ثورة روج آفا مصدر عالمي للإلهام النسوي والتحول المجتمعي

ثورة روج آفا تمثل استراتيجية شاملة تهدف إلى تمكين النساء في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، من خلال نظام الكومينات.

فيان ليجرين

من دون الالتزام بإيديولوجيا معينة، يمكن تشكيل سياسة تشاركية غير تقليدية، حيث يمكن دمج أدوات النضال السياسي ضمن منظومة أوسع، وبشكل مختصر، إيديولوجيا حرية المرأة ليست مجرد شعار، بل هي نتيجة لحاجة حقيقية.

كلمة "الحرية" ليست مصطلحاً سهلاً أو فارغاً، بل هي فهم يمنح النساء الأمل والحماسة، ويمنحهن القدرة على تحقيق كل أحلامهن، فرغم أن هذه الإيديولوجيا قد تظهر في بدايتها وكأنها تخص النساء فقط، إلا أنها ليست كذلك، فهي ليست إيديولوجيا تعتمد فقط على النوع الاجتماعي، ولا يمكن اعتبارها نظرة نسوية بحتة.

فإيديولوجيا حرية المرأة هي حل لكل مشاكل المجتمع، وهي بديل لكل الإيديولوجيات السابقة التي تم فرضها من قبل سلطة الذكور بطريقة مقيدة.

 

الأدوار الجندرية التي تم تحديدها في المجتمع

عند تحليل العوامل التي تؤثر على مشاركة النساء في ميادين الحياة والسياسة، نرى أن النساء تواجهن عقبات جوهرية أمام مشاركتهن وتقدمهن في مختلف النشاطات العامة، ومن بين هذه العوامل، هناك بالدرجة الأولى الأدوار الجندرية التي فُرضت في المجتمع على النساء والرجال، والتي أثرت على تشكيل الأماكن العامة والخاصة.

عامل آخر هو هيمنة الرجال على السياسة ومقاومتهم لتوسيع المساحة الخاصة التي حُددت تقليدياً للنساء، أي دور المرأة المنزلي.

 

قوة النساء في السياسة وتحوّلات المجتمع

تواجه النساء مشاكل واضحة في مختلف أنحاء العالم، وهي مرتبطة بتقدم النظام الرأسمالي، والشروط السياسية ساهمت في كشف هذه القضايا أكثر، وإن اندمج النظام الرأسمالي داخل المنظومة النيوليبرالية، ما تسبب في تغيّرات كبيرة في حياة النساء الاجتماعية والاقتصادية.

النساء يُنظر إليهن كمصدر للقوى العاملة الرخيصة، وهو ما يُعمّق مظاهر عدم المساواة الاجتماعية، ودور النساء في السياسة هو نقطة محورية يمكن أن تكون سبباً في إحداث تغييرات جذرية في كل جوانب المجتمع.

مشاركة النساء في الحياة اليومية والسياسية لا تعزز فقط مبادئ العدالة والمساواة، بل تسهم أيضاً في التطور الاجتماعي ومسارات السلام.

وعلى مدار التاريخ، وُضعَت النساء جانباً بسبب أسباب أيديولوجية واجتماعية، ومع ذلك لطالما كنّ قوة دافعة للتغيير، لذلك، فإن دور النساء في السياسة هو ضرورة لا غنى عنها اليوم وفي المستقبل من أجل بناء عالم أكثر عدالة.

 

فلسفة القائد أوجلان مفتاح التحول المجتمعي

توسيع مكانة المرأة في السياسة ليس فقط لتحقيق العدالة الاجتماعية، بل أيضاً لتعزيز التنوع الإيديولوجي داخل المجتمعات، فعلى مدار التاريخ، ناضلت النساء بطرق مختلفة لجعل أصواتهن مسموعة وانتزاع حقوقهن، ودفعن أثماناً باهظة في سبيل ذلك.

وقد انعكس هذا النضال في مجالات الأدب والفن، حيث تحولت معاناة النساء إلى أعمال أدبية وفنية أثّرت في أجيال المستقبل، فمن "غرفة خاصة بها" لفرجينيا وولف، إلى "الجنس الثاني" لسيمون دي بوفوار، تم طرح دور المرأة في المجتمع والحاجة إلى تغييره للنقاش العام.

