إيران وتركيا تستغلان الأزمات لتبرير التضييق على الحريات
تستغل كلٌّ من تركيا وإيران الأزمات كوسيلة لتبرير ممارسات القمع الممنهج، غير أن الفرق الجوهري يكمن في أن النظام الإيراني يُمارس هذا القمع بطريقة أكثر عمقاً وانتشاراً مستعيناً بالبعد الديني والأمني والدعائي لإحكام قبضته على المجتمع.

شيلان سقزي
مركز الأخبار - في معظم دول الشرق الأوسط التي واجهت حروباً أو هجمات عسكرية أو أزمات أمنية، تشهد البيئة السياسية وحقوق الإنسان سلسلة من التغييرات الجذرية، والتي غالباً ما تكون مقيدة، يُظهر التاريخ المعاصر أنه في مثل هذه الحالات، تُضيّق الحكومات، متذرّعةً بـ "الحفاظ على الأمن القومي" أو "مكافحة عوامل زعزعة الاستقرار"، نطاقَ حرية التعبير أمام النقاد والصحفيين والنشطاء المدنيين، هذه المرة تلعب "الأزمة" نفسها دوراً محورياً كرافعة وأداة للسيطرة السياسية، مما يعني أنها تمنح الحكومات فرصة إدارة الفضاء الداخلي بطريقة أكثر تحكماً.
وفي مثل هذه الظروف، تُمارس ضغوط أكبر على الصحافة، ويُعتبر أي تقرير نقدي "متحالفاً مع العدو" حتى لو كان عدواً افتراضياً، يتعرض النشطاء السياسيون وخاصة المعارضة والمنتقدون المحليون لتهم أمنية، وتزداد المبررات القانونية للاحتجاز الوقائي والرقابة، تحت ستار "المصالح الوطنية" أو "مواجهة النفوذ الأجنبي".
وعلى سبيل المثال، بعد الانقلاب المزيف والفاشل في تركيا عام 2016، تم فصل أو تعليق آلاف الموظفين المدنيين، وتم اعتقال مئات الصحفيين والناشطين السياسيين أو إجبارهم على الفرار، ولا يزال العديد من ممثلي حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) الذي أصبح الآن حزب الشعوب الديمقراطي والمساواة (DEM) والذي مثل جزءاً كبيراً من الكرد في تركيا رهن الاحتجاز بتهم أمنية غير مثبتة، أو في مصر وسوريا (تحت حكم بشار الأسد) بعد الربيع العربي اشتد القمع الشديد ضد الشباب الثوري ونشطاء حقوق الإنسان والصحفيين بعد أن عزز الجيش سلطته وواجهت منظمات المجتمع المدني قيوداً شديدة.
واستناداً إلى الخبرة التاريخية، يمكن القول إنه في ظروف مماثلة، إذا عادت دولة ما إلى الاستقرار النسبي بعد حرب خارجية أو داخلية، فإن خطر استخدام هذا الوضع للقمع الداخلي مرتفع للغاية، خاصةً إذا كان هيكل السلطة استبدادياً أو أمنياً بالفعل، في هذه الحالة تكثف الاعتقالات الجماعية والضغط القضائي المتزايد على النشطاء المدنيين بمبررات قانونية وأمنية، ويتعرض مجتمع المرأة والجماعات العرقية والأقليات والصحفيون والنشطاء السياسيون استهدافهم بذريعة "الإخلال بالنظام" وتضييق نطاق آليات المراقبة المستقلة، مثل حرية الإعلام ومؤسسات حقوق الإنسان والمحامين، أي أن تجارب دول مثل تركيا ومصر وسوريا تُظهر أن الأزمات الأمنية، سواءً كانت حقيقية أم مفتعلة، يمكن أن تُصبح منطلقاً للاستبداد غير الشرعي في ثوب فاشي.
