حق الأمومة في إيران رهينة بنية التمييز
في الواقع المعيشي للعديد من النساء في إيران، فإن قضية "عدم الإنجاب" ليست خياراً، بل هي نتيجة للسلبية القسرية، والفقر البنيوي، وانعدام الأمن الاقتصادي، وعدم كفاءة السلطات في توفير الحد الأدنى من البنية التحتية الاجتماعية.

شيلان سقزي
في خضمّ دعاية الحكومة "للنمو السكاني" وإصرارها على عودة المرأة إلى دورها التقليدي كأم، فإنّ الواقع اليومي لملايين النساء في إيران هو أمرٌ آخر، حرمانهنّ من حقّ الاختيار في ظلّ الأزمات الاقتصادية والبطالة وانعدام الأمن الوظيفي ونقص التأمين وارتفاع أسعار المساكن ومستقبل اجتماعيّ غامض، والتي دفعت حياة النساء من الطبقتين الدنيا والمتوسطة إلى حافة الانهيار، تختار العديد من النساء عدم إنجاب الأطفال ليس فقط بدافع الرغبة، بل بدافع الضرورة وهذا يدل على أنه ليس قراراً حراً بل نتيجة ضغوط هيكلية وسياسات حكومية غير فعّالة حوّلت الأمومة إلى ترف وامتياز طبقي، وأداة ضغط للقبول الاجتماعي.
يهدف هذا التقرير إلى دراسة قضية النساء غير المرغوب فيهن بشكل نقدي وتحليلي، وإظهار كيف حدّت البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إيران من حقهن في الاختيار وإمكانياتهن البيولوجية من خلال سياسات وضغوطات متنوعة، إضافة إلى انتقاد السياسات السكانية ونهج مؤسسات السلطة، التي بدلاً من تمكين المرأة، حوّلتها إلى ضحية لنظام قاسٍ.
الأمومة المصادرة في الحصار
في الصور النمطية الشائعة، غالباً ما تُربط المرأة التي لا تنجب أطفالاً بصورة خيار واعٍ أو نمط حياة عصري، إلا أنه في الواقع المعيشي للعديد من النساء في إيران فإن مسألة "عدم الإنجاب" ليست خياراً بل نتيجة للسلبية القسرية والفقر الهيكلي وانعدام الأمن الاقتصادي وتقصير الحكومة في توفير أدنى حد من البنى التحتية الاجتماعية، نحن هنا لا نتعامل مع امرأة لا تنجب أطفالاً باختيارها بل مع امرأة لا تنجب أطفالاً باختيارها امرأة حُرمت من حقها في الأمومة في ظل دوامة من ارتفاع الأسعار، وعدم الاستقرار الوظيفي، وصعوبة الحصول على سكن، وإرهاق نفسي.
في النظام السياسي الإيراني، تتسم السياسات السكانية بتناقضات شديدة، فمن جهة تشجع الدعاية الرسمية على زيادة المواليد، ومن جهة أخرى تُهيئ ظروفاً تمنع المرأة الشابة المتعلمة ذات الراتب المتدني اللا تحظى بدعم اجتماعي من التفكير في الحمل، فالإجهاض غير قانوني والحفاضات والحليب الصناعي باهظة الثمن والتأمين غير فعال، وحتى إجازة الأمومة أصبحت تُعرّض صاحبها لخطر الفصل، ونتيجة لذلك يُفسّر قرار الإنجاب ليس كحق بل كـ"خطأ اقتصادي".
المرأة في هذه المعادلة ضحية مزدوجة، فمن جهة تدعوها السلطة لتصبح أماً، ومن جهة أخرى لا توفر لها أي آلية لحمايتها كأم لا توجد خطط لتربية الطفل ولا صحة الأم النفسية، ولا عودتها إلى سوق العمل ولا تخفيض تكاليف تربيتها، ونتيجة لذلك تتحمل النساء اللواتي ليس لديهن أطفال عبء الفشل وحدهن، دون أن تُدرك المؤسسات المسؤولة هذا الوضع كأزمة اجتماعية وسياسية.
في بيئة كهذه، بدلًا من التحدث عن حقوقها المسلوبة تُجبر المرأة التي ليس لديها أطفال على الصمت أو تبرير أفعالها أمام نظرة المجتمع المُنتقدة، هذه هي سياسة الإسكات والحرمان من الحق دون حتى امتلاك القدرة على الاحتجاج وهذه هي ذروة العنف الهيكلي.
في الجمهورية الإسلامية، لا تُحرم المرأة من حقوقها الأساسية فحسب، بل تُحرم أيضاً بشكل منهجي من حق الاختيار في العديد من القرارات الأساسية في الحياة، بما في ذلك الأمومة، وخلافاً للدعاية الرسمية للحكومة التي تُسمي الأمومة "شرف المرأة المسلمة"، تُحرم ملايين النساء في الواقع من حق الأمومة بسبب القيود الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لا تُصبحن أمهات ليس لأنهن لا يرغبن في ذلك بل لأنهن لا تستطعن، وهذا شكل من أشكال العنف الصامت الذي لا يُرى في الأدبيات الرسمية.
كيف يمكن لامرأة متعلمة عاطلة عن العمل تعاني من ارتفاع الأسعار في ضواحي المدن، تفتقر إلى الأمن المعيشي والسكن والرعاية الصحية، أن تفكر في إنجاب طفل؟ هذا الضغط ليس مالياً فحسب بل هو نفسي وبيولوجي بل وسياسي في نهاية المطاف، على عكس الصور النمطية ترغب هؤلاء النساء في إنجاب الأطفال، لكن نظام الحكم القديم والتمييزي والأبوي حوّلهن إلى نساء مكبوتات الرغبات.