لكن هذه النقاشات والحوارات لم تكن كافية وحدها، بل هناك حاجة إلى بدائل حقيقية في التعليم وبناء أجيال نسائية خرجت منذ آلاف السنين من القهر والسلطة الذكورية التي أعاقت التقدم.

ويُظهر نموذج القائد أوجلان أن الحداثة الرأسمالية تُجزِّئ وتفكك المجتمعات، ولهذا يقدم نموذجاً مجتمعياً بديلاً ديمقراطياً، بيئياً، وقائماً على تحرر المرأة.

ونظام الإدارة الذاتية في إقليم شمال وشرق سوريا يُمثل هذا النموذج، حيث يهدف إلى أن يدير المجتمع نفسه بنفسه، ويعتمد على إرادته الذاتية، وهذا النظام يمكّن النساء ويمثل المجتمع كله من خلال المجالس والكومينات.

وبناء تنظيم واسع للنساء الديمقراطيات وزيادة تمثيل المرأة في السياسة لا يحقق فقط العدالة الاجتماعية، بل يعزز أيضاً التنوع الإيديولوجي والمشاركة الديمقراطية داخل المجتمعات، فتمكين النساء في السياسة والحياة المجتمعية أمر جوهري لبناء عالم أكثر عدالة ومساواة.

 

مشروع الأمة الديمقراطية ونظام الإدارة الذاتية

ثورة روج آفا تُعد نموذجاً بارزاً لفكر القائد عبد الله أوجلان، وتُثبت كيف يمكن تطبيق النظرية في الممارسة، فهذه الثورة، بخلاف التقليد الماركسي-اللينيني، تمنح أهمية خاصة للإدارة المحلية وحرية المرأة.

ففي 19 تموز/يوليو 2012، أطلقت النساء أول شرارة للثورة، ساعيات إلى كسر الذهنية الذكورية المتجذرة منذ سنوات.

وبفضل نضال مستمر وآمال متجددة، توسعت هذه الثورة يوماً بعد يوم، وألقت النساء خطوات كبيرة نحو ديمقراطية المجتمع، وهكذا أصبحت ثورة روج آفا بإقليم شمال وشرق سوريا منارة للنساء الباحثات عن الحرية.

ولأول مرة، استعدّت النساء على المستوى الداخلي والفكري لمواجهة عقود من القهر، سواء من قبل النظام البعثي أو لاحقاً من داعش، ففي ثورة 19 تموز، حققت النساء إنجازات كبيرة، واعترف بها كثورة نسائية بامتياز، وبقيادة النساء المناضلات، استردت نساء إقليم شمال وشرق سوريا حقوقهن التي سلبتها الأنظمة الاستبدادية لعقود.

وفي ثورة روج آفا، أُعيد تعريف الأدوار الاجتماعية للنساء، وبُني مجتمع قائم على مساواة النوع الاجتماعي، فالنساء لم يكن فقط مشاركات في الثورة، بل قدن التحول، كما أن النجاحات التي تحققت في إقليم شمال وشرق سوريا ألهمت الحركات النسوية حول العالم لتخوض نضالات من أجل المساواة الجندرية.

وبات دور المرأة في ثورة روج آفا يُعد نموذجاً تاريخياً في مقاومة القوالب النمطية الجندرية، ومشاركة فعالة في بناء مستقبل أكثر مساواة، هذا المسار يُظهر القوة والإمكانات التي تمتلكها النساء في قيادة التغيير المجتمعي.

 

حرية المرأة وتنظيم المجتمع على أساس الكومينات

إقليم شمال وشرق سوريا منطقة يعيش فيها مكوّنات إثنية ودينية متنوعة معاً، وثورة المرأة تعتبر هذا التنوع مصدراً للثراء، وتُشجع الحلول السلمية للنزاعات بين المجتمعات المختلفة، وهذا النهج يمكن أن يُعتمد عالمياً لحل النزاعات وبناء السلام.

ومشروع الأمة الديمقراطية يُقدّم بديلاً سياسياً واجتماعياً للدولة السلطوية التقليدية، القومية، والمركزية، ويهدف إلى أن ينظم المجتمع نفسه بنفسه، وأن يدير شؤونه بشكل مستقل، لذا يُنظر إليه كنموذج مثالي لبناء مجتمع حر وديمقراطي قائم على التنوع، اللامركزية، المساواة، الحياة المشتركة، الديمقراطية، وحرية المرأة.