إذا ضعفت المؤسسات المدنية وتشوّه استقلال القضاء أو استند إلى الشريعة الإسلامية، فإن عملية الانتقال من الأزمة إلى القمع الواسع تتسارع، من هذا المنظور يجب على النشطاء السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان أن يكونوا يقظين بشأن "أمننة الفضاء" بعد الحروب، كما يقع على عاتق المجتمع الدولي واجب حماية الحقوق المدنية في هذه الظروف الحرجة، التي بالنظر إلى التجارب التاريخية لمسرحية الفزاعة، لم تُؤدِّ دورها وواجبها الحقيقيين، وبقيت جميع ادعاءاتها حبراً على ورق، وبالنظر إلى تجارب عودة الاستقرار في تركيا، التي وإن كانت وهمية كادت أن تنهار، لكنها حافظت على استقرارها في السلطة بهيكل استبدادي، يمكن القول إن إيران ما بعد الحرب تستخدم الأمن والقانون، مبررات للقمع السياسي الواسع النطاق وغير المسبوق في حالة الطوارئ.
وفي تركيا وبعد انقلاب عام 2016، اعتقلت السلطات العشرات من أعضاء حزب الشعوب الديمقراطي باستخدام تهم ملفقة غير مثبتة بـ "التعاون مع منظمة إرهابية" ومن أبرز الأمثلة على ذلك السياسية والصحفية والرئيسة المشاركة لحزب الشعوب الديمقراطي فيغين يوكسيكداغ، وكذلك الرئيس المشترك لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرتاش الذين كانوا في السجون التركية منذ عام 2016، على الرغم من أوامر الإفراج العديدة من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، كما تم فصل العديد من رؤساء البلديات الكرد واستبدالهم برؤساء بلديات معينين من قبل الحكومة، وفي خطوة لاحقة أغلقت الحكومة التركية أكثر من مائة منفذ إعلامي مستقل بتهمة "التعاون مع مدبري الانقلاب أو الجماعات التخريبية"، وتم اعتقال صحفيين بارزين مثل أحمد شيك وجان دوندار ونازلي إليجاك أو طلبوا اللجوء في الخارج، وأصبحت البيئة الإعلامية خاضعة لسيطرة السلطات بالكامل وتم قمع انتقاد الحكومة بشدة، وعلى سبيل المثال كانت صحيفة جمهوريت إحدى آخر وسائل الإعلام المستقلة، هدفاً لهجمات قانونية واتُهم موظفوها "بالتعاون مع منظمة إرهابية" ذهب رئيس التحرير السابق جان دوندار إلى أوروبا وحُكم عليه بالسجن لمدة طويلة غيابياً، في الخطوة التالية أعطى أردوغان الأولوية لتطهير هائل لجهاز الدولة مع فصل الآلاف من موظفي الخدمة المدنية أو إيقافهم عن العمل، وتم تطهير الآلاف من الأشخاص في القضاء والشرطة والجيش والجامعات والأنظمة التعليمية بحجة الانتماء إلى "حركة غولن"، وحُرم الكثيرون من حقهم في العمل دون محاكمة وبأمر تنفيذي من الحكومة فقط، كما تم فصل الآلاف من أساتذة الجامعات والباحثين، واتُهمت حركة "أكاديميون من أجل السلام"، التي أصدرت بياناً ضد العمليات العسكرية التركية في المناطق الكردية، بـ "الدعاية للإرهاب" وفقدت العديد من الجامعات استقلاليتها، وفي النهاية تم تعيين رؤساء الجامعات مباشرة من قبل الرئيس.
وأُغلقت منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، ومئات المنظمات غير الحكومية وجمعيات حقوق الإنسان والمؤسسات التعليمية والخيرية، حتى المؤسسات التي كانت ناشطة في مجال الإغاثة أو الأنشطة الثقافية لسنوات بتهم باطلة وغير مثبتة، وتم سُجن بعض النشطاء مثل عثمان كافالا (مؤسس المعهد الثقافي الأناضولي)، لسنوات دون محاكمة عادلة.
