الفتيات على الهامش... النظام التعليمي في إيران يعيد إنتاج التمييز الجندري
في الهامش الجغرافي والثقافي لإيران، تتكثف ملامح التمييز البنيوي ضد الفتيات، حيث يتحول التعليم من حق أساسي إلى امتياز مشروط، ومن أداة للتمكين إلى وسيلة للإقصاء.

شيلان سقزي
في قلب الجبال الصامتة والقرى النائية، تعيش فتيات يفقدن حلم المدرسة قبل أن تنتهي طفولتهن، فترك التعليم بالنسبة لهن ليس خياراً، بل نتيجة لسلسلة من التمييزات التاريخية، والفقر البنيوي، وتسييس التعليم، وتخاذل المؤسسات المحلية.
التعليم بالنسبة لهؤلاء الفتيات ليس جسراً نحو المستقبل، بل بوابة مغلقة بأقفال التقاليد والسياسة والظلم، هنا، لا الدولة ولا المجتمع يصغيان إلى أصواتهن التي أُخمدت، وهذا الصمت هو أخطر أشكال إعادة إنتاج التمييز.
الفقر البنيوي ليس مجرد قضية اقتصادية، بل يعد من منظور عالم الاجتماع الفرنسي "بيير بورديو" حلقة ثقافية واجتماعية تتجدد باستمرار، ويسهم النظام التعليمي في استمراريتها، فمثلاً، انقطاع الفتيات في المناطق المحرومة عن الدراسة يعد مؤشراً على هذه الحلقة، التي ستظل قائمة في غياب السياسات الإصلاحية، والتعليم القائم على العدالة، وتدخل المؤسسات المحلية الفاعلة.
بيير بورديو كان يرى أن النظام التعليمي لا يزيل مظاهر اللامساواة، بل يسهم في إعادة إنتاج الهيمنة الثقافية السائدة، مما يؤدي إلى استمرار الفجوات الطبقية والجندرية، وفي هذا السياق، تواجه الفتيات المنحدرات من أسر منخفضة الدخل عراقيل مضاعفة داخل النظام التعليمي الرسمي، نتيجة غياب رؤوس الأموال الثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي تعد ضرورية للنجاح والاندماج في هذا النظام.
التكاليف والخيارات التمييزية داخل الأسرة
في العديد من القرى، ينظر إلى التعليم، وخصوصاً للفتيات، على أنه عبء مالي يفوق الرسوم الدراسية المعتادة، إذ يتضمن تكاليف إضافية مثل المواصلات، المستلزمات المدرسية، الملابس، ودروس التقوية، بالنسبة للأسر التي ترزح تحت وطأة الفقر البنيوي، تعد هذه النفقات عبئاً اقتصادياً لا يحتمل، ومع تدني رأس المال الثقافي للأسرة كأن يكون الوالدين غير متعلمين أو لم يكملوا تعليمهم، تعتبر هذه التكاليف غير ضرورية، خاصة عندما يتعلق الأمر بتعليم الفتيات، حيث ينظر إليه على أنه ترف لا حاجة له، لا استثمار في المستقبل.
وعند اضطرار الأسرة للاختيار بين أبنائها، غالباً ما تمنح الأولوية للابن، فيرسل إلى المدينة لمواصلة تعليمه، بينما تجبر الفتاة على البقاء في المنزل، ويبرر هذا القرار عادة باعتبارات مثل زواجها المستقبلي أو أهمية الحفاظ على أمنها أثناء التنقل، التي تقدم على حقها في التعليم، في مثل هذا السياق، لا ينظر إلى تعليم الفتيات باعتباره حقاً أساسياً، بل يعامل كخطر محتمل أو عبء اجتماعي، وهو ما يجسد أحد أوجه إعادة إنتاج التمييز الجندري البنيوي، كما وصفه بيير بورديو في تحليله لعلاقات السلطة داخل النظام التعليمي.
الرأسمال الرمزي والسلطة الذكورية في التعليم
إن مقاومة تعليم الفتيات لا تنبع من عداء للعلم، بل من ترسخ القيم الذكورية في الوعي الجمعي، والتي تتجلى في مفاهيم مثل "الغيرة"، "الشرف"، و"السمعة"، هذه القيم تشكل ما يُعرف بـ "الرأسمال الرمزي" الذي يمنحه النظام الذكوري شرعيته، ويستخدم كأداة لتقييد أو إقصاء الفتيات من النظام التعليمي.
