من ديرسم إلى بلوشستان... عندما تصبح الحكاية طريقاً للحرية

مع عبورها للحدود الجغرافية والذهنيّة تحوّلت زيلان "زينب كناجي" إلى أرض ولّادة للمعنى، وجسر حيّ ربط النساء ببعضهن في مشهدٍ لا يخضع لمقاييس الزمان ولا المكان.

روشان سمسور

في عالم يتداخل فيه الواقع مع الفضاء الرقمي، لم يعد الكثير من الأفراد يعترفون بوجود حدود تحاصرهم، إذ يرى البعض أنفسهم قادرين على الوصول إلى كل شيء، بفعل التقنيات المتطورة والاتصال اللامحدود، مما جعل عبارة "تجاوز الحدود" تبدو اعتيادية ولا تثير الدهشة، لكن واقع الحال يثبت أن تجاوز هذه الحدود ليس متاحاً للجميع ولا لكل شيء، فحتى في الفضاء الرقمي الذي يُعتقد أنه مفتوح على مصراعيه، لا يرى المستخدمون سوى ما يُسمح لهم برؤيته، فالقدرة الحقيقية على تخطي الحدود تبدأ من تجاوز الفرد لذاته، وكسر القوالب الفكرية التي نشأ عليها واعتُبرت لسنوات حقائق لا تقبل النقاش.

 

عبور الأسوار ليس كافياً

وفي حين تُرسم الحدود على الخرائط لتقسيم الجغرافيا، هناك حدود أخرى أكثر خفاءً ترسم داخل العقول والقلوب والأرواح، وأصبحت اليوم أشدّ استعصاءً على التجاوز. غالباً ما ترتبط مفردات مثل "الحدود" و"الخطوط" و"القيود" بالحكومات والدول التي تضع أسلاكاً وأسواراً حول أراضيها، غير أن الجدار الحقيقي يُبنى أولاً في الفكر، ويُغرس في الوعي، ويتوارثه الناس.

فالإنسان قادر على تخطي الحواجز المادية، من الأسلاك الشائكة إلى الجدران والخنادق، لكنه حين يواجه القيود التي تكمّم فكره وتحاصر خياله، يجد نفسه أمام نضالٍ أشدّ وطأة، يتطلب عزيمةً مضاعفة، وشغفاً بالحقيقة، وسعياً لا يلين لكسر القوالب المفروضة.

إنه يشبه اجتياز الحدود ورؤية الشمس تتلألأ فوق السهول الخضراء الممتدة، لكن مجرد تجاوز الأسلاك لا يكفي. فما يحدد المعنى الحقيقي هو كيف ترى المشهد بعد العبور، وكيف تفسّره، وما المعاني التي تسقطها عليه من ذاتك، لأن الإدراك أعمق من الرؤية والفهم أوسع من المشهد.

 

فتنة الأسئلة وأسطورة الكهف

تجذبنا بعض الأسئلة كما لو كانت قوة خفية تسحبنا نحو عمق لا يُرى، ومجاز أفلاطون حول الكهف خير مثال على أهمية "التأويل" و"المعنى" في فهم الحقيقة، فالإنسان الذي أمضى حياته مُقيداً في كهف، لا يرى سوى ظلال العالم المنعكسة على الجدار أمامه، حين يتحرر ويخرج إلى النور يكتشف أن ما اعتقده حقيقة لم تكن سوى خيالات باهتة، يرى بعينيه لأول مرة الأشياء ذاتها بدلاً من انعكاساتها، ولكن تبقى تلك الظلال التي رآها لأعوام هي الحقيقة التي رسخت في ذهنه.