تقيّد الفضاء الالكتروني في إيران... وسيلة لفرض سيطرتها على الشعب
ومن ناحية أخرى فُرضت رقابة صارمة على الفضاء الإلكتروني، وتزايدت الرقابة على الإنترنت فُحصت شبكات التواصل الافتراضي "أكس" ويوتيوب وفيسبوك أو قُيّدت في كثير من الحالات، واعتُقل مستخدمون عاديون بسبب منشورات اعتُبرت "مهينة لأردوغان" أو "تحريض على الكراهية"، وحوكم عشرات الأشخاص لمجرد إعادة نشر أخبار عن قمع الأكراد أو مواد مناهضة للحرب في سوريا، من ناحية أخرى عُزل القضاة والمدعون العامون المتمسكون باستقلال القضاء أو اعتُقلوا واستُبدلوا بأشخاص تابعين للحزب الحاكم، واستندت المحاكمات إلى "ملفات أمنية" أكثر من الأدلة الحقيقية المثبتة، وفي نهاية المطاف ساد مناخ من الرعب العام وخاف المواطنون من التعبير عن آرائهم السياسية حتى في أحاديثهم اليومية، وأُجبر مئات الآلاف على الخضوع "لتفتيشات أمنية" للحصول على وظائف حكومية مما شكل اختباراً حقيقياً لولائهم السياسي، وأصبحت الاعتقالات الليلية والفصل المفاجئ من العمل أمراً شائعاً، وفي ظل هذه الظروف القمعية مُنع أي تجمع أو مظاهرة بذريعة "حالة الطوارئ" كما تعرضت الحركات المدنية والنسوية والبيئية لضغوط شديدة، وواجه محامو حقوق الإنسان الذين دافعوا عن المعتقلين تهماً أمنية، تُظهر هذه الأمثلة الملموسة والموضوعية كيف استغلت السلطات في تركيا الأزمة الأمنية، فقيدت البنية الديمقراطية والمساحة العامة للمعارضة، وكيف استخدمت بعد الأزمة الوسائل القانونية لقمع الشرعية المُستترة، وبالطبع يُلاحظ هذا النموذج في العديد من الأنظمة شبه الاستبدادية أو الاستبدادية الجديدة، ويُمثل نموذجاً تحذيرياً لمستقبل الدول الأخرى التي تواجه أزمة أمنية.
إن المقارنة بين إيران وتركيا بعد الأزمات الأمنية المتمثلة في الانقلاب الزائف في تركيا عام 2016 والاحتجاجات الداخلية في كانون الثاني/يناير 2017 وتشرين الثاني/نوفمبر 2019، وثورة تشينشيان عام 2022 في إيران، تظهر أن كلا البلدين قد اتخذا أو يتخذان مسارات مماثلة في استخدام الأزمة لتعزيز السيطرة السياسية وقمع المعارضين، مع اختلافات في بنية وكثافة أفعالهما.
وفي تركيا بعد انقلاب عام 2016 أُعلنت السلطات حالة الطوارئ ومُددت لمدة عامين، وفي إيران بعد احتجاجات كانون الثاني/يناير 2017 وتشرين الثاني/نوفمبر 2019 والانتفاضة الشعبية في إيران عام 2022 أصبحت البيئة الأمنية أكثر خطورة مع اعتقالات واسعة النطاق للنشطاء والصحفيين والمواطنين، ففي كل من إيران وتركيا أُغلقت وسائل الإعلام الناقدة واعتقل الصحفيون، في تركيا نُفذ قمع منهجي لحزب الشعوب الديمقراطي ورؤساء البلديات الكرد والنشطاء الكرد، في إيران اشتد قمع الشعوب الكردية والبلوشية والعربية وشن حملة من الاعتقالات الجماعية في المناطق الحدودية، مثل كردستان وسيستان وبلوشستان، وفي تركيا سادت عمليات تطهير القضاة والأكاديميين والجيش تحت ستار تطهير المؤسسات من العناصر غير التابعة، في المقابل في إيران تم عزل الأساتذة الناقدين من الجامعات، وفرض الضغط على المحاميين والأطباء المستقلين، وتمت إزالة القوات غير التابعة من المؤسسات الإدارية.
بالطبع، من الضروري ملاحظة أن هيكل النظام التركي على الرغم من استبداده، كان لديه انتخابات تنافسية وصحافة شبه حرة ولكن في إيران لديه هيكل ذو توجه ديني إقليمي، وهياكل السلطة تسيطر على المؤسسات المعينة مع رقابة صارمة على الانتخابات، من ناحية أخرى في تركيا يختلف نطاق الحريات الاجتماعية مثل الملابس والموسيقى والترفيه مقارنة بإيران، حيث توجد قيود أكبر في كل من المجالين السياسي والاجتماعي. كانت طريقة استغلال الأزمة في تركيا ذكية واستخدموا الانقلاب المزعزع للهيكل لتغيير النظام السياسي بالكامل، أي الانتقال إلى رئاسة مركزية، لكن إيران تستخدم الاحتجاجات الداخلية لتكثيف القمع ومواصلة الوضع الراهن دون تغييرات هيكلية في النظام.
