امرأة من دير الزور عن حقبة داعش: كُسرت إرادتنا باسم الدين لكننا اليوم ننهض

عندما دخل داعش المدينة رافعاً راية الإسلام، كانت النساء أول الضحايا وآخر من يُنسى، وتحوّل الجسد الأنثوي إلى ساحة معركة، والضمير إلى رهينة في محكمة لا تعرف الرحمة.

زينب خليف

دير الزور ـ منذ اللحظة الأولى لوصول داعش إلى مدينة هجين شرق مقاطعة دير الزور بإقليم شمال وشرق سوريا تغيّرت ملامح الحياة، واختفت ملامح النساء، قيودٌ مشددة، محاكم تفتيش متنقلة "حسبة" لا تعرف إلا القمع، وفتاوى تُفصّل على مقاس العنف.

في كل بيت حكاية، وفي كل حكاية ألمٌ مكتوم، وعيون ترفض أن تنسى. كانت المرأة هناك هدفاً، لا صوتاً والحرية تُقابل بالخوف، والكرامة تُستبدل بإهانة علنية "سبايا" و"غنائم حرب"، نساء مذنبات لأنهن يتنفسن هكذا رُسمت صورة الحياة في ظل سلطة تتخذ الدين غطاءً، لكنها تمزقه بمخالب الوحشية.

نساء دير الزور، وهن تروين اليوم ما عايشنه من مآسٍ، لا تشجبن فقط التنظيم، بل ترفعن أيضاً أصواتهن كيلا تتكرر التجربة. تجارب شخصية من عمق الألم تحولت إلى صرخة وعي، ورسالة إنذار من خطورة استغلال الدين كأداة للقمع والترويع.

فلم تكن سنوات سيطرة داعش على مدينة هجين ومحيطها في ريف دير الزور الشرقي مجرد مرحلة من الصراع المسلح، بل كانت فترة سوداء حفرت في ذاكرة النساء مزيجاً من الخوف، والإهانة، والذل، والقهر النفسي الذي لا يزال أثره قائماً حتى اليوم، وتروي النساء، ممن عايشن تلك المرحلة، قصصاً تقشعر لها الأبدان عن ممارسات داعش ضد المرأة تحديداً، والتي أُخضعت لأقصى درجات التسلط تحت ذريعة الدين، بينما لم تكن تلك الممارسات إلا تشويهاً متطرفاً للإسلام وقيمه.

تقول حمدة العلي أن معاناة النساء بدأت منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها مرتزقة داعش مدينة هجين، حيث أعلنوا أنهم "جاؤوا براية الإسلام"، لكن ما حدث لاحقاً كشف عن نوايا مغايرة تماماً "قالوا إنهم جاؤوا ليطبقوا الإسلام لكننا لم نرَ شيئاً من الإسلام الحقيقي. رأينا فقط إهانات واحتقار وقهر، خاصة بحق النساء".

وأضافت "فرض داعش قوانين صارمة، جعلت من حياة النساء جحيماً يومياً. اختفت الحريات تماماً، وبات الخروج من المنزل، أو كشف الوجه، أو حتى الضحك علناً جرائم تُعاقب عليها النساء بشدة".

وأشارت إلى أن ما تُسمى بالحسبة النسائية تراقب النساء، وتفرض قيوداً شديدة على الملبس والسلوك وحتى الكلمات "عندما كنت أمشي بالشارع، أعضاء من الحسبة يخفضوا سرعتهم وكأنهم سيصطادون فريسة، لذلك بدأت أخاف الخروج من باب المنزل وكانت أي ملاحظة من المرتزقة على اللباس أو التصرف، كافية لإهانة المرأة علناً أو سحبها إلى مقر الحسبة، وهو مصير يرعب النساء حتى اليوم"، كما تقول حمدة العلي "لا زلت أكره كلمة حسبة… أرتعد منها حتى اليوم".

واحدة من أبشع صور القهر التي روتها حمدة العلي، تمثلت في تحويل بعض الفتيات إلى "سبايا"، يُعاملن كغنائم حرب، يُبعن ويُشترين، ويُجبرن على التنقل مع المرتزقة.

