ختان الإناث موروث ثقافي يمارس باسم التقاليد

ختان الإناث ممارسة ثقافية تُرتكب بحق النساء والفتيات، تُخلّف آثاراً جسدية ونفسية واجتماعية خطيرة، تُكرّس التمييز والهيمنة الذكورية. مواجهتها تتطلب وعياً مجتمعياً وتطبيقاً صارماً للقوانين.

هيلين أحمد

مركز الأخبار ـ على مرّ التاريخ، تبنّت بعض المجتمعات في الشرق الأوسط ممارسات تخدم الهيمنة الذكورية، واعتُبرت جزءاً من الهوية الثقافية لتلك المجتمعات. لكن حين تتحول هذه الممارسات إلى تطبيقات عملية تُلحق الأذى الجسدي والنفسي والاجتماعي، فإنها تُشكّل تهديداً حقيقياً لسلامة أفراد المجتمع، خاصة النساء.

من بين الممارسات، يُعد ختان الإناث مثالاً صارخاً، فقد كان يُبرر في الماضي بأنه وسيلة لضبط الرغبة الجنسية لدى المرأة والحفاظ على "نقاء" التقاليد، إلا أن النظرة المعاصرة تكشف عن آثاره المدمّرة المتمثلة في أضرار جسدية ونفسية، واضطرابات اجتماعية وصحية طويلة الأمد. اليوم، يُنظر إلى هذه الممارسة باعتبارها انتهاكاً صارخاً لحقوق المرأة، وجريمة تُرتكب باسم العادات والتقاليد.

ختان الإناث إجراء غير طبي يتمثل في إزالة جزئية أو كلية للأعضاء التناسلية للمرأة، ويُنفذ غالباً لأسباب اجتماعية أو ثقافية. تختلف أشكال هذه الممارسة حول العالم، لكنها تنتشر بشكل ملحوظ في بعض دول إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، حيث تُجرى باستخدام أدوات حادة مثل الشفرات أو السكاكين، وغالباً ما تكون في سن مبكرة، من الولادة وحتى مرحلة البلوغ.

ورغم التحذيرات الطبية والحقوقية، لا تزال هذه الممارسة قائمة في بعض المجتمعات، وتُعتبر جزءاً من التقاليد المتوارثة. ووفقاً لتقديرات منظمة اليونيسف حتى عام 2024، فإن نحو 230 مليون امرأة حول العالم خضعن لشكل من أشكال ختان الإناث، موزعات في إفريقيا بنحو 144 مليون، 80 مليون في آسيا، و6 ملايين في الشرق الأوسط، ما بين مليون إلى مليونين في مناطق أخرى من العالم.

هذه الأرقام تعكس حجم الظاهرة وخطورتها، وتدعو إلى تكثيف الجهود العالمية لمكافحة هذه الممارسة الضارة، وحماية حقوق النساء والفتيات في كل مكان.

وتعود جذورها إلى منظومة التمييز بين الجنسين، حيث يُستخدم كوسيلة للسيطرة على الحياة الجنسية للمرأة، ويُروّج له باعتباره وسيلة لحماية "شرف" الرجل. في هذه المجتمعات، تُختزل المرأة كمصدر للشرف، ويُنظر إلى عدم ختانها كتهديد محتمل لسمعة العائلة ومكانة الرجل فيها.

تُعزز هذه المعتقدات الدينية والاجتماعية ثقافة الخوف، فتجد النساء أنفسهن مجبرات على إخضاع بناتهن لهذه الممارسة، ليس اقتناعاً بها، بل خوفاً من العنف أو القتل. وهكذا يتحول ختان الإناث إلى وسيلة للبقاء، لا خياراً حراً.

 

آثار متعددة

ورغم التبريرات التقليدية، فإن ختان الإناث يُخلّف آثاراً نفسية وجسدية واجتماعية عميقة، تختلف حدتها حسب نوع الإجراء المُنفذ. كما أن التمييز بين الجنسين يبدأ منذ الطفولة، حيث تُعامل الفتيات بشكل مختلف عن الذكور، وتزداد الفجوة مع مرور الوقت، مما يُعمّق الشعور بالظلم ويُكرّس عدم المساواة.

إلا أنه منذ سبعينيات القرن الماضي، بدأت جهود دولية متصاعدة تهدف إلى إقناع الأطباء بالتوقف عن ممارسة ختان الإناث. وقد أصدرت العديد من الدول التي تنتشر فيها هذه الظاهرة قوانين تحظرها أو تقيدها، إلا أن تطبيق هذه القوانين غالباً ما يكون ضعيفاً أو غير فعّال.

