إيران... مهن النساء تحت وطأة القوانين وهيمنة الذكور

لا يعد الاستقلال الاقتصادي قضية فردية تخص النساء فحسب، بل هو مطلب اجتماعي جوهري يرتبط بتحقيق العدالة الجندرية، وتفكيك البنى السلطوية، إنه خطوة نحو إعادة تعريف دور المرأة في المجتمع بوصفها فاعلة لا تابعة.

نسيم أحمدي

كرماشان ـ في سبيل ترسيخ هيمنته، يعمد النظام الأبوي في إيران إلى تقسيم المجتمع وأنشطته إلى فئتين جندريتين: ذكورية ونسائية، مستخدماً تصنيفات متعددة تهدف إلى فصل الوظائف وتحديدها وفقاً لحدود جندرية صارمة. هذا التقسيم لا يبنى على الكفاءة أو القدرات، بل على افتراضات مسبقة تتعلق بتفوق الرجل.

بفضل سلطته المتجذرة، حرم النظام الأبوي النساء من الوصول إلى العديد من المهن، وقام بتأطير الوظائف ضمن تصنيفات تعزز الامتياز الذكوري، في هذا السياق، يُعد الطابع الذكوري لأي وظيفة مبرراً كافياً لمنع النساء من ممارستها، بينما يُسمح للرجال بالتدخل في المجالات المصنفة على أنها نسائية دون اعتراض يذكر.

وفق هذا المنطق، تعتبر المهن التي تنطوي على سلطة أو توجيه، مثل الإدارة والقضاء، حكراً على الرجال، أما الوظائف التي لا تمنح صاحبها موقعاً سلطوياً، فغالباً ما تُصنف ضمن الفئة النسائية، في تكريس واضح للفجوة الجندرية في سوق العمل.

الإدارة، على وجه الخصوص، تُعد في المجتمع الأبوي وظيفة ذكورية بامتياز، يُفترض أن الرجال، لمجرد كونهم ذكوراً، يمتلكون القدرة الفطرية على التحكم واتخاذ القرار في أي منصب، بينما ينظر إلى النساء على أنهن عاجزات عن الإدارة، بل يشكك في قدرتهن على اتخاذ قرارات مستقلة حتى ضمن مجموعات صغيرة.

 

التحفظ من منح النساء مواقع إدارية

تروي ويدا أماني (اسم مستعار)، التي تعمل في إحدى شركات مدينة كرماشان، تجربتها مع التمييز الجندري في بيئة العمل، قائلة "لقد مضى ما يقارب ١٥ عاماً وأنا أشرف على جميع أعمال الشركة، لكن المدير العام لا يزال يتردد في منحي لقب "مديرة"، يبرر ذلك بقوله إن العمال لن ينصتوا إلي إذا حملت هذا اللقب، لأن السيطرة عليهم من وجهة نظره تتطلب أن يكون المدير رجلاً".

 

إقصاء النساء من سوق العمل... حين يُستبعد نصف المجتمع

يُعد حرمان المرأة من المناصب الإدارية لمجرد انتمائها الجندري أحد تجليات العقلية الذكورية المتفوقة التي تفرض قيوداً ممنهجة على النساء في سوق العمل، ففي كثير من الحالات، لا يُسمح لهن بالمشاركة أو التقدم حتى في أدنى مستويات الوظائف، ما يعكس بنية اجتماعية تمييزية تقصيهن من المجال العام.

وبحسب تقرير مركز الإحصاء الإيراني لعام 2023، بلغت نسبة مشاركة الرجال في الاقتصاد أكثر من 60%، بينما لم تتجاوز نسبة النساء 13%، هذا التفاوت الصارخ يكشف عن أولوية ممنوحة للرجال في التوظيف، رغم أن النساء يشكلن نصف المجتمع على الأقل. الأرقام لا تعكس فقط فجوة في الفرص، بل تشير إلى إقصاء ممنهج للنساء من الحياة الاقتصادية، نتيجة للهيمنة الذكورية على مؤسسات العمل والسياسات العامة.

غياب البنية التحتية الداعمة لتوظيف النساء لا يُعد سوى أحد العوائق؛ فإلى جانب نقص الفرص والموارد، هناك أيضاً خطاب ديني وسياسي يشكك في مشروعية عمل المرأة، وبينما تُرفع شعارات رسمية تروج لمشاركة النساء بوصفها "إنجازاً"، تُستند في المقابل إلى مصادر فقهية تعتبر أن "أفضل وظيفة للمرأة هي ربة المنزل"، ما يؤدي عملياً إلى تقييد وجود النساء في المجال العام وتكريس احتكار الرجال للمواقع المهنية.