 

نظام الإدارة الذاتية الديمقراطية

تم تأسيس هذا النظام في إقليم شمال وشرق سوريا على أساس المجالس والكومينات، حيث يعتمد على مفهوم الحياة الكومينالية، الذي يُعد الركيزة الأساسية في مشروع الأمة الديمقراطية المستند إلى فلسفة القائد أوجلان، ويُعد تجربة فريدة وجديدة في المنطقة.

إن بناء النظام الكومينالي حاجة ملحة لتنظيم المجتمع وفق مبادئ ومعايير تنظيمية تهدف إلى خلق مجتمع متماسك وأخلاقي، يسوده مناخ من العدالة والديمقراطية، ويُعتبر هذا النظام حجر الأساس في بناء نظام الإدارة الذاتية.

ووفق هذا النموذج، تُنشأ الكومينات تحت مظلة الحقوق المدنية، من أجل المشاركة والإدارة الذاتية ضمن آليات اتخاذ القرار، مثل البلديات، نظام الرئاسة المشتركة، لجنة المرأة، لجنة التربية، لجنة الاقتصاد، لجنة الصحة، لجنة العدالة الاجتماعية، لجنة الحماية المدنية، لجنة الثقافة والفن، لجنة الشباب والنساء الشابات، والمجالس المحلية.

وأبرز ركائز المشروع زيادة المشاركة السياسية للنساء: حيث أن تعزيز مشاركة المرأة السياسية في روج آفا يُعد من الأهداف الأساسية للثورة، وتُشجع الكومينات النساء على اتخاذ القرار، وتدعم تمثيلاً متساوياً في العملية السياسية، مع تخصيص أنظمة الحصص لضمان ذلك.

وبرامج التعليم والوعي: فثورة المرأة تولي اهتماماً كبيراً لتعليم النساء، حيث تُطلق الكومينات برامج تعليمية أكاديمية ومهنية لدعم النساء، إلى جانب تنظيم ندوات وورش عمل لرفع الوعي حول المساواة الجندرية.

والتمكين الاقتصادي: الاستقلال الاقتصادي للنساء يُعد هدفاً مهماً من أهداف الثورة، من خلال إنشاء الكومينات، التعاونيات النسائية والمشاريع الإنتاجية، يتم تمكين النساء اقتصادياً، هذا التقدّم يمنح النساء القدرة على خلق وسائل إنتاج خاصة بهنّ، ويُعزز مشاركتهن النشطة في المجتمع.

والسلام الاجتماعي والعدالة: فثورة المرأة، من خلال تنظيم نسائي مثل "مؤتمر ستار" و"الجنولوجي"، تهدف إلى تحقيق السلام والعدالة الاجتماعية.

والكومينات: تُطوّر آليات متنوعة لضمان حماية المرأة من العنف، وتعزيز أمنها في الحياة الخاصة والعامة، وهذا يساعدها على أن تعيش حياة أكثر استقراراً وعدالة ومساواة.

 

ثورة روج آفا مصدر إلهام عالمي

تمثل ثورة نساء روج آفا استراتيجية واسعة تهدف إلى تمكين النساء في المجالات الاجتماعية، السياسية، والاقتصادية عبر نموذج الكومينات، حيث تقدم هذه الثورة على المستوى المحلي حلولاً جماعية وتشاركية تضمن أن تحصل النساء على حقوق وفرص متساوية في المجتمع.

والبنية التي تنشأ من خلال الكومينات تخلق منصة تمكّن النساء من لعب دور فعّال في جميع جوانب الحياة، فبفضل حلولها المبتكرة ورؤيتها الواسعة، تلفت ثورة روج آفا انتباه العالم وتقدّم مثالًا يُحتذى به للمجتمعات التي تواجه تحديات في تحقيق العدالة والمساواة والحرية.

التحول الذي أحدثته يُعد خطوة مهمة على الصعيد العالمي نحو تعزيز دور المرأة في الحياة الاجتماعية والسياسية.

وتحقيق هذا الهدف يتطلب جهداً واعياً وقراراً حاسماً، يُمكّن الجميع من المشاركة في نضال النساء نحو عالم أكثر عدالة ومساواة.