وفي عام 2010، دعت الأمم المتحدة العاملين في القطاع الصحي إلى الامتناع التام عن إجراء أي شكل من أشكال ختان الإناث، باعتباره انتهاكاً لحقوق الإنسان. ورغم هذه الدعوات، تشير بيانات منظمة اليونيسف إلى أن معدلات ختان الإناث على مستوى العالم شهدت ارتفاعاً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، حيث ارتفع عدد النساء اللواتي خضعن لهذه الممارسة من 200 مليون في عام 2016 إلى 230 مليون في عام 2024.

هذا التناقض يعكس واقعاً مركّباً؛ فبينما أحرزت بعض الدول تقدماً ملموساً نحو الحد من هذه الظاهرة، واجهت دول أخرى انتكاسات أو مقاومة مجتمعية، مما يُبرز الحاجة إلى جهود أكثر شمولاً واستدامة لمكافحة هذه الممارسة الضارة.

وختان الإناث لا يقتصر على إحداث أضرار جسدية فورية، بل يخلّف آثاراً نفسية واجتماعية عميقة وطويلة الأمد. فإجراء هذه الممارسة في مرحلة الطفولة دون موافقة الفتاة يُعد شكلاً من أشكال العنف، وقد يؤدي إلى اضطرابات نفسية مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، الاكتئاب، القلق، وقلة الثقة بالنفس.

كما يُسهم في خلق شعور بالخجل والدونية، ويُعيق قدرة المرأة على بناء علاقات اجتماعية صحية، ويؤثر سلباً على حياتها الزوجية والإنجابية. بعض النساء اللواتي خضعن للختان يواجهن صعوبات وألماً أثناء العلاقة الجنسية، مما يدفع بعض الأزواج إلى النفور، ويُفتح الباب أمام الزواج المتعدد، الأمر الذي يُفاقم من معاناة المرأة ويُكرّس التمييز ضدها.

هذه الممارسة لا تُلحق الضرر بالمرأة فحسب، بل تُؤثر أيضاً على نمط حياتها ومشاركتها في المجتمع، وتُعمّق الفجوة بين الجنسين منذ الطفولة وحتى مراحل البلوغ، مما يجعل ختان الإناث قضية صحية واجتماعية وإنسانية تستدعي مواجهة حاسمة وشاملة.

كما أنه يُعد من أخطر الممارسات التي تُلحق أضراراً جسدية ونفسية بالغة بالفتيات والنساء. فإلى جانب الألم المباشر الناتج عن الجرح، يُسبب مضاعفات صحية خطيرة مثل الالتهابات، صعوبة التبول، اضطرابات الدورة الشهرية، آلام مزمنة، تكوّن أكياس تحت الجلد، العقم، ومشكلات أثناء الحمل والولادة، كالنزيف الحاد أو تعسر الولادة، والتي قد تُفضي إلى الوفاة في بعض الحالات.

لكن الأثر لا يتوقف عند الجانب الجسدي، بل يمتد إلى الجانب النفسي والاجتماعي. فالختان يُمارس غالباً دون موافقة الفتاة، مما يُشكل صدمة نفسية مبكرة قد تؤدي إلى اضطراب ما بعد الصدمة، الاكتئاب، القلق، وانخفاض الثقة بالنفس. كما يُعيق قدرة المرأة على بناء علاقات اجتماعية صحية.

هذه المعاناة تُعيدنا إلى جذور هذه الممارسة، التي ترتبط بعقلية ذكورية ترى في جسد المرأة وسيلة لحماية "شرف" الرجل، وتُكرّس التمييز والسيطرة باسم التقاليد. لذلك، فإن مواجهة ختان الإناث ليست قضية صحية فحسب، بل معركة ضد منظومة اجتماعية تُهمّش المرأة وتُقيّد حريتها وكرامتها.

 

أحد أشكال العنف الثقافي

ويُعد ختان الإناث أحد أشكال العنف الثقافي الممنهج ضد المرأة، وهو تجسيد صارخ للعقلية الذكورية التي تمارس سلطتها على جسد المرأة ونفسيتها. ففي بعض المجتمعات، يُروّج لهذه الممارسة باعتبارها جزءاً من التراث الثقافي، رغم ما تحمله من انتهاك لحقوق الإنسان وأضرار جسدية ونفسية جسيمة.

تغيير هذا الواقع يتطلب وعياً مجتمعياً واسعاً، وتحولاً جذرياً في المواقف والسلوكيات، إلى جانب تطبيق صارم للقوانين التي تحمي النساء من هذه الممارسة الضارة. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال تضافر جهود نشطاء حقوق الإنسان، والباحثين، وصنّاع القرار، للعمل بشكل متكامل في مجالات التوعية، والتعليم، والتشريع.

إن إنقاذ النساء من تبعات ختان الإناث لا يقتصر على معالجة الأثر، بل يتطلب تفكيك البنية الثقافية التي تشرعن هذه الممارسة، وبناء مجتمع أكثر عدالة ومساواة، يحمي المرأة ويصون كرامتها.