انتفاضة النساء نقطة تحول في إيران... حقوق المرأة إلى أين تتجه؟

تشهد إيران أحداثاً شكلت منعطفاً في حياة الإيرانيات، غضباً عارماً على ممارسات السلطات الممنهجة ضد النساء اللواتي فقدن على مدى 43 عاماً العديد من الحقوق ومورس عليهن كافة أشكال الانتهاكات.

مالفا محمد

مركز الأخبار ـ لعبت النساء دوراً كبيراً في الانتفاضات التي شهدتها المدن والمناطق الإيرانية وشرق كردستان، على مدى الأعوام الماضية، ولا تزال مقاومتهن مستمرة رغم تعرضهن للاعتقال والتعذيب والقتل، فإلى أين ستتجه انتفاضة الإيرانيات؟

في السادس عشر من أيلول/سبتمبر 2022 اندلعت من جديد احتجاجات في كافة أنحاء إيران، رفضاً لانتهاكات شرطة الأخلاق، وانتهاك حقوق النساء والتمييز ضدهن، وتعامل السلطات معهن بوحشية، وبعد الرد العنيف للسلطات على المظاهرات السلمية، رفع المتظاهرون من سقف مطالبهم حتى وصلت لإسقاط النظام والمطالبة بحكم مدني.

 

شرارة اندلاع الاحتجاجات

فجرت حادثة مقتل الشابة الكردية الإيرانية جينا "مهسا" أميني، غضب الإيرانيين المتراكم لعقود من منع الإصلاحات والتضييق السياسي والحد من الحريات، مع استمرار الفساد والقمع وسوء الإدارة، واضطهاد النساء بشكل خاص.

تعود تفاصيل الحادثة إلى يوم الثالث عشر من أيلول/سبتمبر 2022، اليوم الذي جنى فيه النظام الإيراني على نفسه، وذلك باعتقال الشابة جينا أميني من قبل شرطة الأخلاق بذريعة عدم ارتدائها الحجاب على "الطريقة الإسلامية الصحيحة"، وهي محنة تعيشها سنوياً مئات النساء اللواتي تتهمن بخرق قواعد لباس المرأة الصارمة التي فرضتها السلطات.

بعد ساعتين من اعتقال جينا أميني البالغة من العمر 22 عاماً، تعرضت للعنف الذي أدى إلى دخولها في غيبوبة، وفقدانها حياتها بعد ثلاثة أيام فقط، وبحسب نتائج فحوصات الطب الشرعي الذي تم الكشف عن بعض من تفاصيله قبل صدوره بشكل نهائي وتحريفه، فإن الأسباب التي أدت إلى وفاة الشابة تعود إلى تعرضها لضربات على الجمجمة، واستئصال الطحال التالف إثر نزيف داخلي.   

 

الإيرانيات تقدن الانتفاضة

شكل وفاة جينا أميني في السادس عشر من أيلول/سبتمبر، منعطفاً في حياة الإيرانيات، فسرعان ما انتشرت قصتها وأصبحت قضية رأي عام، وفجرت الغضب المكبوت في قلوب الإيرانيين، ليخرج الشعب الذي اكتفى من اضطهاد السلطات، في احتجاجات ومظاهرات دامية، وحملات مقاطعة وإضرابات عن العمل، تتسع رقعتها يوماً بعد آخر.

وشكلت النساء عصب الانتفاضة التي جاءت في ظل استياء شعبي من المصاعب الاقتصادية واتهامات بالفساد تسببت في خروج تظاهرات منفصلة في الأشهر الماضية، وهو ما ميز الاحتجاجات الحالية عن سابقاتها، فهي تختلف من حيث الحجم وتركيبة المقاومة الداخلية، وتتمحور حول قضايا المرأة التي هي في منبع كل القضايا المجتمعية، وانتهاك السلطات لحقوق الشعب بمختلف أطيافه وقطاعاته.

وقد أظهرت مقاطع فيديو إيرانيات وهن تلوحن بحجابهن أو تقمن بحرقه خلال التجمعات الاحتجاجية، بالإضافة إلى أن بعضهن قمن بقص شعرهن، تعبيراً عن الاحتجاج على الحجاب الإجباري الذي فقدت العديدات على إثره حياتهن.