تُعدّ كلٌّ من تركيا وإيران مثالين على أنظمة تستغلّ الأزمات لاحتواء السخط الداخلي وترسيخ سلطتهما، والفرق الرئيسي هو أن تركيا استغلّت الأزمات لإعادة بناء نظام استبدادي غير شرعي، بينما تستغلّها إيران لترسيخ نظام أكثر انغلاقاً والحفاظ عليه، ومع ذلك فإنّ الضحايا الرئيسيين في كلا البلدين هم حقوق الإنسان وحرية التعبير والمجتمع المدني.
"تاريخ إيران مليء بالقمع والإقصاء"
وتُظهر التجربة التاريخية لإيران كيف استغلت السلطات هذه الظروف لقمع وإقصاء وترسيخ سلطتها بعد الأزمات السياسية والأمنية، وعلى سبيل المثال بعد احتجاجات تشرين الثاني/نوفمبر 2019، ووفقاً لرويترز قُتل أكثر من 1500 شخص في غضون أيام قليلة، ثم تم قُطع الإنترنت على مستوى البلاد، واعتُقل آلاف الأشخاص في مدن مختلفة خاصة في المناطق المحرومة، وعُقدت محاكمات عاجلة ومغلقة، وصدرت أحكام بالسجن والجلد وحتى الإعدام على بعض المتظاهرين فوراً وخارج الإجراءات الإدارية، وبعد توقف دام عدة سنوات بسبب جائحة كورونا، استؤنف القمع العنيف في الشوارع في كردستان وبلوشستان وطهران ومدن أخرى بجرعة أكبر من ذي قبل بعد مقتل الشابة الكردية جينا أميني على يد السلطات بذريعة عدم التزامها بقواعد الحجاب الإلزامي واندلاع الانتفاضة، وأظهر الإعدام المتسرع لمتظاهرين مثل محسن شكري ومحمد حسيني بعد أسابيع قليلة من اعتقالهما استماتة النظام الإيراني في استنزاف دماء المتظاهرين، وفي هذا السياق تعرّضت عائلات القتلى للتهديد أو اعتُقل بعضهم أو وُضعوا تحت المراقبة الأمنية، تُظهر الأمثلة الموضوعية أنه في كردستان وبلوشستان وبعد كل اضطرابات، تصرفت السلطات الإيرانية بعنف أكبر من ذي قبل.
يُعدّ يوم الجمعة الدامي في زاهدان والذي شهد مقتل أكثر من 90 شخصاً في يوم واحد أثناء صلاة الجمعة، دليلاً على اختناق غير مسبوق، كما أن قصف القرى الحدودية في كردستان العراق بذريعة وجود أحزاب معارضة دليل على خوف السلطات الإيرانية الدائم من أنشطة الأمة الكردية التي يخشاها كالشبح، من ناحية أخرى تعجّ المحاكم بقضايا ناشطين من عرب الأهواز والبلوش والكرد، عالقين بتهم خطيرة مثل "المحاربة" دون محامين مستقلين للدفاع عن هذه التهم غير المثبتة.
ومن ناحية أخرى، لا يزال التصفية الممنهجة للمثقفين وإغلاق الجمعيات التجارية والطلابية والثقافية المستقلة، والرقابة الصارمة على الكتب والسينما، وتصفية الكُتّاب الناقدين مستمرة، ويُعدّ استخدام الأدوات التقنية والقانونية للقمع أحدث محاولات السلطات الإيرانية لمنعها من بلوغ غايتها، على سبيل المثال من خلال إقرار خطط تقييدية للإنترنت، مثل خطة "الحماية" وتطوير أنظمة مراقبة رقمية لتحديد هوية المتظاهرين واستخدام اتهامات غامضة مثل "إثارة الرأي العام"، أو "الدعاية ضد النظام"، أو "العمل ضد الأمن القومي" لقمع أي نوع من النشاط المدني.
