في كهف "جاسنه" ولد السلام من رماد الحرب
عكس مشهد إتلاف مقاتلو حزب العمال الكردستاني وفي مقدمتهم بسي هوزات الرئاسة المشتركة للمجلس التنفيذي لـ KCK التحول من الكفاح المسلح إلى مسار سياسي وسلمي، وإعلان عن مستقبل يحمل في طياته الحكمة ويبشر بمرحلة قادمة عنوانها السلام والديمقراطية.

جيان أكين
السليمانية ـ استجابةً لنداء القائد عبد الله أوجلان، نظّم مقاتلو حزب العمال الكردستاني (PKK) مراسم رمزية لإتلاف الأسلحة، حيث أضرموا النار فيها في مشهد حمل دلالات عميقة، وقد اعتُبرت هذه المراسم إعلاناً عن ولادة وبداية مرحلة جديدة.
تشير النصوص القديمة التي تناولت نشأة الكون إلى أن الحياة تشكلت من عناصر أساسية هي التراب والماء والنار، حيث تُعد النار تجلياً لطاقة كونية تمثل وسيلة لإعادة تشكل الوجود، فالنار ليست مجرد عنصر مادي بل هي طاقة تتحول وتستمر في صور مختلفة ما يجعلها رمزاً للتجدد والاستمرارية، ومنذ أقدم العصور اعتبر الكرد النار عنصراً مقدساً، إذ ارتبطت لديهم بمفاهيم سامية مثل المعرفة والخير، واعتُبرت أعلى درجات النقاء الروحي والفكري وتجسدت هذه الرمزية بشكل واضح في حادثة إحراق الأسلحة في كهف "جاسنه" بمدينة السليمانية، حيث عُدّ هذا الفعل إعلاناً عن بداية جديدة للحياة والوجود، في مشهد يحمل دلالات عميقة على التحول من الحرب إلى السلام ومن الفناء إلى الخلق.
وبعد الدعوة التي أطلقها القائد عبد الله أوجلان نظّم "مجموعة السلام والمجتمع الديمقراطي" مراسم رسمية لإتلاف السلاح عبر حرقها في خطوة وُصفت بالتاريخية، وقد حملت هذه المراسم رمزية خاصة حيث تباينت الآراء حولها بين من رآها بسيطة الشكل، ومن اعتبرها ذات دلالات عميقة، إذ احتوت كل لحظة من لحظاتها على تفاصيل تعكس قصصاً وتجارب فردية وجماعية.
ويُنظر إلى هذه الخطوة على أنها بداية جديدة لمسار سياسي وسلمي، بعد عقود من الصراع المسلح، حيث عبّر المشاركون عن التزامهم بدعوة القائد أوجلان التي شددت على أهمية التحول من السلاح إلى الحوار، ومن المواجهة إلى بناء مجتمع ديمقراطي قائم على التعددية والعدالة.
أحراق الأسلحة إعلان لبداية جديدة
وفي مشهد رمزي لافت، نزل 15 امرأة و15 رجلًا من مقاتلي حزب العمال الكردستاني، على درج كهف جاسنه في صف واحد دون أن يسلموا أسلحتهم بل أحرقوها في رسالة مختلفة حملت دلالات عميقة، وقد وثّقت الصور التي انتشرت من الموقع لحظة تاريخية، لا تعكس فقط نهاية سنوات من الصراع، بل تمثل أيضاً خطوة حاسمة في المسار الذي رسمه القائد عبد الله أوجلان، والذي يقوم على الإرادة السياسية والرؤية المستقبلية.
وأثناء مراسم إحراق الأسلحة، شهد الحاضرون لحظة تشبه ولادة جديدة على غرار طائر العنقاء الذي يولد من رماده بعد كل دورة من المقاومة والتجدد، وقد اعتُبر هذا الحدث بداية لمرحلة سياسية جديدة، تتشكل ملامحها من رماد الماضي وتستمد حكمتها من نار التحول، إحراق الأسلحة لم تكن نهاية بل إعلاناً عن مستقبل يحمل في طياته الحكمة ويبشر بمرحلة قادمة عنوانها السلام والديمقراطية.
جاسنه... كهف المقاومة والذاكرة الكردية
لم يكن اختيار موقع "جاسنه" لإقامة مراسم إحراق السلاح من قبل مجموعة السلام والمجتمع الديمقراطي اختياراً عشوائياً، بل جاء محملاً بدلالات تاريخية عميقة، فهذا الكهف الواقع في ريف السليمانية يُعد من أبرز رموز المقاومة الكردية إذ استخدمه الزعيم الكردي الشيخ محمود برزنجی عام 1923 كمأوى أثناء مواجهته للاستعمار البريطاني وهروبه من الغارات الجوية.