إذاً، فإن تجاوز القيود لا يكفي وحده لبلوغ الحقيقة، بل لا بد من البحث والرؤية والتحليل والفهم، فالحقيقة ليست فيما نراه فقط، بل في قدرتنا على فهم ما نراه، وتجاوزه إلى ما هو أعمق، نحن النساء نعيش في مواجهة مستمرة مع الحدود في كل مرحلة من حياتنا، من الألعاب التي يقدمونها لنا، إلى الأزياء التي يُنتظر منا ارتداؤها، من مدارسنا إلى صداقاتنا، من أحلامنا المهنية إلى أفكارنا الشخصية ودوماً ما نصطدم بجدران غير مرئية.

كثيراً ما تُوجَّه لنا عبارات مثل "اعرفي حدودك", "ليس هذا من شأنك" وكأن المجتمع يرسم لنا مساراً ضيقاً لا يُسمح لنا بتجاوزه، لكن ما يدعو للفخر أن هناك عدداً لا يُستهان به من النساء اخترن تحدي هذه الحدود، وبل أكثر من ذلك، أصبحن شعلة أمل لغيرهن وهذا خير دليل على أن العبور ممكن.

والحكايات لم تكن يوماً محض خيال أو وقائع مبتورة كما يقال لنا، بل إنها جذور تمتد في عمق الحقيقة، الحكاية تُجسد شخصاً وتنقل تجربة وتربطنا بالأرض والوجدان، إنها طريقتنا لفهم الحياة، ما عشناه ما سعينا خلفه أو حتى ما نكتشفه الآن في رحلتنا لفهم الذات والعالم.

في 30 حزيران/يونيو 1996، نفّذت زيلان (زينب كناجي) عملية فدائية ضد جنود الاحتلال والإبادة الجماعية في ديرسم لتصبح قصتها واحدة من تلك الحكايات التي تتجاوز الحدود التقليدية وتُلهم غيرها من النساء.

كانت زيلان متزوجة وتعمل موظفة في أحد المستشفيات، ويمكن القول إنها كانت تمتلك ما يراه النظام "فرصاً" لتحقيق أحلام المرأة، لكنها اختارت السير في طريق آخر بدافع شعور عميق بالبحث. ذلك البحث الذي يشبه فيلسوفاً لا يكتفي بإجابة واحدة، يسأل، فيجد جواباً، ثم تجرّه الإجابة إلى سؤال جديد، تلك هي فتنة الأسئلة حين تبدأ لا تتوقف، تنهمر كسيل من التساؤلات التي تفرض على الإنسان مواجهة ذاته والعالم من حوله.

 

وجدت أحلامها وحياتها الحرة والكريمة في فكر القائد أوجلان

رسمت زيلان أحلامها بنفسها، متحدية نظاماً سائداً يحدّد للنساء ما يجب أن تحلمن به وتطمحن إليه، وعلى خلاف ما يُراد للمرأة من التقيّد بخيارات جاهزة، اختارت زيلان طريقاً مختلفاً في بحثها عن حياة حرّة وكريمة.

وفي خضمّ هذه الرحلة، التقت زيلان بأفكار القائد عبد الله أوجلان، التي وجدت فيها مرآة لأحلامها وهويتها، بل وكيانها بأكمله، لقد رأت في ذلك اللقاء تجسيداً لمعاني الحرية والكرامة التي كانت تسعى إليها، واكتشفت ذاتها الحقيقية في ذلك الإطار الفكري والنضالي.

نجحت زيلان في تجاوز الحدود التي فُرضت على الجغرافيا والعقول، لتغدو أرضاً خصبة للولادات الجديدة، ومن خلال فعلها الذي دلّ على قوة الإرادة ولامحدودية الإيمان، أصبحت جسراً يربط النساء ببعضهن ويمنحهن أمل الالتقاء وسط عالم من القيود.

