الغربة لا تُخاط على مقاس النساء

في عالم تُبنى فيه القوانين والسياسات من منظور ذكوري، تظل النساء الحلقة الأضعف في منظومة الحقوق، ولا تُصاغ أحوالهن في النصوص، ولا يُؤخذ بعين الاعتبار عملهن غير المرئي في رعاية الأسر أو إعالة أفرادها.

منى توكا

ليبيا ـ تظهر حكايات نساء لا يحملن صفة المواطنة، ولا يملكن ورقة رسمية تضمن لهن الأمان، لكنهن تعشن الحياة بصبر، وقصة سلوى محمد، امرأة مصرية عاشت في ليبيا أربعين عاماً، واحدة من القصص التي تسلط الضوء على معاناة الوافدات.

في حي شعبي متواضع بمدينة سبها الليبية، تجلس سلوى محمد خلف ماكينة خياطة داخل محل صغير دخله لا يكاد يغطي إيجاره الشهري، لكنه نافذتها الوحيدة على الحياة، ووسيلتها لمواجهة الفقر والحاجة، لم تأتِ سلوى محمد من مصر إلى ليبيا بحثاً عن مغامرة أو فرصة عمل، بل جاءت قبل أكثر من أربعة عقود، رفقة زوجها الفلسطيني الذي كان يعمل مدرساً في ليبيا منذ عام 1976، بعد أن تزوجا وهي لا تزال في سن الرابعة عشرة.

في عمر تكون فيه الفتيات تلعبن بالدمى، وجدت سلوى محمد نفسها زوجة ومهاجرة في بلد لا تعرف فيه أحداً، لم تكن تعرف شيئاً عن ليبيا، ولا عن الحياة الزوجية، لكنها مضت مع زوجها بخطى خجولة، وظلت معه في الظل، تبني حياة لم تختر تفاصيلها بالكامل، لكنها آمنت بها.

سلوى محمد التي تجاوزت الآن الستين من عمرها، عاشت غالبية سنواتها في ليبيا، في هذه البلاد التي لم تُمنحها جنسيتها، أنجبت أبناءها السبعة، وبنت تفاصيل حياتها اليومية على أرض لم تكن يوماً وطنها، لكنها كانت وما زالت ملاذها، ولم تعد تعرف سلوى نفسها كمصرية فقط، فقد غابت عنها شوارع القاهرة وصخب الإسكندرية، في الوقت الذي تجذرت في أحياء ليبيا وأسواقها ولهجتها.

توفي زوجها عام 2010، ومنذ ذلك الحين، بدأت رحلة شاقة من الكفاح اليومي من أجل البقاء، إلا أنها لم تحصل على أي ضمان اجتماعي بعد وفاته، لا من السلطات الليبية التي خدم فيها، ولا من بلده الأم، ووجدت سلوى محمد نفسها وحيدة، بلا معيل، ولا سند، ولا حتى مسكن دائم، إذ تعيش في بيت بالإيجار، وتعيل أبناءها بمجهودها الشخصي فقط.

"ليس لديّ مرتب أو ضمان، ولا أحصل على أي مساعدات، أعمل خياطة، والمحل بالإيجار، وأبني البكر ترك المدرسة حتى يساعدني"، بهذه الكلمات وصفت سلوى محمد بصوتٍ مشوب بالإرهاق معاناتها، حتى أنه لم يكن بمقدورها عيش ترف الحزن طويلاً، خاصة أن دخل المحل لم يكن كافياً لتغطية مصاريف المنزل وتعليم الأبناء، لذلك، اضطر ابنها البكر الذي كان يدرس في المرحلة الثانوية، لترك الدراسة والالتحاق بسوق العمل، ليعيل والدته وأخوته، ويخفف عنهم عبء الحياة المتزايد.

أما بناتها، فهنّ ما زلن على مقاعد الدراسة، في مدارس ليبية، بين زميلات يحملن الجنسية الليبية، بينما يبقين هنّ في منطقة رمادية قانونياً، لا هنّ ليبيات، ولا يعاملن كمواطنات، ومع ذلك، تصر سلوى محمد على أن تعليم بناتها هو مشروعها الأهم، وأعظم انتصاراتها في هذه الحياة.

رغم أن محلها لا يدر سوى دخل محدود، تصر سلوى محمد على الكفاح رافضة رمي عبئها وأسرتها على أحد، بين ماكينة الخياطة، وهموم الإيجار، وتكاليف المعيشة، تحاول أن تزرع الأمل في أبنائها، وتمنحهم ما حرمت منه.

لكن الأمل وحده لا يكفي، فسلوى محمد، مثل نساء كثيرات في ليبيا، تقفن على هامش كل القوانين، لا تملك إقامة دائمة، ولا أوراق تثبت استحقاقها لأي مساعدة، رغم أنها عاشت مراحل مسيرتها في ليبيا من زواج وأمومة، والكدّ من أجل البقاء.

سلوى محمد قصة امرأة من ملايين القصص لنساء تعشن على هامش الحياة الاجتماعية والاقتصادية، في ظل تحديات قانونية ومعيشية معقدة، قصتها تفتح باباً للتساؤل حول أوضاع النساء المهاجرات والوافدات في ليبيا، وحول الحاجة إلى آليات أكثر عدالة لضمان كرامتهن، سواء من جهة الدعم الاجتماعي أو السياسات القانونية.

وفي ظل ظروف معيشية واقتصادية تزداد صعوبة، يبقى الأمل في أن تجد قصص مثل قصة سلوى محمد من يصغي لها، وينظر إليها بعين الاعتبار، ضمن أي نقاش حول الإصلاحات الاجتماعية والسياسات المستقبلية في البلاد.

لكن الأهم من ذلك، أن تُقرأ قصة سلوى محمد كقصة لواقع نساء تتحملن وحدهن أعباء الانهيارات من دون حماية قانونية أو شبكة أمان اجتماعية، نساء مثلها يدفعن ثمن الغياب المزدوج غياب الدولة، وغياب الاعتراف بعمل المرأة غير المرئي، ذلك العمل الذي يبقي منزلياً قائمة وأطفالاً في المدارس، دون أن يُعترف به كحق، أو حتى كوجود.