ثقافة ذكورية وغياب الحماية... معاناة النساء في المؤسسات الطبية
تتحمل الممرّضات في كرماشان بشرق كردستان أعباء العمل الشاق إلى جانب التمييز الجندري، الضغوط الثقافية والتحرش، ما يجعل المطالبة بحقوقهن محفوفة بالمخاطر.
نسيم أحمدي
كرماشان ـ يرتدي الممرّضون المعاطف البيضاء ويكرّسون جهودهم بلا توقف لإنقاذ أرواح أشخاص لا يعرفونهم، ومع ذلك يُختزل عملهم الجليل في مجرد "واجب" لأن لقبهم هو "ممرّض"، وقلّة من الناس تدرك أن وراء هذا اللقب البسيط ظاهرياً، رصيداً ضخم من المعرفة المتخصصة، والمهارة المهنية، وضغوطاً نفسية هائلة، وإرهاقاً جسدياً مستمراً.
ليالي السهر بجانب المرضى، وأيام مواجهة الأزمات ونقص الكوادر، ولحظات اتخاذ القرار بين الحياة والموت، كلها حقائق قلّما تُرى، إنهم الأعمدة الخفية لنظام الصحة؛ أعمدة لولا صمودها لما استمر أي بناء علاجي، قيمة عملهم لا تكمن في المسمّى الوظيفي، بل في التزامهم العميق بكرامة الإنسان وإنقاذ الأرواح، ومع ذلك، يواجه الممرّضون تمييزاً ونقصاً في الموارد، وتزداد هذه المعاناة حين تكون الممرّضة امرأة، إذ تتضاعف أبعاد النقص واللامساواة.
الأعمدة الخفية لنظام الصحة
الممرضات لا يواجهن فقط ضغوط العمل المهني، بل يتحملن أيضاً أعباء التوقعات الثقافية، الصور النمطية المرتبطة بالنوع الاجتماعي، والقيود الهيكلية، هذه التحديات لا تؤثر على جودة حياتهن الوظيفية فحسب، بل تنعكس كذلك على صحتهن النفسية، أمنهن الوظيفي وفرص تقدمهن المهني، ورغم أنهن يتحملن العبء الأكبر في الرعاية، إدارة الأزمات ومرافقة المرضى، كثيراً ما يُختزل دورهن الحيوي في مجرد "واجب".
نرجس. ح، الممرضة العاملة في مستشفى شهداء كرماشان، تروي جانباً من هذه المعاناة "من أبرز المشكلات التي نواجهها التمييز في الرواتب بين الأطباء والممرّضين، عدم دفع الأجور والمزايا كاملة وفق القوانين، نقص الكوادر البشرية، غياب الخدمات الترفيهية، وتأخر تسوية المستحقات".
وأضافت "هذه الأعباء تثقل كاهل جميع الممرّضين رجالاً ونساءً، لكنها بالنسبة للممرّضات تتضاعف بسبب عامل الجنس، إذ كثيراً ما يتم تهميشهن في القرارات الإدارية والتعرض لسلوكيات تمييزية، وهو ما يترك أثراً عميقاً على جودة عملنا وحياتنا كممرّضات".
تواجه النساء في المجتمع، مهما كان موقعهن أو درجتهن، أشكالاً متجددة من التمييز والضغط القائم على النوع الاجتماعي، وفي بيئات العمل الصحي، كثيراً ما تكون الممرضات هدفاً لنظرات وسلوكيات جنسية من قبل بعض أصحاب العمل أو الأطباء الرجال، لمجرد كونهن نساء، هذه الممارسات المقترنة بغياب آليات دعم وحماية فعّالة، تدفع الكثير منهن إلى الصمت خوفاً من فقدان المصداقية أو التعرض لمزيد من الأذى.