حتى في الوظائف المصنفة على أنها "نسائية"، لا تزال السيطرة الذكورية حاضرة، فالرجل يسمح له بامتلاك متجر لبيع الملابس النسائية، بل وحتى الملابس الداخلية، أو العمل كخياط للنساء، بينما تمنع المرأة من امتلاك متجر لبيع الملابس الرجالية، بحجة أنها غير مؤهلة للتعامل مع شؤون الرجال، هذا التناقض يظهر أن النظام الأبوي لا يكتفي بتقسيم الوظائف، بل يفرض هيمنته حتى على ما يفترض أنه من اختصاص النساء.

 

السوق الذكوري... حاجز ممنهج أمام النساء الرياديات

تُسلّط هستي مقدم (اسم مستعار)، صاحبة متجر لبيع الملابس النسائية في مدينة كرمانشان، الضوء على التحديات التي تواجهها النساء في بيئة تجارية يهيمن عليها الرجال، وتقول "باتت أسواق الملابس النسائية، ومستحضرات التجميل، وغيرها من المجالات المرتبطة بالنساء، خاضعة لسيطرة الرجال بالكامل، وبفضل شبكات الدعم والتعاون بينهم، يتم إقصاء النساء من دورة السوق بسهولة، فعندما تحاول امرأة استئجار متجر في شارع يهيمن عليه رجال يبيعون منتجات نسائية، يتكاتفون لخلق عراقيل تجبرها على الانسحاب من المنافسة".

وأضافت "في السوق الكبير، الذي يعد مركزاً رئيسياً لتوريد الملابس النسائية بالجملة، يرفض التعامل معنا بالشيكات، ويشترط علينا الدفع النقدي فقط، أما الرجال، فيمنحون تسهيلات مثل الشيكات المؤجلة لأشهر، لأن هناك اعتقاداً راسخاً بأن التجارة يجب أن تبقى حكراً على الرجال، وأن وجود النساء في هذا المجال غير مرغوب فيه".

وترى أن هذه الممارسات لا تقتصر على التمييز المالي، بل تمتد إلى احتكار الرجال للفرص التي كان من الممكن أن تشكل مساحة للنساء الرياديات "لقد استحوذ الرجال على معظم الوظائف والمواقع التجارية التي كان يمكن أن تمثل لنا نحن النساء فرصة للنمو والاستقلال، ولا يسمح لأي منافسة نسائية بالاستمرار أو التوسع".

 

الإقصاء الجسدي والنفسي للنساء

يمثل إقصاء النساء من الدورة الاقتصادية أحد أبرز أدوات النظام الأبوي في ترسيخ سلطته داخل المجتمع، فإلى جانب الإقصاء الجسدي المباشر، يمارس هذا النظام أشكالاً من الحرب النفسية تهدف إلى تقليل ثقة النساء بأنفسهن، والتشكيك في قدراتهن المهنية، مما يؤدي إلى تهميشهن وإفساح المجال أمام الرجال لاحتكار ساحات النشاط الاقتصادي.

ورغم أن العديد من النساء استطعن في السنوات الأخيرة اقتحام مجالات ينظر إليها تقليدياً على أنها "ذكورية"، إلا أن العقلية السائدة في المجتمع الأبوي لا تزال تشكك في كفاءتهن، وتضعهن في مرتبة أدنى عند التوظيف أو الترقية، هذا التحيز لا يعبر فقط عن تفضيل الرجال، بل يعكس بنية سلطوية تعيد إنتاج التمييز الجندري داخل المؤسسات المهنية.

إن هذا الإقصاء الممنهج لا يقتصر على منع النساء من الوصول إلى المناصب العليا، بل يبدأ من مراحل مبكرة، حيث تواجه النساء عراقيل نفسية واجتماعية تمنعهن من المنافسة على قدم المساواة، وهكذا، يعاد إنتاج الفجوة الجندرية في كل دورة من دورات العمل، ويكرس حضور الرجل بوصفه الخيار "الطبيعي" في مواقع السلطة والقرار.

 

القيادة مهنة ذكورية في نظر العقلية الأبوية

تُشارك هايده. ر، سائقة محترفة حاصلة على رخصة قيادة من الفئة الأولى، تجربتها في مواجهة التمييز الجندري داخل سوق العمل، وتقول "أقود سيارة "آريسان" الخاصة بوالدي، وأمتلك منذ سنوات رخصة قيادة من الفئة الأولى، إلى جانب رخصة قيادة رافعة شوكية، عادةً ما ينشر والدي إعلاناً لنقل البضائع، وأنا أتولى مهمة التحميل والنقل، لكن كثيراً ما أواجه رفضاً من أصحاب الطلبات بمجرد أن يروني؛ إذ يلغون الاتفاق فوراً".