ويُقال إن التعلُّم لا يتحقق من دون صلة حقيقية بين المعلِّم والمتعلِّم، صلة تمتد جذورها في الحياة نفسها، لكن زيلان استطاعت كمعلمة ملهمة، أن تؤسس هذا الارتباط العميق خصوصاً مع النساء الكرد، ومع كل من حمل حلم الحرية،  فبإيمان الذي لا يتزعزع، وبإرادة صلبة، وبحب وانتماء وشغف، نسجت روابطها مع من حولها، لم تكن مجرد رمز، بل كيان يتجدّد مع كل امرأة عشقت الحرية، وصوت ظلّ يتردّد في الذاكرة، كجسر يتحدى الزمن.

 

من زينب كناجي إلى مهال بلوش... مسار يتحوّل فيه الاسم إلى هوية نضالية

امتد الرابط الرمزي العميق لاسم "زيلان" ليبلغ ذروته من جديد عام 2024، حين نفّذت " مهال بلوش" المعروفة بالاسم الحركي "زيلان كُرد" عملية فدائية ضد القوات الباكستانية، احتجاجاً على ما وصفته الأوساط النضالية بالهجمات العنصرية التي يتعرّض لها شعب بلوشستان.

لقد استلهمت مهال بلوش تجربتها من زينب كناجي (زيلان)، منفذة العملية الفدائية الشهيرة في ديرسم عام 1996، التي أصبحت رمزاً في مسيرة نضال النساء والشعوب التوّاقة للحرية.

وخلال دراستها الجامعية في كلية الحقوق، انضمت مهال إلى حركة حرية بلوشستان. وقبل تنفيذ عمليتها وجهت نداءً مؤثراً قالت فيه "يجب على كل النساء وكل الناس المشاركة في هذه المقاومة، النضال من أجل حرية بلوشستان، وأن نصنع مستقبلاً مشرقاً لشعبنا"، كما تركت وصية إلى عائلتها، ناشدتهم فيها ألا يبكوا أو يدخلوا في حداد، بل أن يرفعوا رؤوسهم عالياً وينضموا إلى حركة الحرية من أجل بلوشستان.

إنها قصة "الزيلانات" نساء غاضبات من كل أشكال الرجعية، عاشقات للحرية، تتجاوز حكاياتهنّ الجغرافيا لتصل من كردستان إلى بلوشستان، هي أيضاً قصة النساء اللواتي وجدن في النضال وتحطيم القيود طريقاً نحو معنى أسمى نحو "الألوهة الإنسانية" حيث تجتمع الحكمة والعدل، والإرشاد، والإخلاص للشعب.

ويتساءل المرء ما الحقيقة التي جمعت بين زينب الكردستانية و مهال البلوشستانية وجعلتهما "زيلان"؟ كيف عبرت روح زيلان من ديرسم عام 1996 إلى بلوشستان عام 2024؟ ربما تكمن الإجابة في أن الأفعال الثورية تبني روابط لا تعترف بالزمن ولا بالحدود، فحين تجتمع النساء حول إيمان مشترك، تُولد بينهنّ صلات تشبه الطقوس المقدسة، إن رغبة المرأة في الفهم واكتشاف الذات والشوق لما سُلب منها وحنقها على الظلم، كلّها تمحو تلك الحدود المصطنعة، وتُشيّد روحاً واحدة تُعرف بـ "روح الزيلان".

ويُقال إن لكل إنسان حكاية، وحين تُروى الحكاية وتُشارك مع الآخرين، تُصبح الحياة أكثر احتمالاً، كما قالت هانا آرنت "حين تتحوّل الحياة إلى حكاية وتُشارك مع الآخرين، يمكن احتمال كلّ شيء، فالأهمية لا تكمن فقط في ما جرى، بل في تحويل نتائجه إلى فهم، وإلى سردية نعيش بها ونتجاوز بها الألم".

إن الإنسان، في نهاية المطاف، يعيش وفق القصص التي نشأ عليها، فالحكايات ليست مجرد سرد للماضي، بل هي خرائط داخلية تُشكّل وعينا وتمنح حياتنا وجهتها، ولو كان لدينا اليوم مزيد من القصص نرويها، قصص عن نضال، عن حلم، عن كرامة لربما كانت الطريق إلى الحرية أوضح خاصةً لنا نحن النساء.