الشيخ محمود برزنجی، الذي قاد ثورة إقليم كردستان وسعى لتأسيس دولة كردية مستقلة، واجه ضغوطاً دولية حالت دون تحقيق حلمه، لكن إرثه النضالي بقي حياً في ذاكرة الشعب الكردي، وقد تحوّل الكهف إلى رمز للهوية الثقافية والذاكرة الجماعية، حيث احتضن في مراحل مختلفة من التاريخ الكردي مطابع سرية وصحف ناطقة باسم القضية الكردية مثل صحيفة "باغي حق" التي صدرت من داخله.
اختيار هذا الموقع لإحراق الأسلحة لم يكن مجرد فعل رمزي، بل إعلان عن بداية جديدة تنبع من رماد الماضي، في مكان شهد مقاومة وصمود، ليصبح شاهداً على التحول من الكفاح المسلح إلى المسار السياسي السلمي.
"سننتقل من الكفاح المسلح إلى العمل السياسي"
في خطوة رمزية نحو بداية جديدة، قادت بسي هوزات الرئاسة المشتركة للمجلس التنفيذي لـ KCK، مراسم إحراق السلاح التي نظمتها مجموعة "السلام والمجتمع الديمقراطي"، حيث تقدمت الصفوف في كهف جاسنه، معلنةً عن تحول تاريخي في مسار النضال الكردي.
وخلال المراسم ألقت بسي هوزات بياناً باسم المجموعة، تلاه خطاب قصير شددت فيه على ضرورة تأطير العملية ضمن إطار قانوني ودستوري لضمان استمراريتها ونجاحها، مؤكدةً أن هذه الخطوة جاءت استجابةً لنداء القائد عبد الله أوجلان، وأنها تمثل انتقالاً من الكفاح المسلح إلى العمل السياسي السلمي.
بسي هوزات... من ديرسم إلى قيادة النضال النسوي
بسي هوزات، التي تنحدر من قرية تانر التابعة لقضاء هوزات في ديرسم، وُلدت في عائلة مكونة من تسعة أطفال وكانت السابعة بينهم، انضمت إلى صفوف حزب العمال الكردستاني، وهي في سن السادسة عشرة، لتصبح لاحقاً من أبرز القيادات النسائية في الحركة الكردية. بدأت نشاطها في صفوف حزب العمال الكردستاني (PKK) في عام 1994 وبعد عام واحد فقط التحقت شقيقتها نوراي أوران بصفوف الحزب، لكنها فقدت حياتها في اشتباك مسلح عام 1997، وهو ما شكّل نقطة تحول في حياة بسي هوزات، التي انتقلت لاحقاً إلى جبال قنديل وواصلت نشاطها في مجالات متعددة، أبرزها تنظيم المرأة داخل الحزب.
وخلال مراسم إحراق السلاح التي جرت مؤخراً، تم الكشف عن هوية بسه هوزات، حيث تبين أن اسمها الحقيقي هو هوليا أوران وهي من مواليد عام 1978، وقد لعبت دوراً محورياً في تطوير العمل النسوي داخل الحزب، وتولت مناصب قيادية بارزة، أبرزها رئاسة المجلس التنفيذي المشترك لمنظومة المجتمع الكردستاني منذ عام 2013.
"الاستعمار سينتهي والحرية ستنتصر"
في تصريحاتها الإعلامية المتكررة، شددت بسي هوزات، على أهمية نضال المرأة من أجل الحرية، معتبرةً أن استعباد المرأة عبر التاريخ شكّل الأساس للكثير من الأزمات الاجتماعية والطبقية، كما أكدت على أن تحرير المرأة هو مفتاح بناء مجتمع ديمقراطي وعادل.
وشددت على ضرورة الاعتراف بمجزرة ديرسم كجزء من الذاكرة التاريخية للشعب الكردي، مشيرة إلى أن تجاهل هذه الأحداث يعيق المصالحة الحقيقية ويكرّس الظلم التاريخي، وفي المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني (PKK)، أعلنت بسي هوزات أنهم سيكونون "سنكون مناضلي هذه العملية"، مؤكدة التزامها بالتحول السياسي السلمي.
وخلال مراسم إحراق الأسلحة، ختمت خطابها بالقول "الاستعمار سينتهي، والحرية ستنتصر" في رسالة قوية تعكس التحول من الكفاح المسلح إلى الأمل في مستقبل قائم على السلام والعدالة.
وقد اعتُبر إشعال النار لإتلاف الأسلحة رمزاً لبداية جديدة، حيث زرعت تلك اللحظة في قلوب الحاضرين بذور الأمل، تماماً كما يولد طائر العنقاء من رماده، معلنةً عن عهد جديد من النضال السياسي والمجتمعي.