الإيزيديين والفرمان والمقاومة
طوال أحد عشر عاماً من الكفاح المتواصل، لعبت النساء الإيزيديات دوراً محورياً في نهضة شنكال، حيث كنّ في قلب المشهد، وتصدرن خطوط المواجهة بإرادة لا تلين، لم يكن حضورهن رمزياً فحسب، بل كان فعالاً في مختلف ميادين المقاومة.

مركز الأخبار ـ يؤمن الإيزيديين أن سر الخلق يكمن في أبسط الأشياء، فالكون قريب، وتكوين البيضة يكفي لفهم حقيقته القشرة ترمز إلى السماء، والبياض إلى الغلاف الجوي، والصفار إلى الأرض، ومن خلال هذا التكوين الثلاثي يتجلى مفهوم التوازن الكوني، الذي يرونه مفتاح فهم أصل الوجود ومعناه.
لكل ديانة وعقيدة فلسفة وكل عقيدة تتطور في سياق التنشئة الاجتماعية، إن ايدلوجية أو فلسفة الحياة التي يتبناها المجتمع كعقيدة تبقى حية مع مرور الزمن من خلال الطقوس الدينية، كما تسعى وتحاول الديانة الإيزيدية ومن أجل الحفاظ على هويتها الاجتماعية أن تستمر في وجودها من خلال طقوسها الدينية التي تبدأ بخلق الكون وتتحدث عن دورة الزمن، الجانب الأكثر حيوية في الديانة الإيزيدية هو استقبال كل خليقة في الكون بحماس واعتباره عيد، وتحتفل بجميع مراحل خلق الكون والعالم، وتقدسها وتحتفل بها كأعياد ولهذا السبب توجد العديد من الأعياد في الديانة الإيزيدية.
وفقاً للمعتقد الإيزيدي، يُعد شهر نيسان بداية دورة الزمن وبداية العام الجديد، إذ يُعتقد أن العالم خُلق في هذا الشهر على مدار سبعة أيام، وبدأت عملية الخلق بإحياء عناصر الطبيعة تلتها نشأة الخلايا الحيوانية، وانتهت بظهور الإنسان على وجه الأرض، ويعتبر الإيزيديين أن تحول الطاقة الكونية إلى مادة ومن ثم تبلور هذه المادة لخلق الحياة، يمثل حدثاً مقدساً ومعجزة كونية تجسد بداية الوجود.
"الكون قريب جداً منكم"
يعتقد الإيزيديون أن الكون خُلق بانفجار عظيم، ويعتبر الكثير من الحكماء وكبار السن أن أصغر جزء من الجسيم "ذر" أي الذرة، أي أن كل ما هو صغير كالذرة هو ذرة، وفي أول أربعاء من رأس السنة، يقوم الإيزيديين بكسر البيض بعد ضربها ببعض، وتكسيره يرمز إلى الانفجار العظيم الذي أدى إلى نشوء الكون أي أنه يرمز إلى خلق العالم، عندما تنكسر قشرة البيضة الصلبة والسميكة تظهر طبقة شفافة رقيقة، يُطلق الإيزيديين على هذا الجسيم اسم "أزون"، ويعني أيضاً طبقة الأوزون، بهذا التشبيه يُرمز تكسير البيض إلى خلق الكون من الناحية الفلسفية، يقول الإيزيديون "لا تبحثوا كثيراً عن خلق الكون وحقيقته، فالكون قريب جداً منكم، ولفهم هذه الحقيقة يكفي فهم تكوين البيضة".
وحدة الأضداد وأساس الحقيقة
وفقاً للعقيدة الإيزيدية انبثق العالم من اتحاد الأضداد، الخير والشر، الظلام والنور، الطول والقصر، البرد والحرارة، وحتى في نشأة هذه العقيدة، ثمة صلة توازن بين هذه الأضداد، فالدم الأحمر واللون الأبيض معاً يرمزان للحياة وهذا الاتحاد يرمز إليه بخيوط حمراء وبيضاء تُسمى "باسمبار" هذا الإيمان بوحدة الأضداد يُضفي على العقيدة الإيزيدية بُعداً كمياً، لأن طبيعة الكون تتشكل من خلال اتحاد الأضداد، ولذلك يرى الإيزيديين أن نشأة الكون والعالم هي المصدر الأساسي للحقيقة، وهذا يُظهر أيضاً مدى عراقة وعمق جذور هذه العقيدة، ففي النصوص المقدسة للإيزيديين، تُوصف عملية نشأة الكون وذوبان الجليد وعمليات فصل الماء عن الأرض خطوة بخطوة، على سبيل المثال هناك نص يقول "أيتها الشمس عندما اشرقتي في لالش، نمت كل الكائنات الحية، وازدهر كل شيء على وجه الأرض".