وفي عالم يُكرَّس فيه للمرأة أدوار محددة، ويُقال لها مراراً "لا يمكنكِ" أو "هذا ليس دوركِ" تصبح الحكاية عملًا مقاوماً، فأن تحكي يعني أن تُثبتي وجودكِ، وأن تتجاوزي الحواجز التي صُمّمت لإسكاتكِ، والحكايات ليست مجرد أحداث بل هي ذاكرة ومعنى، وأداة للتمكين وإعادة رسم المصير.

 

جمعهما البحث عن الحرية والكرامة

ليست هذه الحكايات مجرد سرد للتاريخ، بل هي التعبير الأصدق عن التناقضات التي تحكم عالمنا، فيها يظهر الخذلان إلى جانب الوفاء، والاستعباد إلى جانب التحرر، والشر إلى جانب الخير، والقبح إلى جانب الجمال.

ما يجعل هذه القصص أكثر واقعية وتأثيراُ هو أن أبطالها ليسوا أسماء بعيدة أو رموزاً غامضة، بل هم زملاؤنا في الدراسة، ورفاقنا في العمل، وجيراننا، وأفراد من عائلاتنا، تبدأ حياة الإنسان بالولادة وتنتهي بالموت حقيقتان لا خلاف عليهما، إلا أن هذا التحديد الزمني هو ما يمنح الحياة معناها وفرادتها، فلو كانت الحياة أبدية، لفقدت معناها، ولأنها محدودة فهي حكاية وكل حكاية تستحق أن تُروى، لا أن تُنسى في صمت الزمن.

وهذه الحكاية كما يرويها التاريخ النسوي المقاوم تصل بين زيلان الكردستانية وزيلان البلوشستانية، اللتين جمعهما بحث عن الحرية والكرامة رغم البُعد الجغرافي والاختلاف الثقافي، حكايتاهما تشكّلان جذوراً في تربة واحدة تربة الشرق الذي يئن تحت الاحتلال والتهميش، لكنه لا يتوقف عن الإنجاب، عن إنجاب نساء تبنين المعنى حيث لا يُنتظر أن يكون. علينا أن نروي هذه الحكاية، حكاية اللقاء الرمزي بين زيلانات النضال، وأن نقوّي ميراث "كونفدرالية المرأة في الشرق الأوسط"، ذلك المشروع الذي يسعى لبناء عالم بلا حدود قومية أو ذكورية.

من كردستان إلى بلوشستان، ومن باكستان إلى أفغانستان، من العراق وتركيا إلى سوريا وإيران، سنبني جسراً لا تهدمه الجغرافيا، بل يؤسَّس على الذاكرة والمقاومة والمعنى.

تحوّلت زيلانات إلى بطلات لحكايات لا تكسر فقط الحدود بين الدول، بل تمزّق الحواجز بين النساء أنفسهن في قلب الجغرافيا الشرقية، فهنّ لم تكنّ مجرّد رموز فردية، بل نساء جسّدن إمكانية التعلُّم من بعضنا البعض، من الأمل، والمقاومة، والعزم، والحنين، والحب، والجمال.

في أراضٍ طالما حاولت القوى فرض واقع من الحرب والدموع، كانت الروابط التي نسجتها زيلانات، كالفراشات، تولّد أثراً متسلسلاً من الحياة والنور، ومن خلال هذا الامتداد الرمزي، تعود ثقافة الإلهة تلك التي تقوم على السلام، والتكافل، والتنوع لتجد جذورها من جديد في تربتنا، كلّ ما نحتاجه هو أن ننظر إلى بعضنا، لنتعرّف إلى حكاياتنا، ونؤمن بها، ونصدّق أن جمال العالم يتكاثر حين تُروى القصص لا حين تُكتم.