وتقول وهي الشاهدة على العديد من الحالات "رأيت فتيات من مناطقنا يُنقلن بسيارات ويقولون عنهن سبايا… تلك كانت صدمة… لم نكن نسمع بمثل هذا منذ قرون هذه الانتهاكات لم تكن حادثة معزولة، بل كانت سياسة ممنهجة، تحوّل فيها جسد المرأة إلى ساحة انتقام، وأداة لتكريس سلطة داعش على الأرض. لكن رغم الجراح، النساء لم تُكسرن. اليوم، وهن ترفعن صوتهن بشجاعة، تسردن ما حاول داعش دفنه في ظلمة الخوف. تروين الجحيم".

ما زرعه داعش في نفوس النساء، لم ينتهِ بانتهاء سيطرته العسكرية، بل ما زالت آثاره حاضرة نفسياً واجتماعياً، كما تؤكد حمدة العلي "كرهنا الإسلام بسبب ممارساتهم، نحن نعتبر أن الإسلام هو من حرر المرأة، وليس هو من جلدها أو حبسها".

فالنساء اللاتي عشن تلك المرحلة، تؤكدن أن داعش أفرغ الدين من جوهره، وألبسه زيّاً قمعياً رغم عودة الاستقرار النسبي بعد زوال داعش إلا أن الخوف من عودة الفكر المتطرف لا يزال يخيّم، خاصة مع وجود خلايا نائمة في بعض المناطق.

وتوضح حمدة العلي "اليوم نعيش حياة أفضل بناتنا تدرسن، والناس يعملون، لكن ما زال الخوف في قلوبنا.. الطرق ليست آمنة، والتنقل ليس سهل".

تحاول النساء اليوم النهوض من جديد، لكن العقبات ما زالت قائمة منها نظرة المجتمع، الحذر، والخوف من تكرار الماضي، كلها عوامل تؤخر الانخراط الكامل في الحياة العامة، وبالمقابل، فإن الوعي الذي ولّدته التجربة جعل النساء أكثر وعياً بحقوقهن، وأكثر تصميماً على مقاومة أي شكل من أشكال القمع "احترقنا بنار داعش، ويستحيل أن نخطأ ونثق بهم مرة أخرى، بإمكاننا قول كلمة لا".

قصص نساء دير الزور ليست مجرد حكايات مؤلمة، بل هي شهادة حيّة على وحشية الفكر المتطرف، وعلى قوة المرأة السورية في تجاوز الألم. في ظل مرحلة جديدة تشهدها المنطقة، يبقى دعم النساء وتمكينهن ضرورة وطنية وأخلاقية، لضمان عدم عودة الاستبداد باسم الدين.

رغم كل ما مرّت به النساء في دير الزور، ورغم ما زرعه داعش من خوف ودمار نفسي، فإن بذور القوة لم تمت. بل على العكس، أصبحت هذه التجربة المريرة حافزاً لإعادة بناء الوعي، واستعادة الصوت، والمطالبة بالحقوق.

إن النساء اللاتي أحرقتهن نار داعش لم تعدن كما كنّ، بل صرن أكثر صلابة، وأكثر وعي بأن لا حرية بدون مقاومة فكر التطرف، ولا أمان بدون تمكين المرأة. في ظل واقع جديد ما زال هشاً، تتجدد المخاوف من خلايا نائمة، لكن في المقابل يتصاعد الأمل كل يوم من صوت امرأة تقول "تعلمنا الوقوف ولن نعود إلى الخلف".

تمكين النساء في دير الزور ليس ترفاً اجتماعياً، بل ضرورة لبناء مجتمع متعافٍ من إرث الكراهية، وسدّ الطريق أمام عودة الفكر المتطرف. إنها مسؤولية الجميع  دولة ومجتمع ومؤسسات ألا يُترك صوت المرأة وحده في مواجهة الظلام، بل أن يكون الضوء الذي يرافقها في طريق النهضة والحرية.