المرأة والتراث في تونس... الملتقى الدولي للفنون يحتفي بالهوية الثقافية
يحتضن قصر النجمة الزهراء بسيدي بوسعيد بالضاحية الشمالية للعاصمة التونسية الملتقى الدولي للفنون في دورته الخامسة والذي سيستمر لمدة أربعة أيام بحضور عدد هام من الخبيرات في مجال التراث.

نزيهة بوسعيدي
تونس ـ أكدت المشاركات في الملتقى الدولي للفنون على أهمية الفنون في ترسيخ الهوية الثقافية وتثمين التراث المادي واللامادي، ودور المرأة التونسية المحوري في صون هذا الموروث ونقله عبر الأجيال "يجب توظيف التكنولوجيا الحديثة وتكثيف الجهود المجتمعية لضمان استدامة التراث وتعزيزه في الوعي الجماعي".
يستضيف قصر النجمة الزهراء بسيدي بوسعيد، الواقع في الضاحية الشمالية للعاصمة التونسية، فعاليات الدورة الخامسة من الملتقى الدولي للفنون، وذلك في الفترة الممتدة ما بين الخامس وحتى الثامن من أيلول/سبتمبر الجاري، بمشاركة واسعة من الخبيرات في مجال التراث الثقافي، وتم تخصيص اليوم الافتتاحي للملتقى الدولي لتقديم المحاضرات ومناقشتها حول موضوع "دور الفنون في ترسيخ الهوية، تثمين التراث، تعزيز التماسك والتنمية المستدامة".
وواكبت وكالتنا فعاليات اليوم الأول للملتقى، وتحدثت إلى بعض الخبيرات في مجال التراث وكانت البداية مع رئيسة جمعية التنمية الثقافية سمية خمار كجهة منظمة والتي قالت "انطلقت الدورة الخامسة للملتقى الدوري للفنون بسيدي بوسعيد بفضاء النجمة الزهراء بتقديم مداخلات أكاديمية تناولنا من خلالها دور الفنون في تنمية وتعزيز الموروث الثقافي المادي واللامادي ودورها الرائد في التنمية المستدامة".
ولفتت إلى أن الجلسة الصباحية تطرقت إلى خاصيات سيدي بوسعيد المعمارية في التراث العالمي والاستماع إلى شهادات حية لسكان المدينة وكذلك الخبراء الذين يعملون على هذا الملف "تحدثنا عن دور الفنون في تعزيز الموروث الثقافي المادي وكيف يمكن استثماره في تعزيز الموروث الثقافي وتحديداً عن دور وكالة حماية التراث في هذا المجال وعن دور الصور الفوتوغرافية في جلب السياح وفي تسجيل الموروث الإنساني".
وأوضحت أنه تم تقديم مداخلة تناولت كيفية توظيف التكنولوجيا الحديثة في دعم وحماية الموروث الثقافي من خلال المنصات الرقمية، مشيرةً إلى أن الملتقى شكل فرصة مميزة للقاء الشباب الذين استثمروا في الفن الإبداعي، مستغلين مواد قابلة لإعادة التدوير مثل النفايات والبلور والخردة، لتحويلها إلى أعمال فنية تحمل رسائل بيئية وثقافية.
ولفتت إلى أن فعاليات الملتقى الدولي للفنون تتواصل على مدى أربعة أيام، حيث خُصص هذا اليوم لتنظيم مجموعة من الورشات الحية التي تستهدف الكبار والصغار، وتشمل الرسم، الخط العربي، الفسيفساء، إعادة التدوير، كما يشهد اليوم أنشطة موجهة للأطفال من خلال ورشة تهدف إلى تعزيز التراث الثقافي عبر الفنون.
ولفتت إلى أن برنامج الغد سيقام بدار الشباب بسيدي بوسعيد، حيث سيتم تكريم مجموعة من الشباب المشاركين من داخل تونس وخارجها، مضيفةً أنه من بين هؤلاء الشباب من يعمل على تصميم مجسم فني باستخدام مواد معاد تدويرها من "الخردة"، ومن المقرر أن ينصب هذا العمل في منطقة حي الخضراء بالعاصمة التونسية في خطوة تجمع بين الإبداع الفني والوعي البيئي "سيتم اختتام الملتقى بالفضاء الثقافي بالمرسى وسيتم تنظيم معرض فني لصور فنية وفتوغرافية للعديد من الأعمال الفنية من تونس وخارجها".
