الأصوات النسائية في حلب... بين النضال من أجل الحرية ومخاطر العنف والاضطهاد

تواجه النساء تهديدات مستمرة بسبب نضالهن من أجل الحصول على حقوقهن والمساواة في ظل الحروب والفوضى، وبات الخطر جزءً من حياتهن اليومية لتواجهن تحديات اجتماعية وسياسية معقدة تعرقل سعيهن نحو العدالة والحرية التي تستحقنها.

غفران الهبص

حلب ـ الصراع المستمر في ريف حلب بسوريا يجعل النساء تقفن أمام تحدياتٍ لا تنتهي، إذ تجدن أنفسهن أمام معايير اجتماعية قاسية وأوضاع سياسية معقدة وواقع مضطرب يهدد استقرارهن، فتحاول المدافعات عن حقوق المرأة تحقيق تغيير جذري رغم المخاطر المتزايدة التي تلاحقهن يوماً بعد يوم.

بين العنف الممارس ضدهن والتهديدات المتواصلة والظروف الاجتماعية التي لا تزال تقيدهن، تُجسد المدافعات عن حقوق المرأة بحلب صورة للمرأة التي ترفض الاستسلام كما تواجهن معركة مستمرة ليس فقط من أجل حريتهن الفردية، بل أيضاً من أجل رسم مستقبل مختلف يتسم بالعدالة والمساواة في مجتمع تكالبت عليه الصراعات.

حيث أوضحت بشرى السليمان إحدى المدافعات من مدينة حلب التي كانت تعتبر نفسها امرأة عادية قبل أن تتغير حياتها بشكل جذري، إنها كانت تحلم بإكمال دراستها والعمل وتكوين أسرة، لكن الأزمة السورية التي بدأت عام 2011 لم تكن بالحسبان حيث غيرت كل شيء.

اعتقدت بشرى السليمان كغيرها أن الوضع سيعود إلى طبيعته قريباً، لكنها لم تكن تعلم أن ذلك سيحملها أكثر من طاقتها، ومع تدهور الأوضاع الأمنية بدأت حياتها تأخذ منحى مختلفاً، خاصة مع ظهور حركات نسائية تعنى بحقوق المرأة فكانت من أوائل النساء اللواتي انضممن إليها، حيث كانت ترى في هذه الحركات أملاً لخلق عالم أكثر أماناً واستقراراً للنساء "لم أكن أتصور أنني سأعيش يوماً ما في مدينة يحكمها العنف، وأن المرأة ستظل تُصنف على أنها مجرد تابع أو كائن لا قيمة له".

وعن تجربتها قالت "درست عاماً واحداً في جامعة حلب، لكنني لم أتمكن من إكمال دراستي بسبب القصف المستمر الذي جعل من وصولي إلى الجامعة أمراً مستحيلاً، وفقدت الكثير من أصدقائي وعشت مع عائلتي في ملجأ مؤقت، ثم نزحنا مرة أخرى إلى مكان أكثر أماناً لنستقر فيه حتى لو كان استقراراً نسبياً، وبعد رحلة نزوح طويلة أتعبتني وأرهقتني وصلت أخيراً إلى إحدى القرى في ريف حلب بحثت فيها عن ملاذ أستطيع أن أتنفس فيه بسلام، وبينما أسير في أحد الطرقات، شدّني شيء لم أكن أتوقعه وهي لافتة كبيرة كتب عليها "مركز مبادرة أمل".

وفي ذات السياق قالت "شعرت بشيء غريب يجذبني وكأن هذه اللافتة تخاطبني شخصياً، فدخلت إلى المكان وهناك استقبلتني مجموعة من الفتيات بابتسامات صادقة، تعرّفت سريعاً على الخدمات التي يقدمها المركز من تعليم وحماية وتدريب على المهارات اليدوية، ولأول مرة منذ فترة طويلة شعرت بالأمان والانتماء، وكأنني وجدت أخيراً مكاناً يمنحني الراحة التي افتقدتها وأستطيع فيه أن ابدأ حياتي من جديد، والحلم يتجدد في داخلي ومع مرور الوقت ومع انخراطي في التدريبات والدورات شعرت أنني لم أعد تلك الفتاة الهاربة من الحرب فقط، بل أصبحت قادرة على تقديم شيء أفضل للمجتمع، لذلك استكملت تدريباتي في المركز وتعلمت مهارات كثيرة وطرقاً مدروسة لتقديم الدعم النفسي، حتى أصبحت واحدة من عضوات فريق الناشطات أشارك في تيسير برامج الدعم النفسي وأستمع إلى قصص النساء اللواتي مررن بتجارب صعبة وأدعمهن، وأعمل مع المتخصصات لاكتسب منهن الخبرات والمهارات".