 

"Jin Jiyan Azadî"... لا حياة حرة ما لم تكن المرأة حرة

جذب شعار "Jin Jiyan Azadî" الذي رددته الإيرانيات في احتجاجاتهن للمطالبة بحقوقهن الجسدية والتغيير السياسي والحرية، اهتمام العالم أجمع، واستجاب المجتمع الدولي لأحدث موجة احتجاجات بطريقة جديدة مقارنةً بتجاوبه الخجول في الماضي، حيث أصدر بيانات تضامن مع المحتجين في إيران.

وبالعودة إلى أصل "Jin Jiyan Azadî" الشعار الذي كتب وردد باللغة الكردية وأصبح شعاراً للثورة والتغيير، فإنه قد استلهم من أطروحات القائد الكردي عبد الله أوجلان الذي ربط ما بين حرية المجتمع بحرية المرأة، حيث يقول "يتميز تحرير المرأة بعظيم الأهمية خلال التحول إلى أمة ديمقراطية، فالمرأة المتحررة تعني مجتمعاً متحرراً والمجتمع المتحرر هو أمة ديمقراطية".

كما أنه استوحي من رسالة القائد عبد الله أوجلان التي وجهها من المعتقل لحركة حرية المرأة، بواسطة محاميه عام 2013، حيث ذكر فيها أن الصيغة السحرية لحياة المرأة هي تعلم الحرية والاستمرار في التوق إليها.

وتصدر هذا الشعار الذي يؤكد على أنه لا حياة حرة كريمة للإنسان ما لم تكن المرأة حرة، ولا مجتمع حر بدون تحرر المرأة، عناوين الصحف والمجلات حول العالم، وقد اتخذته النساء الكرديات كأساس لنضالهن، أثناء خروجهن في مظاهرات واحتجاجات للمطالبة بحقوق الكرد في تركيا مثل التعليم باللغة الكردية والمساواة وإطلاق سراح السجناء السياسيين الكرد، ولاقى صدىً واسعاً حول العالم عندما احتدمت المعركة بين وحدات حماية الشعب والمرأة ومرتزقة داعش في مدينة كوباني بشمال وشرق سوريا عام 2014.

كما تم تحويل شعار "Jin Jiyan Azadî" باللغة الكردية، إلى عنوان كتاب طبع باللغتين الكردية والإيطالية، وكان الشعار يرفع خلال المسيرات الاحتجاجية للكرد في روما عام 2017، واحتفالات يوم المرأة العالمي، وأصبح عنواناً لمقالات وأغاني وقصائد شعرية عديدة.

ووصل اليوم صدى شعار "Jin Jiyan Azadî" إلى نساء إيران والعالم أجمع عبر المرأة الكردية، فباتت مقاومة المرأة في إيران تتقدم وأصبحت حياتها وحريتها هي هوية للنضال ضد القمع وعدم المساواة. كما أنه أضحى رمزاً للتضامن من كافة أنحاء العالم.

وتضامنت النساء من جميع دول العالم مع الإيرانيات بترديد شعار "Jin Jiyan Azadî"، بما في ذلك أوكلاند، لندن، ملبورن، نيويورك، لوس أنجلوس، باريس، أوتاوا، سانت جونز، مونتريال روما، سيول، ستوكهولم وسيدني وزيوريخ.

التضامن النسائي من قبل شخصيات مجتمعية وسياسية برز بشكل واضح عندما أعلنت وزيرات خارجية من سبع دول غربية عبر مقطع فيديو مشترك، وقوفهن إلى جانب الإيرانيات في ثورتهن. هؤلاء الوزيرات هن أنالينا بيربوك وزيرة الخارجية الألمانية، ونظيراتها في فرنسا وبلجيكا والسويد وإيطاليا وكندا وتشيلي، بالإضافة إلى وزير الخارجية الإسباني.

وتحت شعار "Jin Jiyan Azadî" أكدت معظم النساء في العالم على أهمية التضامن النسوي العابر للحدود ورفعت الناشطات النسويات في كل من المغرب وتونس ولبنان وليبيا والسودان وفلسطين، أصواتهن تعبيراً عن غضبهن، وأطلقن حملات متنوعة معلنات تضامنهن مع النساء في إيران، فكل جريمة، في أي بلد في العالم بحق النساء هي جريمة عالمية.

