صوت لا يُسكت... الصحفيات الفلسطينيات في مرمى النار

وسط نيران الحرب وتحت وابل القصف، وقفت الصحفيات الفلسطينيات في خط المواجهة الأول، توثقن الحقيقة بعدساتهنّ وأقلامهنّ، متحديات الموت والانتهاكات لمحاولة إيصال صوت شعب يواجه الإبادة.

نغم كراجة

غزة ـ في قلب المعركة، حيث تتعالى أصوات القصف وتتناثر الشظايا، تقف الصحفيات الفلسطينيات في مواجهة الموت، وهنّ تحملن كاميراتهن وأقلامهنّ، غير آبهات بالمخاطر التي تحيط بهن من كل جانب.

لم تكن حرب السابع من تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٣ على غزة مجرد معركة عسكرية، بل كانت ساحة اختبار قاسية لصمود الصحافة النسوية التي واجهت تحديات جمّة، بدءاً من الاستهداف المباشر، مروراً بالانتهاكات الجسيمة وصولاً إلى محاولات إسكات الصوت النسائي في الإعلام، رغم كل هذا، لم تتراجع الصحفيات عن أداء واجبهنّ في توثيق الحقيقة، غير مكترثات بالتهديدات التي تطاردهنّ في كل لحظة.

 

الصحفيات في مواجهة الموت

تصف الصحفية سها سكر المشهد بعبارات موجعة، قائلة "حينما ننزل إلى الميدان، نشعر وكأننا نحمل أرواحنا على كفّنا، فاحتمالية أن نُقتل أو نُصاب قائمة في كل لحظة، لم يكن الأمر مجرد خوف من قذيفة طائشة، بل كان استهدافاً مباشراً ومتعمداً لكل من يحمل كاميرا أو يدوّن الحقيقة، فقدنا زملاء وزميلات أثناء تأدية واجبهم، ووجدنا أنفسنا في دائرة الاستهداف لأننا ببساطة نوثق ما يجري".

خلال حرب السابع من أكتوبر 2023، أصبحت التغطية الإعلامية مغامرة محفوفة بالمخاطر، لم تقتصر التهديدات على القصف العشوائي، بل تجاوزت ذلك إلى ملاحقة الصحفيات عبر الطائرات المسيّرة والقناصة، كما حدث مع الصحفية صافيناز اللوح التي وجدت نفسها هدفاً للطائرات الإسرائيلية، لمجرد أنها كانت تنقل صورة لما يحدث على الأرض، تعرضت لإصابات متكررة، نجت منها بأعجوبة لكنها لا تزال تعيش آثارها الجسدية والنفسية حتى اليوم.

 

 

الاعتقالات والانتهاكات... حرب أخرى على الصحفيات

لم تكن الحرب العسكرية هي الوحيدة التي خاضتها الصحفيات، بل واجهن أيضاً سلسلة من الانتهاكات الممنهجة التي طالت حياتهن الشخصية والمهنية، تروي صافيناز اللوح واحدة من أقسى اللحظات التي عاشتها "كنتُ أغطي الأحداث داخل مشفى "شهداء الأقصى" عندما تعرض المكان لقصف مباشر، أصبتُ بشظايا في مختلف أنحاء جسدي، وكدتُ أفقد حياتي، لم يكن ذلك الاستهداف الأول، فقد فقدتُ منزلي بالكامل بعد أن دُمر بثلاث غارات متتالية، ليصبح مجرد كومة من الركام، كما فقدتُ شقيقي الصحفي أحمد اللوح، الذي استُهدف أثناء تغطيته لعمل طواقم الدفاع المدني، كانت لحظة لا تُنسى، أن تفقد عائلتك ومنزلك وأنت لا تزال تحمل الكاميرا لتوثيق جرائم الاحتلال".

لم تكن صافيناز اللوح الوحيدة التي تعرضت لهذه الانتهاكات، بل عشرات الصحفيات وجدن أنفسهن بلا مأوى، بعد أن استُهدفت منازلهن عمداً، بالإضافة إلى ذلك حرمت القيود العسكرية الكثيرات من الوصول إلى أماكن الأحداث، فضلاً عن الاعتقالات التعسفية التي طالت بعضهنّ في أوقات سابقة كجزء من محاولات تكميم الأفواه وعرقلة التغطية الإعلامية. 

