"كولبری الأطفال"... حين تتحول المأساة من قضية فقر إلى كارثة إنسانية

حين يعمل الأطفال في مجال "كولبرى"، تتحول المأساة من قضية فقر إلى كارثة إنسانية، فهم لا يذهبون إلى المدرسة، ولا يلعبون كغيرهم من الأطفال، بل يصعدون الجبال ويواجهون الموت من أجل لقمة العيش.

سوما كرمي

ثلاث باباجاني ـ في قلب الجبال الوعرة والمنحدرات الحادة في شرق كردستان، وبين قممها الشاهقة، يعمل الأطفال بنقل البضائع على ظهورهم، رغم خطورة المهنة بسبب التضاريس الصعبة، الظروف الجوية القاسية، والأهم من ذلك، خطر إطلاق النار من قبل حرس الحدود.

رغم المخاطر الجسيمة، لا يزال "الكولبری" يُصنّف ضمن تعريف يَعتبرُ ما يحمله الكولبران "تهريباً"، سلع مثل التلفزيونات، والمدافئ، والملابس، والسجائر، التي تُنقل دون دفع الرسوم الجمركية، على ظهور البشر أو الحيوانات عبر طرق جبلية وعرة، حيث يصل وزن هذه الأحمال أحياناً إلى ١٢٠ كيلوغراماً، يكون عبءٌ على أكتاف أنهكها الفقر والظلم.

وفي ظل غياب فرص العمل، أصبح الكولبری في شرق كردستان الوسيلة الوحيدة لآلاف العائلات لكسب قوتهم، طريقٌ محفوف بالخطر، بلا أمل في الغد، خصوصا للأطفال، حيث يمرّ الكولبران في الشتاء القاسي عبر طرق مغطاة بثلوج قد يصل عمقها إلى متر، ويواجهون خطر الموت بسبب البرد، أو السقوط، أو الألغام، أو إطلاق النار.

ومن بينهم لا يوجد فقط أطفال، بل أيضاً خرّيجون عاطلون عن العمل؛ وهم يحملون البضائع لا لأنهم لا يستحقون عملاً لائقاً، بل لأنهم يريدون البقاء على قيد الحياة.

 

الكولبری ليست وظيفة بل أزمة اجتماعية

في جميع أنحاء شرق كردستان، لا توجد مصانع يعمل فيها الناس ولا مصدر دخل ثابت، لذلك، يضطر الشباب إلى اللجوء لأعمال وهمية نتيجة العوز، والكولبری ليست خياراً ولا وظيفة، بل نتيجة لغياب البُنى التحتية وانعدام العدالة في التنمية.

وأطفال الكولبر هم ضحايا صامتون للعنف البنيوي، إذ لا تؤذيهم الطبيعة والقوات العسكرية فقط، بل أيضاً تجاهل صانعي السياسات يفاقم معاناتهم.

 

الكولبران بالأرقام... النصف الأول من 2025 دامٍ

حوالي 4 إلى 5 آلاف أسرة في منطقة أورامانات تعتمد على الكولبری لكسب لقمة العيش، تتراوح أعمار الكولبران بين 12 و60 عاماً، في هذا النظام الاقتصادي المتكسر، الأطفال والمراهقون، الشباب ومتوسّطو الأعمار، جميعهم حلقات في سلسلة تحمل عبء الفقر والظلم.

ووفقاً لبيانات نشرتها وسيلة الإعلام المستقلة "كولبر نيوز"، قُتل أو جُرح ما لا يقل عن 30 كولبر في شرق كردستان خلال النصف الأول من عام 2025، وهي أرقام تعكس تدهور الوضع وزيادة خطورة الحوادث.

73% من حالات العنف ضد الكولبران ناتجة عن إطلاق نار مباشر من قبل السلطات الإيرانية وحرس الحدود العراقي، لا بسبب البرد أو الحوادث فقط، ومن بين الضحايا، وُثِقت حالتا طفلين كولبر؛ أحدهما قُتل برصاص حرس الحدود العراقي.

ورغم انخفاض عدد الضحايا بنسبة 89% مقارنة بالنصف الأول من 2024، فإن نسبة القتلى ارتفعت من 13% إلى 47%، ما يعني أن احتمال الوفاة بين الجرحى تضاعف، وأصبحت الكولبری أكثر فتكاً من أي وقت مضى.

