المرأة في السينما والمسرح... انتصارات تحت وطأة القمع

لطالما كانت الفنون بكافة أشكالها نداً للسلطات السياسية والدينية في إيران، وقد عانت الأعمال السينمائية كما الأعمال الأدبية والفنون المختلفة من أشكال متعددة من القمع سواء بملاحقة القائمين عليها أو بمنعها من العرض.

مالفا محمد

مركز الأخبار ـ شاركت وما تزال الإيرانيات في الفنون بمختلف أشكالها من "موسيقى، سينما، مسرح" وغيرها الكثير متحديات السواد الذي يلتحف أجسادهنَّ ووجوههنَّ في بلد تطغى عليه التناقضات، لكل عهد خصائصه التي تُميز حضور المرأة فيه، سواءً أمام الكاميرا أو خلفها، وسواءً في الأدوار التي تُعطى للنساء، أو التفاعل الجماهيري مع هذه الأدوار.

تلعب السينما دوراً هاماً في حياه المجتمعات، إذ تعتبر المرآة التي تعكس حال الشعوب ما يجعل المشاهد والمتابع لها قادراً على تحديد المستوى الفكري والثقافي والاجتماعي ومدى النهضة لتلك الدولة، بمجرد مشاهدة بعض أفلامها.

لم تنصف السينما المرأة الإيرانية واستخدمتها كسلعة تجارية، لعدم تبني هذه السينما أي هدف لمعرفة وتحليل شخصية المرأة في الأسرة والمجتمع وكان الهدف الوحيد للاستفادة من المرأة هو تنويع وتزيين واجهة السينما فقط.

يحدد القانون الإيراني بشكل فضفاض الأفعال التي يراها لا أخلاقية، فرضت السلطات رقابة على الفن والموسيقى وأشكال التعبير الثقافي الأخرى، فضلاً عن محاكمتها مئات الأشخاص وغالباً ما تستهدف هذه القوانين النساء والأقليات العرقية بشكل غير متناسب.

منذ منتصف القرن العشرين تحاول الأديبات الإيرانيات إدخال الحراك والظهور الكثيف للنساء في مجتمعات يسيطر عليها الرجال؛ والسينما لم تكن استثناء من هذا الحراك.

 

قبل الثورة... ثلاث مخرجات فقط

دخلت أول آلة تصوير إلى إيران في العهد البهلوي على يد الشاه مظفر الدين عام 1900، وبعد أربع سنوات افتتحت أول قاعة سينما في البلاد، إلا أن باكورة الإنتاج الإيراني للأفلام جاءت عام 1930 بالفيلم الصامت "أبي وربي" للمخرج "أفانيس أوهانيان" قبل أن ينتج أول فيلم ناطق عام 1940 "الفتاة اللير".

افتقرت السينما في عهد محمد رضا بهلوي إلى موضوعات تناسب المجتمع. شهدت حريات في طرح الموضوعات ودون رقابة، إلا أنها لم ترتق حتى لمستوى العرض الداخلي. حيث قدمت سينما مبتذلة من الجنس والعنف ووضعت النساء في دور "العاهرات" وامرأة مغلوب على أمرها بصور مختلفة تزامناً مع تراجع القوة الإنتاجية، ما أسفر عن نفور المجتمع منها وعزف عنها المفكرين، واعتبرت أحد أدوات تجهيل وتضليل لهم.

خلال حكم الشاه باتت السينما فضاءً تستطيع النساء من خلاله التعبير عن أنفسهنَّ، إلى أن اندلعت الحرب العراقية الإيرانية عام (1980ـ1988)، وساهم التحاق الرجال بالجبهة ببناء شعور الاستقلالية لدى النساء ليبدأ التحول التدريجي في السينما.

برزت أسماء ثلاث مخرجات في البلاد قبل الثورة الإسلامية، صنعت كل واحدة منهنَّ فيلماً واحداً، الممثلة شهلا رياحي (1927ـ2019) وهي مخرجة أفلام سينمائية في إيران، بدأت التمثيل منذ عام 1944، من أولى الأفلام السينمائية التي قدمتها فيلم "الأحلام الذهبية" عام 1956، ومن أولى أعمالها الإخراجية والإنتاجية فيلم "مرجان" عام 1956.

الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد (1934ـ1967) والتي استطاع فيلمها الوثائقي القصير "البيت المظلم" عام 1962 عن مرضى الجذام، فتح الأبواب أمام إبداع الموجة الجديدة في السينما الإيرانية، كما وبرزت المخرجة مارفا نبيلي.

باستثنائهنَّ اقتصرت مشاركة النساء على التمثيل، وفي الفترة السابقة على الثورة مباشرة كانت الأفلام تظهرها كغرض للمتعة الجنسية فقط. لذلك نظر إلى السينما كممثلة للنظام وكفضاء للفساد والتقليد السيء للغرب، فحرقت صالات العرض صبيحة الثورة.