هذه الحالة ليست نتاجاً للتقاليد فحسب، بل نتيجة لإعادة إنتاج ثقافية نشطة تقوم بها المؤسسات الاجتماعية. فتعليم الفتيات يتحول إلى ضحية لتواطؤ غير واعٍ بين الفقر، والعرف، والسلطة الذكورية، وصمت الدولة، وإذا لم يتمكن النظام التعليمي والاجتماعي من إنتاج رأسمال ثقافي بديل بُعيد تعريف دور المرأة، فإن التقاليد والذكورية سيواصلان تحويل التعليم إلى سلعة فاخرة ومحفوفة بالمخاطر بالنسبة للفتيات.
هذان العاملان لا يعملان فقط كقناعات فردية أو ثقافية، بل يشكلان جزءاً من بنى السلطة غير المتكافئة، التي تعاد إنتاجها عبر الزمن من خلال مؤسسات مثل الأسرة، والدين، والتعليم الرسمي.
استخدم بيير بورديو مفهوم "الهابيتوس" لوصف الأنماط والسلوكيات المتجذرة التي تنتقل من البيئة الاجتماعية إلى الفرد، وفي المجتمعات التقليدية، يتشكل هابيتوس الفتيات وعائلاتهن بطريقة تجعل التعليم للفتيات يبدو متعارضاً مع أدوارهن "الطبيعية" كزوجات، وأمهات، ومدبرات للمنازل، هذا التصور يعاد إنتاجه داخلياً، ويظهر كخيار "طوعي" من قبل الأسر، بل وأحياناً من قبل الفتيات أنفسهن دون وعي.
من خلال مفاهيم مثل الهابيتوس، والرأسمال الثقافي، والاقتصادي، والعنف الرمزي، يظهر بورديو كيف تسهم الأنظمة التعليمية في الحفاظ على المواقع الطبقية وإعادة إنتاج بنى السلطة غير المتكافئة.
وفي سياق انقطاع الفتيات الريفيات عن التعليم، تساعدنا هذه النظرية على فهم كيف أن الموقع الجغرافي، والفقر، والثقافة التقليدية، وضعف البنية التحتية، تتضافر لتشكيل "هابيتوس الحرمان"، الذي يمنع الفتيات من الوصول إلى التعليم، وهكذا يتضح أن ترك التعليم ليس قراراً فردياً، بل نتيجة لإعادة إنتاج بنيوية للتمييز الاجتماعي، تضفي الشرعية على تهميش الفتيات من خلال النظام التعليمي، والثقافي، والاقتصادي.
زواج القاصرات ودوره في إعادة إنتاج اللامساواة
يعد شبح زواج القاصرات أحد الآليات الجوهرية لإعادة إنتاج التمييز الجندري في المجتمعات المحرومة، حيث يمارس على الفتيات من الطبقات الاجتماعية الدنيا من خلال "الهابيتوس" العائلي، وانخفاض الرأسمال الثقافي، والضغوط الاقتصادية، والعنف الرمزي. في مثل هذه الظروف، لا ينظر إلى الزواج المبكر كقرار تقليدي فحسب، بل يعتبر استراتيجية للبقاء داخل بنى اجتماعية غير عادلة، ويعد انقطاع الفتيات عن التعليم أحد أبرز نتائج هذه الاستراتيجية.
في الأسر الريفية التقليدية، لا ينظر إلى الفتاة كفرد مستقل، بل كأحد موارد الأسرة، يمكن تحويلها عبر الزواج من "عبء اقتصادي" إلى "رأسمال اجتماعي"، ونظراً لضعف أو غياب الرأسمال الثقافي المرتبط بالتعليم داخل هذه الأسر، فإن هذا الرأسمال لا يملك القدرة على مواجهة تقاليد الزواج المبكر، في الوقت نفسه، يفرض النظام التعليمي اللغة والقيم الثقافية السائدة، متجاهلاً التنوع الثقافي والجندري، مما يجعل بيئة المدرسة طاردة للفتيات المحرومات.
بعبارة أخرى، يعد زواد القاصرات جزءاً من عملية إعادة إنتاج الهيمنة، ويقدم بوصفه ظاهرة طبيعية ومشروعة، بينما هو في الواقع أداة للحفاظ على البنى غير المتكافئة للسلطة، والمدرسة بدلاً من كسر هذه الحلقة، غالباً ما تقف منها موقف اللامبالاة، أو تعجز عن الاستجابة ثقافياً واجتماعياً، فتسهم عملياً في إعادة إنتاجها.