 

السياسة الأمنية بعد الحرب حدود مغلقة وأرواح بلا ملاذ

بعد اندلاع المواجهات العسكرية بين طهران وتل أبيب في مطلع حزيران/يونيو الماضي، أصبحت الحدود الغربية لإيران، لا سيما منطقة "باوه" التابعة لمحافظة كرماشان، أكثر تأميناً من السابق، فوفقاً لتقارير محلية وشهادات من الكولبران، أعلنت قوات حرس الحدود أن عبور حدود باوه "ممنوع"، وأن من يتجرأ على ذلك، خصوصاً الكولبران، سيتحمل "عواقب ذلك"، وبعبارة أوضح، إذا أُطلق عليهم الرصاص، فلن يتحمل أحد مسؤولية ما حدث، هذا التهديد غير المعلن يعد بمثابة ترخيص غير مكتوب بقتل الكولبران، وكأن أرواحهم كانت محمية سابقاً.

ففي السابق، كان إطلاق النار مبرراً بتهمة "التهريب"، أما اليوم، فمجرد عبورهم الحدود دون النظر في طبيعة الحمولة أو وجهتها، يُعد جريمة، ويصبح الموت عقوبتها.

 

قصة حزينة... الطفولة عند مفترق الفقر والخطر

معاس ومعين البالغان من العمر على التوالي 12 و14 عاماً، شقيقان من منطقة ثلاث باباجاني، اضطرتهما قسوة الفقر إلى الدخول في عالم الكولبری منذ الطفولة، بعد وفاة والدهما، انتقلا مع والدتهما للعيش في منزل جدتهما، لكن الفقر سرق طفولتهم، حيث قال معين. ك "لم تكن أمي قادرة على تأمين مصاريف معيشتنا، ولم يكن لدينا خيار سوى الكولبری، رغم ذلك لم أرغب أن يدخل معاس هذا الطريق، لكنه يرفض أن أتحمل العبء وحدي، وفي أيام العطل يرافقني إلى الجبل، كنت أتمنى أن يتمكن من الدراسة ويصنع لنفسه مستقبلاً أفضل".

وعن المخاطر التي يواجهونها، قال "علينا اجتياز جبال وعرة في كل مرة؛ قد نسقط، أو نُستهدف بالرصاص، أو نتجمد مثل آزاد وفرهاد، وإذا تمت مصادرة البضائع أو قُتلنا، لا أحد يسأل، إلا أمي حيث تظل مستيقظة طوال الليل، والهاتف بيدها، تنتظر عودتنا بقلق".

معاس. ك الأخ الأصغر يتحدث عن أحلامه البسيطة "أرغب في امتلاك هاتف ذكي مثل زملائي في المدرسة كي لا أتأخر عن دروسي، كون هاتف أمي القديم لا يسمح بذلك، إذا أصبح لدينا دخل كافٍ، أود شراء واحد".

معين ومعاس مجرد عينة من الأطفال الذين تسرق الجبال طفولتهم تحت وطأة الفقر والكولبری.

 

في خضم هذه الروايات قلّما يُسمع صوت الأمهات

نساء مثل زينب. م من مدينة جوانرود، التي ترسل يومياً زوجها وابنها البالغ من العمر 13 عاماً إلى الجبل وهي مثقلة بالقلق. وبنظرة يملؤها الخوف، قالت "ابني لم يدخل الثانوية بعد، لكنه يعمل مع والده كولبراً، كلما خرجا، لا يغمض لي جفن حتى يعودا"، موضحةً "الكولبران لا يتمتعون بأي دعم؛ لا تأمين، ولا حقوق، إن قُتل زوجي أو ابني، ماذا سأفعل؟".

وأشارت إلى جذور الفقر في شرق كردستان "لا نملك أرضاً، ولا عملاً، إما أن نهاجر أو نلجأ للكولبری، حين تنظر الدولة إلى شرق كردستان بعين أمنية وتمنع التنمية، يصبح الكولبری هو السبيل الوحيد للبقاء على قيد الحياة، لو وُجد عمل، لاختفى الكولبری، لذلك كل ما نريده هو أن نعيش بكرامة؛ بلا خوف أو قلق".