 

سينما الثورة

تحولت دور السينما لساحات مهجورة بعد الثورة وسيطرة المتشددين، قدمت أعمال تتماشى مع الرؤية الإسلامية الواعظة للجمهور والداعمة للنظام والمؤيدة لكافة قرارته ليستمر عزوف الجمهور عن دور السينما.

غيرت الثورة مكانة النساء في المجتمع الإيراني فتنامى دورهنَّ وبتنَّ محط اهتمام، وهو ما جعل من إيران بلد التناقضات. شهدت الأعوام التي تلت الثورة انحداراً كبيراً وغابت المرأة عن معظم الأفلام في الوقت الذي لم تكن السينما تحظى باحترام أو تقدير كافيين، لم يعد هناك سوى عدد محدود من النساء أمام الكاميرا وخلفها، كنَّ عبارة عن ديكور فقط لا لقطات مقربة لهنَّ ولا أدوار، وأغلب الرفض كان يأتي بذرائع "أخلاقية"، لجنة الفحص لم تكن تقبل بتصوير النساء مع رجال ليسوا من محارمهنَّ أو قيامهنَّ بإيماءات تعتبر في نظرهم "غير مناسبة للمجتمع الإسلامي".

كان لموقف روح الله خميني عامل رئيسي في تهميش النساء في عالم السينما فهو لم يذكر السينما كفن مؤكداً منذ بداية الثورة أنه ليس ضدها أو ضد التلفزيون بل ضد جوانب "غير أخلاقية".

كانت السينما تمنع أدوار البطولة عن النساء، والمخرجون يعلمون أن الحصول على التراخيص لأفلامهم مرهون بحضور نسائي خافت.

منعت وزارة الإرشاد الإسلامي تقريباً كل المشاهد التي تظهر فيها النساء، حتى أنها منعت النظرات بين الممثل والممثلة لدرجة أن أول فيلم سينمائي يتناول قصة حب بعد الثورة "زهور الأقحوان" للمخرجة رخشان بني اعتماد والذي تم انتاجه عام 1984، كانت تدور قصته حول حبيبين كلاهما "أعمى".

رخشان بني اعتماد من النساء الإيرانيات اللواتي انضممنَّ إلى قائمة أشهر المخرجات، بنظرتها العميقة والحادة من خلال تناولها لقضايا المجتمع الإيراني.

درست الفنون الدرامية وأخرجت ما يقارب 20 فيلماً وثائقياً، بدأت العمل كمساعدة للإخراج التلفزيوني منذ عام 1974، قامت بإخراج عدة أفلام وثائقية قصيرة حتى عام 1981، جعلت من فيلميها "الجالسون تحت الشمس" و"زهور الأقحوان" بوابة الدخول إلى الساحة السينمائية.

تناولت قضايا المرأة برؤية جديدة وشخصياتها الرئيسية نسائية كما في فيلم "نرجس" و"الوشاح الأزرق" لعام 1995 الذي يطرح العلاقة ما بين عاملة فقيرة وصاحب مزرعة أرمل، و"تحت جلد المدينة" لعام 2000 وتدور قصته حول امرأة فقيرة تعمل في مصنع وتكافح من أجل أسرتها. ولم تقتصر اهتماماتها على المشاكل التي تتعرض لها النساء بل اهتمت بكافة طبقات المجتمع، وأبرزت القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها.

نالت عدة جوائز في مهرجانات دولية مختلفة، فهي أول امرأة تحصد جائزة الإخراج في "مهرجان فجر الإيراني" لعام 1991عن فيلم "نرجس". ومع بوران درخشنده ومرضية برومند أصبحنَّ أول ثلاث مخرجات بعد الثورة الإيرانية.

الممثلة والكاتبة مرضية برومند من مواليد عام 1951، هي أول مخرجة بعد الثورة تصنع عملاً طويلاً وتقف بحجابها بين المصورين والممثلين في خطوة اعتبرت جريئة في بلد كإيران، تنوعت أعمالها الفنية بين الإخراج المسرحي والتلفزيوني والسينمائي، من أبرز أعمالها "مدينة الفئران 1" عام 1985، "المربا الحلو" لعام 2000، ومن أعمالها التلفزيونية "ورشة السيدة شمسي ومساعدتها المادام" عام 2001 وقد مثلت في العديد من قصص الحكايات.