المجتمع الإيزيدي والمسيرة التاريخية في ظل الفرمانات
واجه المجتمع الإيزيدي سلسلة من الإبادة الجماعية والنفي والمجازر عبر التاريخ، في جبال وسهول شنكال وحدها نُفِّذ 36 فرمان، ارتُكبت مجازر عديدة بحقّهم في منطقة جغرافية واسعة تمتد من مدينة كرمانشاه في شرق كردستان إلى خط مرعش - ديرسم وصولاً إلى جبال جولميرك، نتيجة لهذه الهجمات تخلى ملايين الإيزيديين عن عقيدتهم وقُتل الآلاف واضطر الكثير منهم إلى اللجوء لجبال شنكال، ومع ذلك حتى بعد استقرارهم في شنكال استمر الحصار والمجازر، في شنكال وحدها نُفِّذ 36 فرمان حتى يومنا هذا، كان آخرها الفرمان الـ 74 الأكثر وحشيةً ودمويةً الذي نفذه داعش عام 2014.
الإيزيدية وجراح الفرمانات الـ 74 العميقة
في المعتقد الإيزيدي، تُبارك إلهة الشمس "شي" شمس الأرض وتُديم الحياة وهي تكوين مقدس، كل إنسان هو في الواقع جزء من الإيزيدية منذ ولادته، لأن الإيزيدية فلسفة حياة منسجمة مع جوهر الوجود وإيقاع الطبيعة، إنها تعرف الطبيعة وتعرف روحها وتتعلم من الطبيعة التي هي مصدر معرفة الحياة، على مر العصور تكررت الفرمانات على هذه الأرض مما ألحق أكبر ضرر بالإيزيدية وجوهرها، وقد نشر المجتمع الإيزيدي هذه الفلسفة الحياتية على مر الزمن، فاقداً جزءاً من ذاته مع كل فرمان واستمر هذا التشرذم حتى الفرمان الرابع والسبعين.
فكروا ملياً بفرمانات تكررت لقرون سُلبت منهم أسباب الحياة، وفي عام ٢٠١٤ مع الهجوم الوحشي لداعش والفرمان الـ ٧٤ انفتحت الجروح التي لم تلتئم بعد بجراحٍ أكبر، هذه المرة لم يواجه الشعب الإيزيدي خطر فقدان حياته فحسب بل خطر فقدان هويته وعقيدته وذاكرته التاريخية ومستقبله أيضاً.
بهذه الخيانة الفادحة وتداعيات التهجير، ابتعد الشعب الإيزيدي أكثر فأكثر عن فلسفة حياته وجوهره، بعد الفرمان بالكاد تنفسوا الصعداء في أحضان جبال شنكال، وجاءت مرحلة بدا فيها أن كل شيء قد انتهى، في تلك اللحظة بالذات هبَّ مقاتلو حزب العمال الكردستاني لنجدة الإيزيديين، وبفضل مقاتلي الكريلا نجا المجتمع الإيزيدي الذي تشتت في الصحاري والجبال تحت حر الصيف اللاهب وبقوا على قيد الحياة، واستعاد الشعب الإيزيدي في ذلك اليوم أنفاسه، أنفاس المقاومة والأمل.
فرمان الخيانة... جراح لا تُنسى
قبل الفرمان كان عدد سكان شنكال حوالي 360 ألف نسمة، هرب الإيزيديين إلى جبال شنكال حيث نجوا بفضل مقاتلي حركة الحرية، من وصلوا إلى الجبال نجوا أما من بقوا فقد قُتلوا أو اختطفوا على يد داعش، قبل الفرمان سلّم 12 ألف من عناصر بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني المسؤولين عن الدفاع عن شنكال وحوالي 7 آلاف من قوات الأمن العراقية شنكال إلى داعش دون إطلاق رصاصة واحدة، هذا جعل الإيزيديين عزلاً عاجزين وبدون حماية.