التعليم الرسمي وتسييس النظام التعليمي
في المجتمعات غير المتكافئة، لا يعد التعليم الرسمي وسيلة للتحرر وتحقيق المساواة، بل يتحول في كثير من الأحيان إلى أداة لإعادة إنتاج الهيمنة الطبقية والسياسية، في هذا الإطار، فإن "تسييس التعليم" و"الفجوة الطبقية التعليمية" لا يعدان مجرد ظواهر عابرة، بل هما نتاج لبنى تاريخية وثقافية للسلطة، تتشابك فيها اللغة، والسلطة، والرأسمال الثقافي، والمصالح السياسية.
على سبيل المثال، مدرسة لا تضم سوى معلم واحد يدرس جميع الصفوف من الأول إلى السادس، وتقدم فيها الكتب الدراسية باللغة الفارسية، في حين أن 90% من الأطفال لا يسمعون هذه اللغة حتى في منازلهم، تعمق الفجوة التعليمية وتكرس التهميش اللغوي والثقافي، وفي المقابل، يتمتع الأطفال في المناطق المركزية مثل طهران أو المدن الكبرى بإمكانية الوصول إلى الصفوف الذكية، والأنشطة التعليمية الإضافية، والإرشاد الأكاديمي، والإنترنت عالي السرعة.
هذا التناقض يجسد بشكل واضح إعادة إنتاج اللامساواة التعليمية، حيث يعاد توزيع الموارد والفرص بطريقة تعزز الفوارق الطبقية، وتهمش الفئات المحرومة بدلاً من تمكينها.
الآثار النفسية والاجتماعية لانقطاع الفتيات عن التعليم
في الأسر التي لم يثمر فيها التعليم يوماً، يتكون تصور سلبي تجاه المدرسة، يتجلى في عبارات مثل "ما فائدة هذه الدروس؟"، وهو ما يشكل نمطاً سلوكياً يعاد إنتاجه عبر الأجيال، ومن هنا، فإن انقطاع الفتيات عن الدراسة لا يعد مجرد ظاهرة تعليمية، بل انعكاساً عميقاً لأزمة هوية، وتمييز بنيوي، وعنف ثقافي خفي متجذر في النسيج الاجتماعي والنفسي للمجتمع.
في البنية الذكورية التقليدية، لا تعتبر المدرسة فضاء للوعي والتحرر، بل تنظر إليها أحياناً كتهديد للنظام السائد، مما يدفع الأسر، بوعي أو دون وعي، إلى المساهمة في إقصاء الفتيات من دائرة التعليم، هذا الإقصاء القسري يؤدي تدريجياً إلى انهيار الثقة بالنفس، وتراجع الشعور بالكفاءة الذاتية، وعرقلة النمو الشخصي للفتيات، فالفتاة التي تجبر على ترك المدرسة لا تحرم فقط من الصف الدراسي، بل تنتزع من أحلامها، وفرصها، وهويتها المستقلة.
هذه الحالة تخلف جرحاً نفسياً واجتماعياً جماعياً؛ فالمرأة غير المتعلمة تقل فرص مشاركتها في سوق العمل، وتضعف قدرتها على التأثير في الحياة السياسية والاجتماعية، ويعاد إنتاج هذا الانكفاء في الجيل التالي، إن انقطاع الفتيات عن التعليم يمثل في الواقع نقطة انطلاق لسلسلة من الفقر، والعنف، والزواج المبكر، والعجز الاجتماعي.
النظام التعليمي في إيران وإعادة إنتاج اللامساواة
تحول النظام التعليمي في إيران، بدلاً من أن يكون أداة للتحرر والوعي والعدالة، إلى مؤسسة تعيد إنتاج اللامساواة، وتقمع الإبداع، وتقصي تدريجياً الفئات المهمشة، ففي بنية تهمش اللغة الأم، وتقلص الهويات القومية، وتركز على التلقين والانقياد بدلاً من التفكير النقدي، لا يمكن توقع نشوء جيل حر، واعٍ، ومشارك في الحياة العامة.
لقد انخرط النظام التعليمي الإيراني فعلياً في نوع من "الهندسة الثقافية الصامتة"، حيث تواجه الطفلة الكردية أو البلوشية أو العربية ليس فقط الفقر الاقتصادي، بل أيضا الفقر اللغوي، والثقافي، والجندري، فهي تتعلم في صف يجرم لغتها، وينكر تقاليدها، ويقلل من شأن أحلامها، والنتيجة هي تآكل الأمل، والتهميش الاجتماعي، والانفصال عن الهوية.