 

الوصول إلى العالمية

مع وصول السينما الإيرانية إلى العالمية في تسعينيات القرن الماضي، شهدت السينما طفرة كبيرة في عدد البطولات النسوية فأصبحت المرأة المخرجة والممثلة والمصورة جزءاً من كافة الأفلام، وتناولت قضايا النساء الإيرانيات ومشاكلهنَّ وهمومهنَّ وطموحاتهنَّ، إلا أنه وبالرغم من ذلك كان حضورهنَّ يتطلب أقل قدر من الحركة ولفت الأنظار، وكان يفضل أن تكون الممثلة جالسة أثناء أداء دورها ملتزمة بالحجاب.

بعد الثورة الإسلامية في إيران، باتت السينما وجهة تشارك فيها النساء، وضرورة لانتقاد المجتمع وطرح مشاكل المرأة من وجهة نظر نسوية، كما فعلت الكاتبة والمخرجة السينمائية تهمينه ميلاني وهي التي عرفت أفلامها بالنسوية والانتقاد الحاد لوضع المرأة في إيران، وحثت النساء على نيل استقلالهنَّ. في إحدى العروض السينمائية التي كانت تواظب على حضورها تعرفت إلى المخرج السينمائي "مسعود كيميائي" واستطاعت أن تجذب اهتمامه، أخذ بيدها إلى مجال العمل السينمائي، عملت أول مرة كمنسقة للديكور في فيلم "الخط الأحمر" لعام 1979.

تمحورت أفلامها حول المرأة وحقوقها وشرطها الاجتماعي، اهتمت بالشرط النسوي وبظلم القوانين والمجتمع للمرأة الذي أبرزته في فيلم "أولاد الطلاق" عام 1989، وأبرزت تحكم المجتمع الأبوي بمصير المرأة من خلال فيلمها "امرأتان" عام 1999، وخضوع الأم للقوانين والعادات المجحفة فيما يتعلق بالحضانة في فيلم "رد الفعل الخامس" عام 2003، وغيرها الكثير من الأفلام التي تعرضت على إثرها لانتقادات حادة.

اليوم لا يكاد يخلو فيلم إيراني من حضور نسائي، نجحت مخرجات إيرانيات في صناعة أفلام حصلت على تقديرات عالمية، إلا أن سينما المخرجات تلك لم تسلم مما أصاب السينما الإيرانية من تزايد القيود والرقابة بين عامي (2005 ـ 2013)، فبالرغم من أن الممثلات أدين أدوراهنَّ باحترافية لا يمكن اقتراب الكاميرا من وجه أي امرأة فالقانون يمنع تقنية "CLOSE UP" التركيز على تعبيرات الوجه.   

حاولت الجمهورية الإسلامية في عهد الرئيس محمد خاتمي تمييز نفسها عن باقي الدول في المنطقة، والتركيز على نجاحات المرأة بشكل كبير، خلال النصف الأول من رئاسة محمد خاتمي وعلى الرغم من قيود المجتمع والسلطة تضاعف حضور النساء على شاشات السينما ثلاث مرات، ذلك ما أحدث طفرة حقيقية في شكل السينما الإيرانية.

كانت أفلام آنذاك عبارة عن إعلانٍ للتمرد على كل سلطة قديمة، تمرد على استبداد الزوج في فيلم "أحمر"، وعلى استبداد المجتمع في فيلم "قتل الكلاب"، وعلى الاستبداد الفكري في فيلم "توتيا"، لكن واقع حياة النساء والفتيات في إيران يختلف كثيراً عما واجهته الممثلات في تلك الأفلام.

منذ منتصف القرن العشرين تحاول الأديبات الإيرانيات إدخال الحراك والظهور الكثيف للنساء في مجتمعات يغلب عليها الرجال؛ السينما لم تكن استثناء، كانت بداية وجود حركة للمرأة بفيلم "باشو" الذي أنتج قبل عصر الانفتاح الجديد، لذا ظلت الحركة محدودة فيه حتى مع هذا التطور، يعرض حياة قروية إيرانية يسافر زوجها للحرب، فتقوم بمهامه في المزرعة بكل ما يتطلب من حركات مثل السير والقفز والصيد وتعقب الذئاب، زيها القروي أعفاها أيضاً من مشاكل الزي المدني الذي يخضع لقواعد حجاب قاسية. نجحت السينما الإيرانية إذاً في أن تستغل التناقض بين الدولة التي ترغب في أن تظهر نفسها بشكل عصري.

فالمعروف عن الأفلام الإيرانية أنها تهز المجتمع وتعيد رسم المفاهيم السياسية والاجتماعية والدينية بطريقة تجعل الجميع يناقشها في الشوارع والبيوت والجامعات مثل فيلم "انفصال، وصه البنات لا يصرخن، وعن إيلي، ورجم ثريا" الذي أظهر مدى اضطهاد المجتمع للمرأة وغيرها.

 

غداً: الفنون المتنوعة... إبداعات نسائية جديدة