لبنان بين الديمقراطية الشكلية والتقاسم الطائفي
عقود من النضال الحقوقي ولا يزال قانون الجنسية اللبناني كما هو لم يتغير منذ عام 1925، فآلاف اللبنانيات يواجهن التمييز في منح جنسيتهن لأبنائهن، فالمخاوف السياسية والطائفية تحول دون تحقيق العدالة والمساواة في هذا الملف.

فاديا جمعة
بيروت ـ رغم المطالبات الحقوقية المتزايدة لا تزال النساء محرومات من منح جنسياتهن لأبنائهن، في تمييز قانوني مستمر منذ عقود، فواقع اللبنانيات يعكس حجم المعاناة التي تواجهنها.
ما يزال لبنان بلداً تحكمه الطائفية وإن كان ثمة يتغنى إلى الآن بأن الجمهورية اللبنانية تعيش في ظل ديمقراطية مثالية، فيما الواقع يعكس صورة مختلفة تماماً، خصوصاً وأن هناك تقاسماً طائفياً للسلطة، ولا سيما في المواقع الثلاثية الأساسية (رئاسة الجمهورية، رئاسة مجلس النواب ورئاسة الحكومة)، فضلاً عن مواقع الفئة الأولى (قيادات الأجهزة الأمنية وبعض مواقع الإدارات العامة)، وهذا يعني أن التقاسم الطائفي يقصي أصحاب الكفاءة، نساء ورجالاً، لصالح أتباع الزعماء الطائفيين.
والمشكلة لا تقتصر على هذا الجانب فحسب، فثمة إجحاف مزمن يطال المرأة اللبنانية خصوصاً، حيث تحرم من منح جنسيتها إلى أبنائها وزوجها الأجنبي، وهذه واحدة من القضايا الحقوقية والاجتماعية الشائكة في لبنان، وعلى الرغم من الجهود المستمرة للمطالبة بالمساواة بين الجنسين في هذا السياق، إلا أن العوائق السياسية والطائفية لا تزال تحول دون تعديل قانون الجنسية الحالي.
الحراك النسائي في لبنان... معركة المساواة في الجنسية
لقد كانت الجمعيات النسائية في مقدمة النضال من أجل تمكين المرأة اللبنانية من منح جنسيتها لأبنائها وزوجها الأجنبي، حيث بدأت هذه الجهود منذ خمسينيات القرن الماضي، ورغم أن العقبات المرتبطة بطبيعة النظام اللبناني حالت دون تحقيق هذا الهدف حتى الآن، فإن هذه الجمعيات لم تتراجع عن مساعيها.
ومن أبرز المبادرات في هذا المجال، حملة "جنسيتي حق لي ولأسرتي" التي تركز على دعم حقوق النساء اللبنانيات في نقل الجنسية من خلال الضغط والمناصرة وتقديم الاستشارات القانونية، وكذلك حملة "جنسيتي كرامتي" التي تسلط الضوء على الجوانب الدستورية لعدم المساواة، مطالبة بمنح المرأة نفس حقوق الرجل في منح الجنسية.
الجذور القانونية والتشريعية
يعود أصل المشكلة إلى قانون الجنسية اللبناني الصادر عام 1925، والذي يقر بمنح الجنسية تلقائياً للأبناء إذا كان الأب لبنانياً، بينما تُحرم الأم اللبنانية من هذا الحق، الأمر الذي يضع أبناءها الأجانب في ظروف قانونية معقدة فيما يتعلق بالإقامة، والعمل، والحقوق الأساسية.
وعلى الصعيد التشريعي، شهد مجلس النواب محاولات متكررة لإقرار تعديلات تضمن حق المرأة اللبنانية في منح جنسيتها لأبنائها، ومن أبرز هذه المبادرات مشروع قانون النائبة السابقة رولا الطبش الذي يدعو إلى منح المرأة اللبنانية حق نقل جنسيتها لأبنائها دون أي تمييز، ومشروع الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية الذي يقترح منح الأبناء القاصرين الجنسية، بينما يحصل الأبناء البالغون على "بطاقة خضراء" توفر لهم حقوقاً مدنية واقتصادية، وكذلك مشروع وزير الخارجية الأسبق جبران باسيل الذي يمنح المرأة اللبنانية حق نقل جنسيتها باستثناء المتزوجات من فلسطينيين وسوريين، وهو ما واجه انتقادات حقوقية واسعة.
ولكن تلك الجهود تواجه تحديات كبيرة، أبرزها رفض بعض القوى السياسية التي تخشى من انعكاسات ديموغرافية قد تؤثر على التوازن الطائفي في البلاد، كما تُعتبر القضية "حساسة سياسياً" بسبب وجود نسبة كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين والسوريين المتزوجين من لبنانيات، مما يثير مخاوف من "التوطين" ويزيد من معارضة التعديل.
في هذا السياق، تسلط شادن أسطة، وهي لبنانية متزوجة من رجل إيطالي، الضوء على المعاناة الشخصية التي تواجهها بسبب هذا القانون. تقول إنها تعيش مع ابنها أنطوني في لبنان بعد انفصالها عن زوجها، وتجد صعوبة في تقبل أن ابنها المولود والمقيم في لبنان، يحتاج إلى تصريح للخروج، بينما تُمنح الجنسية لأشخاص آخرين لأسباب سياسية.