تم إيجاد وتحديد أكثر من 90 قبراً حتى الآن، فهناك مئات القبور، اختطف داعش 10 آلاف إيزيدي معظمهم من النساء والأطفال، ورغم أن بيانات الأمم المتحدة تشير إلى أن العدد 7 آلاف إلا أن العدد الحقيقي غير معروف نظراً لعدم فتح المقابر الجماعية وعدم وجود وثائق دقيقة.
اعتبر المجتمع الإيزيدي هذا الموقف من جانب بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني خيانة، وقد خلّف هذا الموقف إلى جانب هجمات داعش الوحشية، صدمةً عميقةً لدى المجتمع الإيزيدي، لم يقتصر هذا الألم على عام 2014 بل ظل جرحاً لم يندمل حتى يومنا هذا.
نيران المقاومة في جبال شنكال: خط الدفاع الكريلا
شكّل الكريلا الذين يناضلون من أجل الحرية مثل فرسان درويش عفدي الاثني عشر خط دفاع في جبال شنكال، ليصبحوا درعاً يحمي الشعب، لم يكتفِ المقاتلون الذين قاوموا داعش بشراسة فقط بالقتال بل فتحوا ممراً وباباً للأمل والحياة للمجتمع الإيزيدي، وبفضل هذا أُحبط سيناريو الإبادة الجماعية المُعدّ للمجتمع الإيزيدي بأكمله ومخطط تدمير شنكال، مع فتح الممر الإنساني نجا آلاف الإيزيديين وحافظ المجتمع الإيزيدي على وجوده رغم الآلام والمعاناة الكبيرة، إلا إن انتصار هذه الفترة التاريخية كان بفضل تضحيات وعزيمة الكريلا.
مع كل هذه الهجمات لم تصبح جبال شنكال ملجأً للمجتمع الإيزيدي فحسب، بل أصبحت ملاذاً آمناً ومصدر حماية بالغة، نظّم الشباب الإيزيديين أنفسهم في مجال الدفاع عن النفس، متحدين تحت مظلة وحدات مقاومة شنكال (YBŞ) كما شكّل دور المرأة في هذا الخط من المقاومة نقطة تحول تاريخية، في هجمات داعش كانت النساء أكثر من عانين من جراحٍ وآلام بالغة، ومع معاناتهن اندفعن إلى جبهات القتال الأمامية، قاتلن داعش بشجاعة وعزيمة وصمود كبير، كلما قاتلن أكثر ازدادوا قوة وازدادت إرادتهن وثقتهن بأنفسهن.
نظمت النساء الإيزيديات أنفسهن ضمن وحدات نساء شنكال (YJŞ)، وبفضل التدريب الفكري والعسكري الذي تلقينه على يد مقاتلات الكريلا، لم تصبحن مقاتلات فحسب بل أصبحن في نفس الوقت رائدات في مجتمعهن وأصبحن أول قوة دفاع نسائية في العراق، واليوم بمقاومتهن وعزيمتهن في شنكال تواصلن إلهام المجتمع الإيزيدي وجميع نساء العالم على درب المقاومة، وقال القائد عبد الله أوجلان عن نضال النساء الإيزيديات "النساء الإيزيديات هن الرائدات الرئيسيات في هذا النضال، ورغم أشد الهجمات لم تستسلمن أبداً، وبمقاومتهن في شنكال أحيَين أمل حياة كريمة لأنفسهن وللشعوب الأخرى".
لقد كانت المرأة الإيزيدية رائدةً في نهضة شنكال على مدى أحد عشر عاماً بصمودها، وتصدرت جبهات النضال في ساحات المقاومة، وقدمت تضحيات كبيرة في تنظيم مختلف مناحي الحياة، وناضلن بثبات ضد التمييز الجنسي في المجتمع واتخذن من المعرفة اساساً لهن، وحققن تقدماً كبيراً في بناء مجتمع ديمقراطي في شنكال.
وخلال هذا النضال الذي استمر أحد عشر عاماً تحررت آلاف النساء والرجال والأطفال الإيزيديين على يد قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة.