تستخدم السلطات الإيرانية الأزمات كوسيلة لإضفاء الشرعية على القمع
ولا تسعى هذه السلطات إلى حل الأسباب الجذرية للمظالم فحسب، بل تستخدم الأزمة أيضاً كوسيلة لإضفاء الشرعية على القمع، فبدلاً من الاستجابة لمطالب الشعب المعيشية والثقافية والسياسية، يُخمد نظام المحافظات الإيراني القائم على الشريعة الاحتجاجات في مهدها، وعلى سبيل المثال ينتهي الأمر بمطلب الشعب البسيط "بخلع الحجاب الإلزامي" إلى وصفه بأنه "أعمال شغب" وتُقابل التجمعات العمالية مثل احتجاجات عمال هفت تبه، بالقمع دون معالجة مطالب النقابات، ومن ناحية أخرى تحاول تطبيع الاعتقال والتعذيب والإعدامات حتى يصبح المجتمع غير حساس تجاه العنف، مثل الإعلان رسمياً عن أحكام الإعدام للمتظاهرين في وسائل الإعلام الوطنية "لتلقين الآخرين درساً" أو بث "اعترافات متلفزة" تحت التعذيب، في عملية تشبه الحقبة الستالينية.
ومن ناحية أخرى، يتلاعب النظام بالرأي العام بدعاية أيديولوجية، وعلى سبيل المثال يستخدم الإعلام الوطني والتعليم وأئمة الجمعة لترسيخ الرواية الرسمية، وعلى سبيل المثال يختزل الاحتجاجات في "فتنة خارجية"، ويلقي باللوم على إسرائيل والولايات المتحدة، ويستخدم الدين لتبرير العنف، المتظاهرون ليسوا شهداء بل "مفسدون في الأرض" ويروجون بشكل ممنهج للخنق بسياسة "غض الطرف" ما يعني أن بعض عمليات الإعدام لها غرض سياسي بحت لا قضائي.
أن النظام الإيراني القائم على الشريعة الإسلامية، كنظام أردوغان في تركيا، لا يثق بأي طبقة اجتماعية، ويُفسَّر أي احتجاج على أنه "تخريب" بدلاً من التحقيق فيه، هذه النظرة لا تنظر إلى القمع على أنه خطأ بل واجب ديني. لذا، بمقارنة تجارب القمع في كل من تركيا وإيران، يمكننا القول إنهم يستغلون الأزمات لإضفاء الشرعية على القمع الممنهج، الفرق الرئيسي هو أن القمع في إيران يُمارس بطريقة أعمق وأيديولوجية وأكثر انتشاراً، باستخدام الدين والأمن ووسائل الإعلام الحكومية، ويُمثل هذا النموذج هيكلاً "استبدادياً قائماً على الأزمات" لا يتعلم من الأزمات فحسب، بل يحوّلها إلى فرص لتعزيز الاستبداد.
يُظهر سلوك السلطات الإيرانية في مواجهة الأزمات الداخلية، سواءً في شكل احتجاجات اجتماعية أو ضغوط إقليمية ودولية، أو ضغوط ما بعد الحرب، أن هذا النظام بدلاً من اتباع نهج إصلاحي يستغل الأزمات بشكل منهجي لترسيخ الاستبداد وقمع المجتمع المدني، وقد شكّل هذا السلوك نموذج حكم قائم على الأمننة الدائمة، حيث لا تُمثّل الأزمة تهديداً بل أداةً للسلطة، في هذا النموذج يُنظر إلى أي شكل من أشكال الاحتجاج الشعبي أو النقد السياسي على أنه تهديد لسلامة النظام بدلاً من أن يُسمع.