ولفتت إلى أن هذا الأمر يعكس تأخراً في تحقيق العدالة والمساواة، مشيرة إلى أن أبناء اللبنانيين يحصلون على جنسيات الدول الأخرى عند السفر، ومن حق اللبنانيات أن يمنحن جنسيتهن لأبنائهن "من حقنا كنساء لبنانيات أن نمنح الجنسية لأبنائنا، أتحدث عن حق مكتسب لي كامرأة لبنانية ولدت في لبنان وأعيش فيها، وابني معي في لبنان، إذا أراد ابني أن يخرج إلى أي مكان قريب فهو يحتاج إلى تصريح، بينما هناك سياسي لأنه يريد أصواتا في الانتخابات جمع كيفما كان أناسا من لبنان وقام بتجنيسهم ومنحهم الجنسية اللبنانية، إننا نتحدث عن الحرية والتطور، لكننا ما زلنا متأخرين في الأمور الأساسية".
وتساءلت عن سبب المنع، مؤكدة أن التبريرات السياسية لم تعد مقبولة، خاصة عندما تُمنح الجنسية لأغراض سياسية بينما يُحرم من ولد وعاش في لبنان من هذا الحق، معبرةً عن إحباطها من الوضع الراهن مطالبةً بتحقيق العدالة لأبنائها وأبناء اللبنانيات.
وعبرت شادن أسطة عن استيائها من التبريرات التي تُقدم لرفض التعديل، معتبرة أن هذه الحجج لم تعد مقنعة، خاصة في ظل منح الجنسية لأشخاص لأسباب سياسية، بينما يُحرم منها من ولد ونشأ في لبنان.
"قضية إنسانية مهملة"
لا تعد شادن أسطة الوحيدة التي تعاني من منع منح جنسيتها لابنها، فهناك الكثيرات، من بينهن سمر عاصي، المتزوجة من فلسطيني وأم لولدين، التي عبرت عن إحباطها من النظام الطائفي الذي يحرم أبناء اللبنانيات من حق المواطنة تحت ذريعة الحفاظ على التوازن الطائفي، رغم أن الجنسية تُمنح لأشخاص لأسباب سياسية وطائفية.
وأضافت "للأسف نحن نعيش في بلد طائفي يفتقد الحد الأدنى من العدالة الإنسانية، وإلا ما معنى أن يحرم ولداي من الحصول على الجنسية اللبنانية، كما هو الحال في سائر دول العالم التي تحترم القيم الإنسانية، بينما في لبنان يدعون أن هذا الأمر قد يخل في التوازن الطائفي، وهذا يعني انعدام قيم المواطنة، فيما تم تجنيس المئات والآلاف من غير المستحقين لأسباب سياسية وطائفية".
وأكدت على أن هذا الحرمان يشكل ظلماً صارخاً، إذ أن آلاف النساء اللبنانيات المتزوجات من جنسيات مختلفة ما زلن يعانين من القيود القانونية التي تمنعهن من منح جنسيتهن لأبنائهن، رغم سنوات من النضال النسوي في سبيل تحقيق المساواة "ما نشهده اليوم ظلم لا يوصف، لا بل أكاد أقول اضطهاداً لآلاف النساء المتزوجات من جنسيات مختلفة، وحرمن من منح جنسيتهم اللبنانية لأبنائهن".
وأشارت إلى أن وضع أبنائها أكثر تعقيداً كونهم فلسطينيين، حيث يُحرم الفلسطينيون من الحقوق المدنية الأساسية، بما في ذلك حق العمل، مما يزيد من معاناتهم ويضع مستقبلهم في مهب الريح، مستنكرة حقيقة أن الاعتبارات الطائفية والمناطقية لا تزال تطغى على الحقوق الإنسانية الأساسية في لبنان، متسائلة عن المنطق الذي يبرر هذا التمييز المستمر "بما أنني من متزوجة من فلسطيني فالمعاناة أشد وأقسى على أبنائي، لأن الفلسطيني لا يتمتع بأي حقوق مدنية، ولا يحق له على سبيل المثال العمل، قمة الظلم أن أحرم أنا اللبنانية من منح ولداي جنسيتي وهي حق لهم".
أسباب تعثر تعديل قانون الجنسية في لبنان
رغم عقود من النضال الحقوقي والنسوي، لا يزال تعديل قانون الجنسية في لبنان يواجه عراقيل متعددة، منها ما هو معلن ومنها ما يبقى غير مصرح به بشكل واضح. ومن أبرز هذه الأسباب الاعتبارات الطائفية والسياسية، حيث يستخدم بعض السياسيين مبرر الحفاظ على "التوازن الديموغرافي الطائفي" لمنع تعديل القانون، خاصة عندما يتعلق الأمر بمنح الجنسية لأبناء اللبنانيات المتزوجات من فلسطينيين وسوريين، إذ يخشى البعض من تغيير الخريطة السكانية في بلد يقوم على المحاصصة الطائفية.
بالإضافة إلى الحساسيات الإقليمية، حيث يرتبط ملف الجنسية بقضايا اللاجئين الفلسطينيين، حيث يرفض بعض الأطراف منح الجنسية لأبناء الفلسطينيات بحجة رفض "التوطين"، متجاهلين أن هناك لبنانيات متزوجات من جنسيات أخرى غير فلسطينية وسورية، وكذلك غياب الإرادة السياسية الجادة، واستخدام ملف الجنسية كورقة تفاوض ففي بعض الأحيان، يتم التعامل مع مسألة منح الجنسية على أنها جزء من صفقات سياسية، بدلاً من الاعتراف بها كحق إنساني يجب إقراره دون تأخير.
والأبرز تهميش صوت النساء عن مواقع القرار السياسي، وهو ما يدفع لبقاء قضاياهن معلقة أو مهمشة، ويتم النظر إليها من منظور فئوي بدلاً من كونها مسألة وطنية، مما يجعل تحقيق التغيير أكثر صعوبة.