عدم الاعتراف بالإبادة الجماعية وكفاح الشعب الإيزيدي
لا تزال دول العالم تُصر على عدم الاعتراف بالإبادة الجماعية المرتكبة بحقّ الإيزيديين، وتستمرّ العديد من الدول تجنباً لفضح تعاونها مع داعش في انتهاج سياسة الصمت والتقاعس، يصعب هذا الإنكار والصمت مساعي الإيزيديين ويعيق تحقيق العدالة، نتيجة للنضال الدؤوب الذي خاضه الإيزيديين والكرد، ونتيجةً للضغط الشعبي وجهود منظمات حقوق الإنسان اعترفت 18 دولة رسمياً بالإبادة الجماعية، لكن العراق الذي ارتُكبت هذه الجرائم على أرضه لم يعترف بعد بالإبادة الجماعية المرتكبة بحقّ الإيزيديين، بل اختار سياسة الإنكار مُخالفاً بذلك النظام الديمقراطي الأصيل والمستقل.
من جهة أخرى خلال أيام هجوم داعش على شنكال، أثارت سياسة الحزب الديمقراطي الكردستاني بالانسحاب والتخلي عن المنطقة غضباً وردود فعلٍ شديدة من المجتمع الإيزيدي، وقد فرض هذا الرد الاجتماعي ضغطاً كبيراً على الحزب الديمقراطي الكردستاني، ونتيجة لهذا الضغط اضطر برلمان إقليم كردستان لإعلان الثالث من آب/أغسطس "يوم الإبادة الجماعية للإيزيديين".
تحرير شنكال وإحياء المجتمع الإيزيدي
يقول القائد عبد الله أوجلان "الإيزيدية أكثر من مجرد عقيدة وتقاليد، إنها ترتكز على العيش بسلام مع الطبيعة، ولأن الأنظمة القمعية لطالما اعتبرت الإيزيديين تهديداً لها، فقد تركوا آثاراً لحياة متساوية وحرة حتى يومنا هذا، عندما واجهوا ظلماً واضطهاداً شديدين لم يتراجعوا ولم يستسلموا بل تمسكوا بجبال كردستان والتفوا بإيمانهم بالتاريخ والحرية، حاولت هذه الأنظمة حظر ومنع لغتهم ودينهم، لكنهم حافظوا على ثقافتهم وحموها، وعندما فُرض عليهم الدمار أعادوا بناء أنفسهم من رمادهم".
وبفضل مقاتلي الكريلا الذين يقاتلون من أجل الحرية ومقاتلي وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة ووحدات الشباب الإيزيدية ودعم الأمهات الإيزيديات، خاض المجتمع الإيزيدي معركة طويلة الأمد ضد داعش في مركز شنكال عام 2015 وبعد هذه المقاومة الحثيثة تم تحرير شنكال بالكامل من داعش.
دفع تحرير شنكال المجتمع الإيزيدي إلى إعادة تنظيم نفسه في نظام ديمقراطي مستقل، ووضع نهاية لتاريخ حافل بآلام الديكتاتوريات، لم يعد الشعب الإيزيدي يقتصر على الدفاع عن وجوده بل بنى نفسه على أسس اجتماعية ودفاعية مقدماً نموذجاً لشعوب الشرق الأوسط قائماً على الحلول، نظام شنكال المستقل الذي يتطور تحت قيادة النساء تشكل على يد النساء، واليوم يدين المجتمع الإيزيدي الفرمانات التي تعرض لها عبر التاريخ، ويستطيع محاسبة صانعيها ومنفذيها وقد وصل إلى خط الوجود بموقفه وإصراره على عقيدته وهويته وقومتيه.
إن كلمات القائد عبد الله أوجلان "الشعب الإيزيدي ليس وحيداً، لقد عانى كثيراً من الفرمانات الـ 73، لكنه وصل إلى هذه الأيام بالمقاومة، مع عملية السلام والمجتمع الديمقراطي التي نطورها لن تبقى هناك فرمانات، لقد حانت نهاية الفرمانات، وجودهم في هذه المنطقة شرف لكل من يسعى للسلام والأخوة" تُظهر أن الشعب الإيزيدي قد بنى حياة جديدة قائمة على نموذج الأمة الديمقراطية.
لقد خلق المجتمع الإيزيدي الذي أصبح اليوم جزءً من النموذج الاجتماعي الديمقراطي والبيئي وتحرير المرأة، نوره الخاص في وجه ظلمات الفرمانات.
يعيش معظم الإيزيديين من حيث الموقع الجغرافي في جبال شنكال وفي منطقتي شيخان ولالش في إقليم كردستان وفي العديد من مدن وقرى شمال كردستان، وفي روج آفا أيضاً وفي ظل الإدارة الذاتية أسس الإيزيديين كياناً اجتماعياً فريداً بإيمانهم وهويتهم.