 

احتجاجات شبابية تضامنية

تدفع الاحتجاجات الإيرانية عجلة تغيير لم ترسم معالم طريقها بعد في إيران، رافعة سقف المطالب إلى مستوى لم تصل إليه أي احتجاجات سابقة شهدتها بلاد القمع والخوف، بلاد ترفض حرية المرأة والرأي والتعبير، ويبدو أن المشهد لا رجعة فيه بعد انضمام شرائح المجتمع المختلفة للانتفاضة، من مثقفين ورياضيين ومحامين وطلاب.

ونظم طلاب مدارس ثانوية وجامعات مختلفة في إيران اعتصامات متعددة، واستمر المواطنون في الاحتجاج ومواجهة بطش الأمن، وترديد الشعارات ضد النظام في مدن مختلفة، مطلقين هتافات سياسية حادة ضد المسؤولين ونظام الدولة.

 

اعتقالات تعسفية

رغم مساعي النظام الإيراني لقمع الاحتجاجات التي اندلعت في الآونة الأخيرة، سرعان ما اتسعت رقعتها لتطال كل زاوية من زوايا البلاد، فتصبح الحدث الأهم الذي تشهده إيران منذ أكثر من أربعة عقود وتكون نقطة تحول محتملة في مستقبل البلاد.

كل تلك الاحتجاجات التي تنوعت أشكالها ما بين التظاهر والإضراب عن العمل، وتلوين النافورات باللون الأحمر، قوبلت بالقمع والعنف من قبل السلطات، باستخدام الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين، أو اعتقال طلاب الجامعات وحتى تلاميذ المدارس، وبعد كل ذلك الغضب اتجهت السلطات إلى الطريقة المعتادة في إيران، حيث تم تعطيل الإنترنت أو إغلاقه بشكل منتظم، لمنع انتشار فيديوهات وصور للتظاهرات على مواقع التواصل الاجتماعي وكذلك الحد من الدعوات للتظاهر من جديد كما تم حظر العديد من التطبيقات مثل واتس آب وانستغرام التي تعتبر منصة حيوية للناشطات النسويات.

ولأن الانتفاضة كانت بقيادة النساء، استهدفت السلطات بشكل خاص المدافعات عن حقوق الإنسان، النسويات والناشطات، فبحسب تقارير رسمية استخدمت السلطات أساليب تعذيب مختلفة لإسكات المشاركات في الاحتجاجات التي تشهدها البلاد، كما أن العديد من الناشطات تعرضن لتهديدات بالقتل والاغتصاب والتعذيب الوحشي جراء مشاركتهن في الاحتجاجات، بالإضافة إلى الإهانات اللفظية والتعذيب وشتى أصناف المعاملة السيئة، ووفق ما أفادت به منظمة حقوق الإنسان الإيرانية، أجبرت بعض المعتقلات على الإدلاء باعترافات قسرية متلفزة تجرم أنفسهن، مشيرةً إلى أن بعض المعتقلات محتجزات في معتقلات غير رسمية لا تخضع لأي رقابة.

ووفقاً لتقديرات منظمة حقوق الإنسان الإيرانية، تم اعتقال الآلاف من الأشخاص المشاركين/ات في الاحتجاجات، من بينهم ما لا يقل عن 38 صحافياً و170 طالباً و16 محامياً وأكثر من 580 ناشطاً مدنياً، بمن فيهم نشطاء نقابات المعلمين ونشطاء عماليون.

وأعلن المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية أن الاحتجاجات التي شهدتها إيران أسفرت عن مقتل أكثر من 400 شخص في صفوف المتظاهرين، فيما أعلنت أكثر من 40 منظمة مدافعة عن حقوق الإنسان، من بينها منظمة العفو الدولية، أنه بين 23 طفلاً على الأقل، فقد حياته خلال أربعة أسابيع من الاحتجاجات.