وأضافت "لم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ فقد دفعني شغفي وإيماني بقضايا المرأة للانضمام إلى المبادرات النسوية كمُتطوعة كما شاركت في حملات توعوية تتناول قضايا حساسة ومهمة كزواج القاصرات والعنف الأسري ومواضيع أخرى تعاني منها النساء في مجتمعنا، وحملت على عاتقي أن أكون صوتاً لكل امرأة لا تستطيع التعبير عن نفسها، وملاذ آمن لمن تبحث عنه".

وعن تأثير مركز مبادرة أمل قالت "في البداية، كان المركز يتمتع بسمعة جيدة بين نساء القرية، وأصبح المكان الوحيد الذي يمكنهن التحدث فيه عن معاناتهن بحرية، وتتلقين النصائح التي تساعدهن على مواجهة التحديات اليومية، وكنَّ تتعلمن كيف تتعاملن مع العنف المنزلي وكيف تطالبن بحقوقهن دون خوف"، مضيفةً "لم يكن الجميع يرحب بما نفعله فمع ازدياد تأثير المركز على المجتمع، بدأ المجلس المحلي في القرية يشعر بالقلق وكان يعتبر أن ما نقدمه يتجاوز الحدود، وأنه يتعارض مع التقاليد والعادات المحلية، لذلك بدأ يتهم المركز بنشر أفكار غريبة، ويصف برامج التوعية بحقوق المرأة بأنها تخريبية، وفي أحد الأيام تلقيتُ رسالة تهديد جاء فيها أنه إذا استمريتم في تعليم النساء حقوقهن وتوعيتهن سنغلق مركزكم، وإذا لم تلتزموا، سنجعل حياتكم جحيماً".

وتابعت "حينها شعرتُ بالقشعريرة تسري في جسدي، لكنني قررتُ ألا أسمح للخوف أن يتسلل إليَّ، كنتُ أعلم أن هناك الكثير من النساء اللاتي تعتمدن على هذا المركز، ولا يمكننا التخلي عنهن، إلا أنه في اليوم التالي تعرض المركز لتهديد آخر تمثل بتحطيم أحد أبوابه، وكانت هناك رسائل مكتوبة على الجدران تحذرنا من عواقب الاستمرار في عملنا، لكن التهديدات لم تكن مجرد كلمات، بل كان الوضع يتصاعد بسرعة، وقوبلنا بالرفض التام من المجلس المحلي عندما حاولنا التحدث معه وتوضيح أهمية ما نقدمه وبدلاً من الاستماع إلينا بدأ في شن حملة إعلامية ضدنا، وكان يتهمنها في القرية على أننا "أعداء للتراث" و"نريد تدمير العادات" كانت الهجمات على المركز تتزايد، وكنت اتعرض كل يوم للتهديد".

وأشارت إلى أنه "لم يكن أمامنا خيار سوى الدفاع عن مركزنا، لذلك قررنا الاجتماع بالنساء اللاتي نعمل معهن وحثهن على الوقوف في وجه هذه الاعتداءات، وقد كانت هناك نساء نجون من العنف المنزلي لا زلن تساعدننا على تقديم الدعم النفسي لنساء أخريات ولطالما رددت إحداهن أنه (إذا تركناهم يسكتوننا ستظل النساء في الظلام علينا أن نكون صوتاً لهن)".

وفي ختام حديثها أكدت بشرى السليمان أنه "لم يكن إغلاق المركز نهاية الرحلة، بل كان بداية جديدة حيث شعرت بحجم المسؤولية التي تقع على عاتقي، وقررت ألا أستسلم أبداً وبدأت بتشكيل فريق تطوعي صغير من الفتيات اللواتي تؤمنّ بأهمية التغيير ودعم النساء، فاجتمعنا بأفكارنا وإرادتنا القوية وبدأنا بطرق الأبواب والقيام بزيارات منزلية ننظم خلالها جلسات سرية للنساء، حيث تجتمعن لتتحدثن بكل راحة عن مشاكلهن، ولنشترك جميعاً في إيجاد حلول تساعدهن على مواجهة واقعهن المؤلم، وبالرغم من أن عملنا لم يكن سهلاً لكنه كان ينبع من أعماق قلوبنا، كنا نستمع لكل معاناة ونبحث عن حلول واقعية تناسب ظروف كل امرأة، ومع قلة الموارد وصعوبة الظروف نجحنا في ترك أثر صغير لكنه عميق، وأصبحنا صوتاً لبعضنا، وضوءً في عتمة هذا الواقع الذي نحاول تغييره يوماً بعد يوم".