 

التوثيق تحت النار

رغم المخاطر التي أحاطت بهنّ، لم تتوقف الصحفيات عن أداء دورهنّ في توثيق الانتهاكات، حتى في أحلك الظروف، وتؤكد سها سكر أنه "كانت التغطية الإعلامية في هذه الحرب مختلفة عن أي حرب سابقة، لم يكن هناك بيئة عمل مناسبة، لم تتوفر الكهرباء أو الإنترنت خاصة في شمال غزة حيث كنا نواجه صعوبة بالغة في إرسال المواد الإعلامية، في بعض الأحيان، اضطررنا للتوقف عن العمل، ليس بسبب الخوف ولكن لأننا ببساطة لم نكن نملك الأدوات الأساسية لإنجاز مهامنا".

ورغم كل هذه الصعوبات، استمرت الصحفيات في النزول إلى الميدان، معتمدات على وسائل بدائية لنقل الأخبار، كانت المستشفيات والملاجئ المؤقتة تتحول إلى مقرات عمل لهن حيث يوثقن شهادات الناجين وصور الدمار الهائل الذي حلّ بالقطاع.

 

الرقابة الإعلامية

لم تقتصر الضغوط على الاستهداف العسكري، بل كانت هناك أيضاً محاولات مستمرة لتضييق الخناق على الصحفيات، ومنعهنّ من نقل الحقيقة، وتروي صافيناز اللوح كيف كانت طائرات "الكواد كابتر" تلاحقها أثناء عملها، محاولةً إرهابها وإجبارها على التوقف عن التغطية، كما أن هناك العديد من الشبكات الإعلامية التي لم توفر للصحفيات أي دعم، سواء من حيث الحماية أو حتى تأمين الإنترنت اللازم لنقل الأخبار.

وأوضحت سها سكر أن المشكلة لا تتوقف عند حد المخاطر الجسدية، بل تمتد إلى غياب الدعم المؤسسي للصحفيات خاصة العاملات بنظام القطعة، اللواتي لا تتمتعن بأي ضمانات تحميهنّ في حال التعرض للاستهداف أو الاعتقال، مضيفةً "لا نطلب امتيازات، بل نطالب بحقوقنا الأساسية كصحفيات، نريد بيئة عمل آمنة، نريد أن يُسمح لنا بنقل الحقيقة دون تهديد أو ملاحقة".

 

دور الصحافة النسوية

في ظل كل هذه التحديات، أثبتت الصحفيات أنهنّ في قلب المعركة، ليس فقط كناقلات للأحداث، بل كجزء أساسي من النضال الإعلامي الفلسطيني من أجل إثبات الوجود، وإيصال صوت الضحايا إلى العالم.

وأكدت صافيناز اللوح "لا نوثق فقط ما يحدث، نحن نحمل رسالة، نريد أن يعرف العالم حجم المأساة التي نعيشها، في كل مرة كنا ننقل فيها صورة لطفل يُنتشل من تحت الأنقاض، أو لأسرة تُباد بالكامل، كنا ندرك أننا لا نوثق مجرد مشهد، بل ننقل حقيقة لا يريد الاحتلال أن تصل إلى أحد". 

وأوضحت أن معاناة الصحفيات لم تنته عند ذلك، فلا تزال الكثيرات تعشن في خيام على أنقاض منازلهن، تكافحن لتأمين احتياجاتهن الأساسية، وسط غياب أي دعم أو اهتمام بوضعهن.

 

الصحفيات تسطرن التاريخ بدمائهن

ما قدمته الصحفيات الفلسطينيات خلال الحرب الأخيرة لم يكن مجرد عمل صحفي، بل كان بطولة حقيقية، سُطّرت بدماء وجراح ومعاناة لا توصف، في كل مرة كان هناك قصف، كانت هناك عدسة تلتقط المشهد، وفي كل مرة كان هناك قتيل، كانت هناك صحفية توثق الجريمة.

ورغم التهديدات والانتهاكات، لم تتوقف الصحفيات عن أداء دورهنّ، لأنهن أدركن أن الحقيقة تستحق أن تُنقل، مهما كان الثمن اليوم، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها لا تزال هناك حرب أخرى يخضنها، وهي حرب البقاء والاستمرار في العمل وسط ظروف تكاد تكون مستحيلة، لكنهنّ أثبتن أن المرأة الفلسطينية ليست مجرد شاهدة على الأحداث بل صانعة للتاريخ، وقلم لا ينكسر تحت القصف.