة إنتاج أنماط مؤذية تُهدد كرامة الأطفال ومستقبلهم.
وفي تصريح مثير للجدل، لرجل دين إيراني، أشير إلى "تعجيل زواج الفتيات في سن مبكرة"، مؤكداً أن "الزواج يجب أن يتم في المرحلة الثانوية"، لأن "الفتيات في سن 13 يرغبن في الزواج"، حسب تعبيره. هذا الطرح يُجسّد رؤية سلطوية تجاه المرأة، متجذّرة في بعض البُنى الدينية والثقافية، حيث يُختزل دورها في إطار تبادلي يُغفل كيانها الإنساني وحقوقها الفردية.
في ظل هذه النظرة، تتحول المرأة إلى سلعة قابلة للعرض والتبادل، تُسوّق في منصات إلكترونية وتُعرض في سوق يهيمن عليه الرجال. وتُسهّل هذه المنظومة استغلال القاصرات جنسياً منذ طفولتهن، عبر قوانين ذكورية تمنح هذا المسار شرعية زائفة، لا تهدف إلى حماية الطفل، بل إلى خدمة مصالح منظومات الهيمنة.
إن هذا الواقع لا يُعبّر فقط عن خلل قانوني، بل يكشف عن أزمة أخلاقية عميقة، حيث تُستخدم الشرعية الدينية لتبرير ممارسات تُنتهك فيها كرامة الطفلات، وتُكرّس فيها تبعية المرأة منذ نشأتها الأولى. مواجهة هذا النموذج تتطلب إعادة تعريف الزواج والكرامة الإنسانية، بعيدًا عن منطق التملك والتسلط.
استمرار هذا النهج لا يُفضي فقط إلى انتهاك الحقوق الفردية، بل يُهدد القيم الأخلاقية التي يقوم عليها المجتمع، ويُضعف الثقة العامة بمفاهيم العدالة والكرامة الإنسانية. فحين تُشرعن ممارسات تنتهك حقوق النساء والأطفال، يتحوّل القانون من أداة للحماية إلى وسيلة لتكريس الاستغلال.
ولمواجهة هذا الواقع، لا بد من مراجعة شاملة للتشريعات القائمة، ونقد جريء للتقاليد التي تُنتج الأذى وتُعيد إنتاجه، إلى جانب ترسيخ خطاب يقوم على المساواة وحقوق الإنسان. فقط من خلال هذه الخطوات يمكن بناء مجتمع يُعامل المرأة والطفل كأفراد أحرار، أصحاب حقوق، لا كأدوات للتبادل أو السيطرة، ويُعيد الاعتبار لكرامتهم الإنسانية بعيداً عن منطق التملك والتبعية.