استمرار الأزمة في إيران... تتجه نحو انسداد سياسي واجتماعي
الآن إيران ما بعد الحرب بهيكلها الأكثر أيديولوجية ومركزية وعدم خضوع للمساءلة، تتصرف بشكل أكثر قمعاً من ذي قبل، لأنها أصبحت أكثر انفتاحاً على القضاء على المعارضين بتهم التجسس والتعاون مع العدو بمبررات أمنية، لأن هذا النظام لا يؤمن بالإصلاح فحسب، بل يتغذى أيضاً بشكل طفيلي على إعادة إنتاج الأزمة من أجل بقائه، بدلاً من استعادة ثقة الجمهور يعمق هذا النظام الشعور بالعجز والخوف والغضب في المجتمع بسياسات عدوانية ومهينة تجاه الشعب، ويُظهر الضغط المزدوج على النشطاء والطلاب والمعلمين وحتى الأطباء أنه لا يوجد مجتمع إحصائي أو فئة اجتماعية آمنة، هذا الوضع كما حدث في تركيا ضد الكرد ووسائل الإعلام والجامعات، ولكن في نسخة أكثر عنفاً، دخل الآن في حلقة مفرغة تاريخية بطريقة غير إنسانية ومأساوية بعد وقف إطلاق النار الرمزي والهش، وفي نهاية المطاف قد يؤدي استمرار هذا الوضع إلى تآكل حاد في ثقة الجمهور واستنزاف النخبة وانتشار الهجرة ونشوء انفجارات اجتماعية دون أي أفق للحوار، إذا استمرت إيران في اعتبار الأزمة وسيلةً لترسيخ سلطتها فإنها ستتجه نحو انسداد سياسي واجتماعي شامل، قد يؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى مزيد من عدم الاستقرار والانهيار التدريجي لبنية الشرعية.
وبمعنى آخر، ستواصل إيران ما بعد الحرب الحفاظ على بنيتها الاستبدادية والقمعية أكثر من أي وقت مضى، وستتدهور أوضاع النشطاء السياسيين والصحفيين وعامة الشعب يوماً بعد يوم، هذا النظام الذي يتخذ من الأزمات ذريعةً لتشديد السيطرة والقمع، سيُغلق المجال السياسي تماماً ويُكتم أي صوت ناقد من خلال زيادة الاعتقالات والتعذيب وتقييد حرية التعبير، وكما ذُكر فقد أظهرت تجارب مماثلة في تركيا بعد الانقلاب أنه في مثل هذه الظروف، تلجأ الحكومات إلى أزمات مُختلقة وإجراءات أمنية لانتهاك حقوق الإنسان بشدة وسجن المعارضين، كما أن البنية الأيديولوجيّة للنظام الإيراني الأكثر انغلاقاً وغموضاً تجعل هذه العملية أكثر صعوبةً وفظاعة، ونتيجةً لذلك فإن استمرار هذا الوضع لا يحرم الشعب والنشطاء السياسيين من الحريات الأساسية فحسب، بل يُضعف بشدة الأمل في التغيير والإصلاح السلمي، ويدفع المجتمع نحو قمع أوسع نطاقاً وانعدام ثقة أعمق وأزمات اجتماعية متزايدة، لهذا السبب قد يؤدي غياب التغييرات الجذرية في هيكل الحكومة الإيرانية إلى أزمة طويلة الأمد وخارجة عن السيطرة، يتحمل أثمنها النشطاء السياسيون والصحفيون والمحرومون، سيزداد أجواء القمع والأمن ضراوة، وستستخدم الحكومة اتهامات باطلة بـ"التعاون مع إسرائيل والولايات المتحدة" كذريعة لاعتقال وسجن النشطاء السياسيين والصحفيين وأي أصوات ناقدة.
أظهرت تجربة السنوات الماضية وموجة الاعتقالات التي تلت وقف إطلاق النار في الأيام القليلة الماضية أن هذه الاتهامات لا تُطرح بسرعة ودون أدلة حقيقية فحسب، بل أصبحت أيضاً الأداة الرئيسية للنظام للترهيب وتقييد الحريات، ورغم البنية الأمنية الواسعة والقوية للنظام فإن السلطات الإيرانية تُطلق يدها في تقييد الحريات وقمع المعارضين، وتُقمع بسهولة أي احتجاج أو معارضة بحجج أمنية، في مثل هذه الظروف سيتعرض السكان والنشطاء السياسيون لخطر دائم من الاعتقالات التعسفية والتعذيب والضغط الشديد، وسيبقى الجو السياسي والاجتماعي خانقاً للغاية، لذلك إلى أن يحدث تغيير حقيقي وجذري في البنية السياسية الإيرانية، سيظل القمع بمبررات أمنية أداة للحفاظ على سلطة النظام وهيمنته المطلقة.