 

تحرش واغتصاب وقتل... ضحايا الانتفاضة النسوية

رغم أن سبب الاحتجاجات المندلعة منذ أكثر من شهرين ضد النظام الإيراني هو مقتل فتاة في الـ 22 من عمرها، لم يتوقف ذالك النظام عن هذه الأساليب الوحشية في قتل المتظاهرات بين الحين والآخر، فمن بين اللواتي فقدن حياتهن لمشاركتهن في الانتفاضة، الستينية مينو مجيدي وهي أم لولدين، التي قتلت خلال احتجاجها مع آلاف الإيرانيين في أنحاء البلاد على مقتل الشابة جينا أميني، كما أوردت حسابات عدة على مواقع التواصل الاجتماعي نبأ وفاة غزالة تشلوي البالغة من العمر 32 عاماً، وهي متسلقة جبال قتلت بالرصاص في 20 أيلول/سبتمبر.

أما حنانة كيا البالغة من العمر 23 عاماً فقتلت في اليوم نفسه في مدينة نوشهر، بحسب مصادر عائلية ونشطاء. وذكرت منظمة العفو الدولية أن صديقين قالا إنها قتلت بالرصاص وهي في طريقها إلى المنزل من زيارة الطبيب، فيما أحدث مقتل حديث نجفي البالغة من العمر 20 عاماً، برصاص قوات الأمن، موجة غضب عارمة، بعد انتشار مقاطع فيديو على نطاق واسع على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، تظهر وهي تربط شعرها الذي لم ترتدي عليه حجاباً، ودخولها بجرأة في وسط مظاهرة في كرج.

وفي أعقاب مقتل كل من مهسا موغوي وسارينا إسماعيل زاده ونيكا شاكرامي اللواتي تبلغن من العمر 16 عاماً، بعد تعرضهن للضرب المبرح بالهراوات، لمشاركتهن في إحدى التظاهرات، أخبرت نيكا شكارمي بحسب تقارير حقوقية في رسالتها الأخيرة صديقة لها أن قوات الأمن تلاحقها، قبل أن تعثر العائلة في 30 أيلول/سبتمبر على جثتها في مشرحة مركز احتجاز بطهران، وبدأت موجة احتجاجات شعبية في العديد من المدن من بينها مدينة زاهدان التي شهدت أعمال عنف استمرت أياماً عدة، على إثر تقارير أفادت بتعرض فتاة للاغتصاب على يد شرطي.

حتى أن طالبات المدارس الثانوية والجامعات لم تسملن من بطش قوى الأمن وقمعهم، فقد أكد المجلس التنسيقي لنقابات المعلمين، في 17 تشرين الأول/أكتوبر، في منشور على مواقع التواصل الاجتماعي أنه ثبت بعد التحقق "الموثق"، أن الطالبة أسرا بناهي البالغة من العمر 16 عاماً، قتلت في نفس اليوم الذي هاجمت فيه القوات الأمنية بالزي المدني على مدرسة "شاهد" في أردبيل شمال غرب إيران.

وخلال الهجوم تعرضت الطالبات اللواتي أطلقن هتافات ضد التمييز وانعدام المساواة ورفضن غناء النشيد الموالي للنظام؛ للضرب أمام أعين المعلمات والطالبات من قبل قوات الأمن، مما أدى إلى نقلها للمستشفى ووفاتها هناك، كما نقلت 10 طالبات أخريات إلى مكان مجهول، وأصيبت 7 فتيات أخريات، وهو ما تسبب في موجة احتجاجات شعبية وطلابية في أردبيل والتي ما زالت مستمرة.

وفي خطوة قلما تحدث أعلنت شرطة طهران أنها ستحقق في سلوك أحد عناصرها بعد تقارير عن تحرشه بمتظاهرة أثناء محاولة توقيفها على هامش مشاركتها في الاحتجاجات، وهو ما يظهره مقطع فيديو أشعل موجة من الغضب على مواقع التواصل الاجتماعي، مطالبين "بالعدالة" وباستقالة مدير الشرطة.

ولا تزال الانتفاضة الإيرانية مستمرة رغم آلة القمع المسلطة عليها والتي لم تتمكن من إجهاضها بعد كما فعلت مع سابقاتها، فقد نجحت النساء تحويل رفضهن الحجاب القسري إلى عنوان لرفض الاستبداد والظلم والاضطهاد والخضوع باسم الدين، إذاً إلى أين ستتجه انتفاضة الإيرانيات اللواتي تعشن تحت نير نظام رجعي ثيوقراطي، وهل ستشكلن نقطة تحول في إيران؟