الفرز التمييزي والضحايا الحقيقيون
بدلاً من أن يكون التعليم أداة للتمكين، تبنى النظام التعليمي الإيراني سياسة "الفرز التمييزي"، محولاً التعليم إلى وسيلة للضبط السياسي والإيديولوجي، يربى الطالب لا على التفكير والنقد، بل على الصمت والطاعة والتكيف، وفي هذا السياق، تعد الفتيات في المناطق المحرومة أولى ضحايا هذا النظام غير الفاعل والمشحون بالتمييز.
ضرورة التحول الجذري في التعليم
هذا النظام التعليمي لا يلبي احتياجات المجتمع المعاصر، بل يشكل عائقاً حقيقياً أمام التنمية البشرية، والمشاركة السياسية، والعدالة الاجتماعية، إصلاحه يتطلب ثورة مفهومية وسياسية وثقافية، لا مجرد تعديل في المناهج أو الامتحانات، ما دام التعليم يستخدم كأداة للسيطرة لا كحق إنساني، ستظل الأطراف صامتة، وسيستمر تعميق الفجوات الاجتماعية، وتوسيع دائرة الفقر، وتفاقم انعدام الثقة بين الشباب والنظام الحاكم.
حين تواجه الفتيات في المناطق المهمشة بالتجاهل، والتمييز اللغوي، والجندري، والجغرافي، بدلاً من الوصول إلى تعليم عادل، كيف يمكن الحديث عن مشاركتهن المتكافئة في مجتمع ديمقراطي؟ هذا الإقصاء يتحول تدريجياً إلى شعور بالدونية، والقلق، واللوم الذاتي، وانعدام الانتماء الاجتماعي. فتيات يشعرن أنهن غير مرئيات، غير مسموعات، ولا مكان لهن في المستقبل. جيل كهذا لن يملك القدرة على المطالبة بحقوقه، ولا الرغبة في البقاء في أرضه.
إعادة إنتاج التمييز في ضوء نظرية بورديو
من منظور علم الاجتماع التربوي، ما يحدث في إيران يتماشى مع نظرية إعادة الإنتاج الثقافي لبيير بورديو، حيث تعيد المدرسة إنتاج اللامساواة وتمنحها شرعية، فالمحتوى المركزي والإيديولوجي، وآليات التقييم والاختيار، كلها تخدم إعادة إنتاج السلطة، وترسيخ المركزية، وإقصاء الأطراف.
ما لم تعتمد مبادئ أساسية مثل العدالة التعليمية، التعليم باللغة الأم، المساواة الجندرية، واللامركزية الثقافية، فإن الإصلاحات الجزئية والسطحية لن تجدي نفعاً، ومن دون إعادة بناء هيكل السلطة داخل النظام التعليمي، لن تتمكن أي فتاة في قرى كردستان أو بلوشستان أو خوزستان من تخيل مستقبل مختلف.
ما وراء الحلول الشكلية
علاج هذا الجرح العميق لا يتحقق ببناء بعض المدارس أو توزيع الكتب الدراسية، فهذه النظرة السطحية والعرضية تعد جزءاً من المشكلة، لا الحل، نظام تعليمي يتجاهل احتياجات المناطق المحرومة، ويعمل ضمن سياسات مركزية لا تراعي التنوع الثقافي والجندري، لا ينتج سوى مزيد من التمييز والإنكار.
ينبغي البحث عن جذور هذه الأزمة في البنى الفكرية المتآكلة، والقيم الذكورية، والسياسات الثقافية السلطوية، فالتغيير لا يكفي أن يبدأ من الأسر، بل يجب أن يشمل مراجعة جذرية لسياسات التعليم الرسمي، وتعزيز التعليم المحلي، وفتح المجال للتعليم باللغة الأم.
إن إعادة بناء الهوية الثقافية للفتيات لا يمكن أن تتحقق دون عدالة جندرية في التعليم، وخدمات نفسية - اجتماعية فعالة، ومشاركة حقيقية للمجتمع المدني، وتمثيل عادل للأقليات في صنع القرار، ما لم يتحول التمكين إلى هدف حقيقي تتبناه الدولة، وصناع السياسات، والنخب المحلية، فلن يتحقق أي إصلاح تعليمي عادل ومستدام، وفي غياب هذا التحول الجذري، ستظل الفتيات الكرديات وغيرهن من الأقليات ضحايا صامتات لنظام تعليمي تمييزي.