وأوضحت أن "النظرة السائدة هي أن المرأة غير قادرة على أداء هذا النوع من العمل، لأن القيادة تعتبر وظيفة ذكورية بامتياز، يعتقد كثيرون أن النساء يفتقرن إلى الكفاءة المطلوبة، وأنهن لا يستطعن أداء المهام القيادية بشكل صحيح".

 

تناقضات النظام الأبوي في تقسيم العمل الجندري

يرتكز النظام الأبوي على ترسيخ فكرة تفوق الرجل على المرأة، ويغذي هذا الاعتقاد داخل المجتمع بشكل ممنهج، مما يؤدي إلى تفضيل الرجال لا شعورياً في أداء المهام، حتى عندما تكون الكفاءة متساوية، هذا التصور يستخدم كأداة لتقويض قدرات النساء في مختلف المجالات المهنية، لكنه في الوقت ذاته يكشف عن تناقضات جوهرية في المنطق الذي يروج له.

فعلى سبيل المثال، إذا كانت القيادة ونقل البضائع تصنف ضمن "المهن الرجالية"، بناءً على افتراضات جندرية، فإن المنطق ذاته يقتضي الاعتراف بتفوق النساء في مجال الطهي، باعتباره من "الوظائف النسائية" التقليدية، لكن ما إن تتجاوز المرأة حدود المنزل وتمارس الطهي كمهنة احترافية، حتى يعاد تعريف هذا المجال ليصبح تخصصاً يفضل أن يشغله الرجال، وينظر إليهم على أنهم أكثر كفاءة فيه.

هذا التناقض يُظهر أن النظام الأبوي لا يلتزم بثبات في تصنيفاته، بل يعيد تشكيلها بما يخدم احتكار الرجال للمجالات العامة والمهنية، حتى تلك التي يفترض أنها "نسائية"، وهكذا، لا يستخدم تقسيم العمل الجندري لتوزيع الأدوار، بل لتكريس الهيمنة الذكورية وإقصاء النساء من مواقع التأثير والاعتراف المهني.

 

الطهي مهمة تفرض على النساء ومهنة تمنح للرجال

عن المفارقة التي تواجهها النساء في مجال الطهي، تقول تهمينة زماني (اسم مستعار)، وهي طاهية تعمل في مناسبات مختلفة "منذ لحظة ولادتنا كنساء، يقدم لنا المغرف كرمز لدورنا المنزلي، وينظر إلى الطهي باعتباره مهمة نسائية بحتة، لكن عندما نحاول تحويل هذه المهمة إلى مهنة في المطاعم أو الفنادق، تتغير المعايير فجأة، معظم إعلانات التوظيف تطلب طهاة رجال فقط، وعندما أتقدم للعمل، يقال لي إنهم يفضلون الرجال بحجة أن المرأة لا تستطيع التعامل مع المعدات الثقيلة، مثل عبوات الزيت أو القدور الكبيرة، وأن وجود رجل في المطبخ يعد خياراً أفضل للمؤسسة".

وأضافت "في المقابل، يعرض علي دائماً العمل كغسالة صحون، وكأن مساهمتي لا تتجاوز المهام الثانوية، رغم خبرتي ومهارتي في الطهي".

 

الاستقلال الاقتصادي كسرٌ لهيمنة النظام الأبوي

يشكل احتكار الرجال لمعظم الوظائف، وحصر النساء في مهن هامشية لا تمنح سلطة أو مكانة، جزءاً من آلية ممنهجة يستخدمها النظام الأبوي للسيطرة على الدورة الاقتصادية وإقصاء المرأة منها، هذه الآلية لا تقتصر على حرمان النساء من فرص العمل، بل توظف كأداة لإبقائهن تحت السيطرة، إذ يدرك النظام الأبوي أن أول خطوة نحو تحرر المرأة تبدأ من قدرتها على تحقيق الاكتفاء المالي.

فالاستقلال الاقتصادي لا يمنح المرأة فقط حرية القرار، بل يهدد البنية التي يقوم عليها النظام الأبوي، والتي تعتمد على تبعية النساء واعتمادهن المالي على الرجال، لذلك، يقاوم هذا النظام بشدة أي محاولة لتمكين النساء اقتصادياً، ويعيد إنتاج التمييز في كل مفصل من مفاصل سوق العمل.