الجسد الأنثوي رهينة
بسياساتٍ منافقة، مثل "النمو السكاني" من جهة، وسحب الدعم الحقيقي من جهة أخرى، حوّلت الحكومة أجساد النساء هيكلياً إلى ساحات معارك صامتة، حيث لا ولادة ولا احتجاج، هذا التناقض الصارخ بحد ذاته دليل على إفلاس سياسي في مواجهة قضايا النوع الاجتماعي والإنسانية.
إن النساء غير المرغوب فيهن اللواتي ليس لديهن أطفال هن دليل حي اليوم على كيف أن السلطة، بدلاً من التمكين، تأخذ أجساد النساء وحياتهن رهينة وتسمي ذلك "القدر" أو "الواجب الديني"، بعبارة أخرى فإن الهيكل الرسمي للجمهورية الإسلامية الإيرانية، بتشجيعه "النمو السكاني" وفرضه عدم الاستقرار الاقتصادي في آن واحد، قد وضع النساء في تناقض صارخ، فمن جهة يشجع الإنجاب ومن جهة أخرى يفتقر إلى الأمن الوظيفي والتأمين الصحي ورعاية الأطفال وخدمات الدعم، والأسوأ من ذلك أن سياسات السكان مثل قانون "حماية الأسرة والشباب"، كانت أداةً للسيطرة أكثر منها أداةً للدعم، وفي نهاية المطاف، تحولت الأمومة من مشروع إنساني مختار إلى امتياز بعيد المنال بالنسبة للمحرومين، وأصبح جسد الأنثى مرة أخرى ساحة معركة بين الإيديولوجيات والفقر.
في ظل هذه الظروف، من جهة تُلزم الحكومة من خلال أدواتها الإعلانية (التلفزيون، رجال الدين، التعليم)، النساءَ بأن تكنَّ أمهاتٍ ويزيدنَ عدد السكان، لكنها من جهة أخرى لا تُوفر أي بنية تحتية لدعم النساء المُعيلات، لا أمان وظيفي، ولا تعليم مجاني، ولا رعاية صحية كافية، ونتيجةً لذلك تعيش آلاف النساء، مثل سارة، في صمتٍ، يُثقلهنَّ حزنُ فشل الأمومة.
هؤلاء النساء محرومات من أحد أهم حقوق الإنسان، ليس لأنهن "عصريات" أو "نسويات"، بل بسبب الإذلال الاقتصادي الممنهج، الأمومة في إيران اليوم ليست خياراً حراً، بل امتيازاً طبقياً لا تقدر عليه إلا شريحة من المجتمع، أما البقية بأجسادهم المنهكة وأرحامهم الصامتة فهم مهمّشون.
النساء بلا أطفال
الآن العديد من نساء الطبقة المتوسطة المتعلمات تعليماً عالياً، المولودات في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ظللن رغماً عنهن بلا أطفال بين سن 35 و45 عاماً، ليس بسبب نقص الرغبة بل بسبب ضغوط هيكلية متعددة، فعلى سبيل المثال، تقول (أريزو. ف)، وهي موظفة متعاقدة في مؤسسة شبه حكومية "براتبي أنا وزوجي لا نستطيع حتى سداد قرض الرهن العقاري ناهيك عن تكلفة الطفل"، مضيفةً أنها اتُهمت مراراً وتكراراً من قبل المحيطين بها بـ"التهرب من المسؤولية"، بينما الواقع هو نوع من الإرهاق النفسي والاقتصادي المزمن.
(مهسا. خ) مُعلّمة مُتقاضاة في الأربعينيات من عمرها تعمل في منزل مُستأجر منذ سنوات دون تأمين أو ضمان وظيفي وتقول "لم أجرؤ يوماً على التفكير في إنجاب طفل كنتُ دائماً قلقة بشأن الفصل من العمل غداً أو بشأن كيفية دفع الإيجار".
في نهاية المطاف، ليست قضية النساء غير المرغوب فيهن بإنجاب أطفال ظاهرة فردية أو خياراً شخصياً، بل هي انعكاس عميق لفشل البنى السياسية والاقتصادية الكلية في إيران، بنى بدلًا من توفير بيئة آمنة للحياة البشرية، مارست ضغطاً مضاعفاً على النساء، إن حكومةً ترفع شعار النمو السكاني لكنها عملياً لا توفر أي دعم للبنية التحتية أو الرعاية الاجتماعية أو الصحة أو العمل للنساء والأسر جعلت الأمومة مستحيلة فعلياً، النساء اللواتي ظللن تحلمن بإنجاب الأطفال ليس بسبب التردد بل نتيجةً للقلق الاقتصادي وانعدام الأمن النفسي والهجرة القسرية والأزمات البيئية وعدم المساواة بين الجنسين في سوق العمل وعدم الاستقرار الاجتماعي، استسلمن لنوع من "العجز المفروض".
في إيران، غالباً ما يبدأ حرمان المرأة من الأمومة ليس من الجسد بل من البنية التي تحرم المرأة من أبسط حقوقها، ألا وهي قرار الإنجاب من عدمه من خلال القمع السياسي والسيطرة على أجساد النساء، وإلغاء خيارات الإنجاب وانتشار الفقر وتسييس المجال الخاص، أصبحت الأمومة مكلفة ومخيفة بل مستحيلة أحياناً، ليس بسبب رغبة المرأة، بل بسبب القيود الهيكلية التي فرضتها الجمهورية الإسلامية على مدى العقود الأربعة الماضية، في هذا السياق لا تُعتبر المرأة ناشطة بل ضحية قرارات لم تشارك فيها قط، وهذا أحد أوضح مظاهر العنف الهيكلي في إيران المعاصرة.