وحول دور الجمعية في مجال حماية التراث قالت سمية خمار "نحن جمعية تعنى بالشأن الثقافي، دراسة المعالم الأثرية والتاريخية وتثمينها والتعريف بالتراث المادي واللامادي لأن التراث التونسي كنز ويحتاج لمزيد من العناية التثمين".
وأكدت على أن تونس تتميز بثراء ثقافي فريد، حيث أنها زارت العديد من المناطق في مختلف أنحاء البلاد ولاحظت تنوع الموروث الثقافي وتعدد روافده، داعية إلى تضافر الجهود من أجل الحفاظ عليه وتثمينه، بهدف الوصول إلى مستوى السياحة العالمية التي تحتفي بالهوية والتراث، لافتةً إلى أن المرأة التونسية تحمل إرثاً ثقافياً غنياً، يتجلى في العديد من العناصر التقليدية، أبرزها الوشم، الذي كان يُعتمد قديماً كرمز للجمال والزينة.
وشددت على أهمية إعادة العمل على هذا الموروث الفني، ليس فقط كعنصر جمالي، بل كجزء من الهوية الثقافية التي تستحق التوثيق والترويج في المحافل الفنية والتراثية "نريد تثمين تراث المرأة في الأفراح والمناسبات وخاصة الأزياء التي ترتديها والأواني التي كانت تصنعها فلم تكن تقريباً تحتاج لأي شيء من الخارج".
وعن إحياء التراث والتنمية الثقافية قالت ثريا عامري "شاركت اليوم في فعاليات الملتقى الدولي للفنون من خلال تقديم محاضرة بعنوان (دور وكالة حماية التراث في تثمين التراث المادي واللامادي)، حيث استعرضت خلالها جهود الوكالة في مجال حفظ التراث، من خلال إصدار منشورات ومنتجات مستوحاة من الموروث الثقافي، إلى جانب توظيف التكنولوجيا الحديثة في عمليات التثمين، مثل التجارب الافتراضية التي تتيح للجمهور التفاعل مع المواقع والمعالم التراثية بطرق مبتكرة".
كما أكدت على أن الحفاظ على التراث يُعد مهمة معقدة تتخللها العديد من التحديات، أبرزها الصعوبات اللوجستية، نظراً لمحدودية الإمكانيات المتاحة، والتي لا تكفي لتغطية جميع المتاحف والمواقع التي تحتاج إلى دعم وعناية خاصة، مشددةً على أهمية تضافر الجهود وتوفير الموارد اللازمة لضمان استمرارية هذا العمل الحيوي الذي يحفظ هوية الشعوب ويثري الذاكرة الجماعية.
ولفتت إلى أن غرس ثقافة حماية التراث يجب أن يبدأ من الطفولة، داخل المدرسة، حيث يتعلم الطفل كيف يحترم ويصون موروثه الثقافي، لأنه هو رجل الغد، فإذا لم تُزرع فيه هذه القيم منذ الصغر، فلن يكون قادراً على حمايتها في المستقبل، حتى وإن فُرضت عليه قوانين صارمة أو وُضعت كاميرات مراقبة، فالحماية الحقيقية تنبع من الوعي، لا من الردع، مضيفةً أن الموارد البشرية تُعد من الركائز الأساسية في عملية تثمين التراث، مشيرةً إلى الحاجة الملحة لتوفير عدد كبير من المهندسين والتقنيين المختصين، حتى يتسنى للجهات المعنية تنفيذ مشاريع الحماية والتثمين بشكل فعّال.