وأوضحت نرجس. ح أنه "في كثير من الأحيان ينظر الأطباء الرجال إلى الممرضات نظرة دونية وأداتية، ويعاملونهن بكلمات أو أفعال تحمل طابعاً جنسياً مسيئاً، لكن بما أنهم أطباء، لا تجرؤ أي ممرضة على الاعتراض، إذ يسود اعتقاد خاطئ بأن أي شكوى من ممرضة لا بد أن تكون محاولة لتشويه سمعة الطبيب أو نتيجة سلوك غير لائق منها، هناك تصور مغلوط بأن الأطباء الرجال في مكانة رفيعة تجعل الممرضات يسعين لجذب انتباههم، وإذا فشلن، يلجأن إلى اتهامهم زوراً، ولهذا، نادراً ما يُعترف بأن طبيباً قد يرتكب تحرشاً بحق ممرضة".
هذه التجربة لا تمثل حالة فردية فحسب، بل تكشف عن خلل بنيوي في بيئات العمل الطبية، حيث تتقاطع الثقافة الذكورية مع غياب قنوات آمنة للإبلاغ، لتترك الممرضات في مواجهة العنف والتحرش بلا حماية أو صوت، وعندما تجرؤ بعضهن على الاعتراض، يجدن أنفسهن أمام موجة من الأحكام المسبقة والهجمات الذكورية التي تجبرهن في النهاية على الصمت.
تبعات التمييز المضاعف
تواصل نرجس. ح حديثها قائلة "كممرّضات، وفي وقتٍ كان كثير من زملائنا الرجال يترددون في المشاركة في التجمعات، كنّا نحن من يتقدّم الصفوف لننظم اعتصامات سلمية دفاعاً عن حقوقنا الإنسانية والمهنية، لكن في كل مرة واجهنا انتقادات وضغوطاً من المسؤولين وحتى من بعض الزملاء".
وأفادت أنه "في العام الماضي، وبعد تنظيم تجمع احتجاجي ضد انتهاك حقوقنا، استُدعينا مباشرة، وأُجبرنا على توقيع تعهد بعدم تكرار أي تجمع مماثل، وخلال التحقيقات، كانوا يكررون علينا "أنتن نساء ويجب أن تحافظن على حرمتكن، رفع اللافتات والهتاف يقلل من شأنكن وقد يعرّضكن لفقدان عملكن ودخلكن"، كما حذرونا من أن أي تغطية إعلامية خارجية قد تؤدي إلى اعتقالنا، بهذه التهديدات أرغمونا على الصمت، وبعد ذلك أيضاً، نصحنا بعض الزملاء بالتوقف عن هذه التحركات حتى لا نفقد ما تبقى لنا من دخل محدود".
هذه التجربة لا تمثل مجرد حالة فردية أو رواية مجموعة صغيرة، بل تكشف عن صورة أعمق لبنية التمييز المضاعف الذي يُفرض على النساء في المؤسسات العلاجية، فالممرضات يتحملن عبء العمل الشاق في الرعاية الصحية، وفي الوقت ذاته يواجهن قيوداً ثقافية صارمة، وضغوطاً إدارية، ونظرات قائمة على التمييز الجنسي، في مثل هذا السياق، تتحول المطالبة بالحقوق من كونها ممارسة طبيعية إلى فعل محفوف بالمخاطر، إذ يُنظر إلى أي اعتراض نسوي باعتباره خروجاً عن الاحترام أو تهديداً لاستقرار المؤسسة.
هذا الواقع يؤدي إلى إخفاء الكثير من المشكلات البنيوية داخل النظام الصحي، وعلى رأسها التمييز الوظيفي والجندري، لتظل مطموسة تحت غطاء الصمت، وهكذا يستمر مسلسل اللامساواة، حيث تجد الممرضات أنفسهن في مختلف مواقعهن الاجتماعية محاصرات داخل دائرة مغلقة من القمع والتهديد والتمييز والإجبار على الصمت، ما لم يُكسر هذا الصمت وتُفكك هذه البنية الذكورية، ستبقى أزمات النظام الصحي بالنسبة للنساء الممرضات غير مرئية وغير محلولة، وسيظل حضورهن محكوماً بالهامشية والتهميش.