الصحافة الحرة لا تموت وإرث الصحفيتين في ذاكرة النساء
يصادف الثالث والعشرين من آب/أغسطس الجاري، الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد كل من الصحفيتين كلستان تارا وهيرو بهاء الدين، إثر استهداف من قبل طائرة مسيرة تابعة للاحتلال التركي.

آفان كريم
مركز الأخبار ـ أعداء الشعوب كانوا ولا يزالون يخشون الصحفي المستقل، وأصحاب الأقلام الجريئة، لأن الصحافة الحرة لا تعترف بالقيود في كشف الحقائق، ولا تسعى لأي مكاسب شخصية من وراء تسليط الضوء على القضايا، ومواجهة التحديات على طريق الحرية.
كلما كان الصحفي حراً، ازداد خوف أعداء الحرية منه، لكن خوفهم من الصحفية أكبر، لأنهم يدركون تماماً أن وعي النساء بهذا الخطر نابع من إدراكهن العميق لطبيعة الأنظمة القمعية والانتهازية التي أصبحت اليوم تهديداً للإنسانية وللشعب كأمة، لذلك، فإن وعي النساء وحرّيتهن يشكلان تهديداً حقيقياً للأنظمة الذكورية، التي لا تتوانى عن فرض سلطتها القمعية، لكنها تنهار أمام المقاومة والثورة والصمود.
منذ اليوم الذي استشهدت فيه الصحفيتين كلستان تارا وهيرو بهاء الدين، أصبحت خطوط الإعلام الحر أكثر جذباً للصحفيات والنساء اللواتي يرغبن في العمل ضمن هذا المجال، ويعود سبب ذلك إلى الرسالة التي حملها استهداف هاتين الصحفيتين، والتي وصلت إلى مسامع النساء وكل أبناء الشعب الكردي.
لقد شكّل استشهادهما رسالة صادمة وواعية لنساء هذا الشعب، إذ فتحن باباً واسعاً للتفكير في حرية الصحفيات، وألهمن العديد من الناشطات، ولم يكن استشهادهن سبباً في تقليص دور المرأة في مجال الصحافة، بل أصبح سبباً لدعم الأصوات الحرة من قبل المؤسسات الإعلامية العالمية تجاه الصحفيات الكرديات.
لذلك يمكننا القول إن كلستان تارا وهيرو بهاء الدين لم تكونا فقط شهيدتي الحرية والصحافة، بل أصبحتا رمزاً لثورة فكرية في وعي النساء الكرديات وشعوب المنطقة.
الصحفية بين سلطة القمع ورسالة الحقيقة
على مدى سنوات حكم الأحزاب إقليم كردستان، ولم تكن البيانات الإعلامية سوى أدوات ذات تأثير سلبي على الشعب، إذ وُجهت نحو طمس مفاهيم الحرية والتملك، وقمع الثقافات المختلفة التي كانت تشكل غنىً لهذا الشعب، حيث خضعت الصحفيات تماماً لسلطة النظام الرأسمالي والذكوري، وكانت النتيجة واضحة وهي كيف يتم استخدام الصحفيات كأدوات لتنفيذ برامج رديئة وعديمة القيمة حتى أنهن لم يُنظر إليهن كنساء، بل تم التعامل معهن كما يتم التعامل مع الرجال أو كائنات في هيئة امرأة، مما أعاد إنتاج صورة مشوهة لدور المرأة وحريتها في المجتمع.
ومن خلال هذا المسار، تحولت الصحفيات إلى سلع في خدمة النظام الرأسمالي، وهذا ما يكشف بوضوح الدور السلبي والتأثير المدمر الذي تمارسه الوسائل الإعلامية.
وبعد استشهاد كلستان تارا وهيرو بهاء الدين، أدرك الشعب الفرق بين خط الإعلام الحر وخط الإعلام الذي استُخدم لتشويه صورة النساء، ومن هذا المنطلق، يمكننا القول إن الشهيدتين كلستان تارا وهيرو بهاء الدين أصبحتا ناقوس إنذار للمجتمع تجاه خطر الإعلام المزيّف الذي يعمل منذ سنوات على استغلال النساء وتشويه صورتهن.
ولطالما كانت أعمال الصحفيات الحرائر مختلفة تماماً عن أعمال الصحفيين الآخرين في وسائل الإعلام، إذ أن الصحفية الحرة غالباً ما تتناول القضايا المجتمعية الجوهرية بجرأة وعمق، وتتحدث بصراحة عن التحديات التي تواجه المرأة والمجتمع، دون أن تتنازل عن قول الحقيقة، وتبحث بدقة عن مصادرها الموثوقة، ولهذا السبب، فإن الأنظمة القمعية المعادية لحرية الصحافة، سواء من الداخل أو الخارج، تسعى دائماً إلى إسكات الصحافة الحرة عبر التصفية أو السجن أو القمع.
وقد أصبحت كلستان تارا وهيرو بهاء الدين شهيدتي الحقيقة، ومثالاً على أن الصحفية الواعية الحرة يمكن أن تكون بوابة لإعادة توجيه المجتمع نحو الوعي والحلول، من خلال تقديم برامج ومحتوى إعلامي وصحفي هادف، في المقابل، يتضح جلياً أن الإعلام أصبح أداة يستخدمها العدو لبث الخوف والرعب، وتُبذل محاولات لتصفية وترويع الصحفيين الأحرار.
حين تصمت النقابات... تتكلم دماء الصحفيات الحرائر
في ظل التواطؤ والتماهي مع حكومة إقليم كردستان، لم تصدر النقابات والمنظمات الصحفية أي موقف واضح أو احتجاج صريح ضد الجريمة الممنهجة التي ارتكبها الاحتلال التركي بحق الصحفيتين، ولم يتمكنوا من رفع قضية استهدافهما إلى المحاكم الدولية، لأنهم أنفسهم يحملون خلفية حزبية ويتنكرون لحرية الصحافة، ولهذا لم يتخذوا أي خطوة حتى الآن وظلوا صامتين أمام هذه الجريمة، وهذا يكشف حقيقة النقابات والمنظمات المهنية التي تتبنى نفس العقلية الحزبية والسلطوية المفروضة في إقليم كردستان.
لقد قدّمت العديد من النساء في الماضي والحاضر تضحيات ونضالات في مجالات متعددة، واستشهدن في سبيل حرية المرأة والمجتمع والوطن، وقدمت كلستان تارا وهيرو بهاء الدين حياتهما من أجل إيصال صوت الحقيقة إلى المنطقة والعالم، وأصبحن رمزاً لحرية الصحافة والمرأة الحرة والمناضلة، فمن خلال تضحياتهن، استطعن أن يثبتن لنا وللشعب الكردي والعالم أن المرأة الحرة والصحفية الواعية لا تخاف الموت، ولا يمكن إسكاتنا أو إيقافنا.
لقد تحوّلن إلى رموز لكل نساء العالم والمنظمات النسوية التي تفتخر بتضحياتهن، لم تعد كلستان تارا وهيرو بهاء الدين مجرد أسماء أو شخصيات بين الصحفيات، بل أصبحن رمزاً لحرية الصحافة والمرأة الحرة، وكلما ذُكرت حرية الصحافة النسوية، سيُذكر اسمهما، وسيبقيان دائماً رمزاً حيّاً في الذاكرة.