وشددت على أن المحافظة على التراث الثقافي، سواءً المادي أو اللامادي، لا تقتصر على المؤسسات الرسمية مثل وزارة الثقافة أو المعهد الوطني للتراث أو وكالة حماية التراث، بل هي مسؤولية جماعية تتقاسمها مختلف مكونات المجتمع، من إعلام ومجتمع مدني ووزارة التربية ودُور الثقافة والمدارس "يجب أن نتعامل مع التراث اللامادي باهتمام أكثر من وصفات الطبخ والتجميل والفن والغناء".
وحول دور المرأة في حماية التراث قالت ثريا عامري "للمرأة دور محوري في الحفاظ على التراث الثقافي غير المادي، حيث تظهر بشكل بارز في معظم أوراق العمل التي أعدها فريق المعهد الوطني للتراث، باعتبار أن هذا النوع من التراث مسجل ضمن التراث الوطني، وغالبية المستجوبين والنشطاء في هذا المجال هن من النساء، ما يعكس مدى مساهمتهن الفاعلة في صون الموروث الثقافي في مختلف جهات البلاد".
وأشارت إلى نماذج حية من هذه المساهمة، مثل نساء سجنان في فن الخزف، ونساء البرامة بسليانة في الحرف التقليدية، وقرميد تستور، والنسيج، والطابونة، وتحضير الكسكسي، وغيرها من الممارسات التي تحمل في طياتها ذاكرة جماعية وهوية محلية أصيلة، مشددةً على أن المرأة التونسية لا تحافظ فقط على التراث، بل تنقله وتطوره، مما يجعلها حجر الأساس في استمرارية هذا الإرث الثقافي.
رسم الموروث
بدورها قالت الدكتورة هادية العياشي، المختصة في نظريات الفنون التشكيلية وتصميم الصورة، إنها تناولت في مداخلتها موضوع التراث والهوية التونسية من زاوية بصرية، مستعرضة أعمال أستاذها المصور الفوتوغرافي الذي تمكن من توثيق جوانب من التراث التونسي المعاصر من خلال عدسته، لا التراث القديم فحسب، وأكدت أن هذه الصور تحمل قيمة فنية وتوثيقية عالية، إذ تبرز تفاصيل الحياة اليومية والعادات الراهنة التي تشكّل امتداداً حيّاً للهوية الثقافية التونسية.
وأشارت إلى أن الصورة الفوتوغرافية يمكن أن تكتسب قيمة فنية مضاعفة عندما تُحوّل إلى لوحة تشكيلية، مضيفةً أنها تعرفت على مصور فوتوغرافي يتمتع بحس فني عالٍ، ما دفعها إلى تحويل إحدى صوره التي توثق تراث جزيرة جربة إلى لوحة زيتية، عرضتها لاحقاً في عدد من الملتقيات الفنية "أن اللوحات الزيتية في رأيها، تُعد وسيلة أكثر فاعلية في حفظ التراث مقارنةً بالصور الفوتوغرافية، نظراً لإمكانية عرضها في المتاحف واعتبارها جزءاً من الموروث الفني الوطني".
وفي سياق حديثها عن دور المرأة التونسية في حماية التراث، أكدت أنها تنحدر من محافظة سليانة، وتحديداً من منطقة مكثر، التي تشتهر بصناعاتها التقليدية مثل الصوف والسيراميك، مشيرةً إلى أن المرأة في مختلف الجهات التونسية تلعب دوراً أساسياً في صون هذا التراث، من خلال ممارساتها اليومية وحرفها اليدوية التي تعكس عمق الهوية الثقافية المحلية.
وقالت إنه بالرغم من بساطة الأدوات التي تمتلكها تسعى المرأة التونسية دائماً إلى ابتكار ما يعكس هوية منطقتها، فنراها في مختلف الجهات متمسكة بتراثها، محافظة عليه بكل فخر "ورثت والدتي العديد من الأشياء عن والدتها، كما ورثتها هي بدورها عن جدتها، لتنتقل هذه العادات والتقاليد من جيل إلى آخر بكل حب واعتزاز، أتمنى أن تحافظ ابنتي على تراثنا وعاداتنا، لأنها تمثل جوهر هويتنا، ولهذا غرست فيها حب الرسم منذ الصغر، ليكون وسيلتها للتعبير عن هذا الانتماء".