"إبرة وخيط"... مشروع يجمع بين الإبداع والحاجة
وسط معاناة النزوح ونقص الموارد، انبثق مشروع "إبرة وخيط" ليجمع بين الإبداع والحاجة لتخفيف الآثار القاسية للشتاء القارس على العوائل المتضررة بغزة.
نغم كراجة
غزة ـ خلال الأزمات تولد الأفكار والابتكارات، وعندما تتشابك الحاجة مع الإبداع، تصبح الظروف القاسية دافعاً للابتكار، ومن رحم معاناة النزوح وقسوة الشتاء ظهرت فكرة مشروع استثنائي يسعى لتوفير أبسط احتياجات النازحين بغزة بطريقة غير تقليدية، وباستخدام موارد محدودة وبدائل غير مألوفة، أنبثق مشروع "إبرة وخيط".
في عام 2016، حين كانت البطالة كابوساً يطارد أحلام خريجي الجامعات في غزة، برزت نداء عيطة الحاصلة على معدل امتياز كشعلة أمل وقوة تغيير، بعد أن واجهت كغيرها صعوبة في العثور على وظيفة تلبي طموحاتها، "كنت أتمنى أن أجد فرصة عمل تفتح لي أبواب المستقبل، لكني لم أكن مستعدة للانتظار، قررت أن أصنع طريقي بنفسي".
حيث انطلقت نداء عيطة بفكرة رائدة لتحول شغفها في صناعة الحلويات إلى مشروع منزلي عبر الإنترنت، وتصبح واحدة من أوائل النساء اللاتي أسسن هذا النوع من المشاريع في شمال القطاع، بدايةً واجه مشروعها عقبات جمة، فقد كان العمل عبر الإنترنت في مجال التصنيع الغذائي آنذاك جديداً وغير مألوف "لم يكن الطريق سهلاً، لكنني كنت عازمة على تحقيق حلمي، وكل خطوة كانت تدفعني للأمام".
بعد عامين من العمل الشاق، انتقلت إلى مرحلة جديدة أكثر تأثيراً، حيث بدأت بمساعدة نساء أخريات في تأسيس مشاريعهن الخاصة، ومن خلال التدريب على التصنيع الغذائي، مكّنت العديد من النساء اقتصادياً، مما أتاح لهن فرصة تحقيق استقلالهن المادي "حين رأيت النساء تنجحن وتحققن دخلاً، كان شعور الفخر لا يوصف، لقد كانت هذه أكبر مكافأة لي".
توالت إنجازات نداء عيطة، حيث شاركت في معارض مختلفة ومسابقات للطهي، وساهمت في تعزيز ثقافة ريادة الأعمال النسائية، كما أطلقت مبادرات مبتكرة في مجال بيع مستلزمات الحلويات؛ لتسدّ فجوة كبيرة في السوق المحلي آنذاك، ومع تطور مشروعها قامت بتنظيم دورات تدريبية متنوعة تضمنت فنون تزيين الكيك وصناعة الشوكولاتة والمربيات، وصولًا إلى الأجبان "حين تعمل بشغف، لا يوجد حدود لما يمكنك أن تقدمه".
الشغف وحب العمل جعلها عضواً نشطاً في مؤسسات اقتصادية منها الغرفة التجارية وملتقى سيدات الأعمال، واتحاد الصناعات الغذائية والزراعية، لتساهم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية للنساء في غزة.
ومع استمرار الحرب على غزة لأكثر من عام، وجدت نداء عيطة نفسها تواجه واقعاً مأساوياً من إغلاق المعابر بشكل كامل، ونفاد المواد الأساسية، وظاهرة النزوح الجماعي، وفي ظل هذا الوضع الكارثي قررت أن تبادر مجدداً ولكن هذه المرة بمشروع مختلف تماماً "لم أستطع أن أبقى مكتوفة اليدين وأنا أرى الناس يعانون، خاصة الأطفال الذين لا يملكون حتى ملابس شتوية تقيهم البرد القارس".
استناداً إلى احتياج أساسي ومُلحّ، أطلقت مشروعها "إبرة وخيط"، الذي يقوم على فكرة إعادة تدوير البطانيات الحرارية وتحويلها إلى ملابس شتوية، هذه البطانيات التي كانت تستخدم كغطاء فقط، أصبحت في ظل غياب الأقمشة والمواد الخام بديلاً مبتكراً لتلبية احتياجات النازحين.
لم يكن تنفيذ المشروع سهلاً؛ فقد واجهت نداء عيطة تحديات جسيمة بدءاً من انقطاع الكهرباء وعدم توفر ماكينات الخياطة، مما اضطرها إلى استخدام وسائل بديلة تستهلك وقتاً وجهداً مضاعفاً "كان الأمر صعباً جداً في البداية، كنت أحتاج لشهور من العمل اليدوي دون كهرباء أو آلات، لكن لم يكن أمامي خيار آخر"، مضيفةً أنه بالإضافة لما سبق ارتفاع في أسعار البطانيات بشكل كبير مع حلول فصل الشتاء، مما أضاف عبئاً إضافياً على جهودها، ومع ذلك واصلت العمل دون كلل.
إلى جانب مشروعها الصغير، أطلقت نداء عيطة مبادرة إنسانية ونوعية حيث دعت النازحين إلى إحضار بطانياتهم مع مبلغ رمزي لتغطية تكلفة الأدوات والمواد اللازمة، لتقوم بتحويلها إلى ملابس تخدم احتياجاتهم الأساسية، وقد لاقت هذه المبادرة إقبالاً واسعاً وساهمت في تخفيف معاناة العديد من العائلات النازحة "رأيت في عيون هؤلاء الأطفال الأمل، تلك اللحظات أكثر من مجرد نجاح، كانت إنسانية بحتة".
تؤمن نداء عيطة بأن النساء قادرات على تجاوز المستحيل، حتى في أشد الظروف قسوة، من خلال مشروع "إبرة وخيط"، لم تكن تسعى للربح بقدر ما كان هدفها هو استمرار العمل وتشغيل أكبر عدد ممكن من النساء، وفّرت فرصاً متجددة للنساء والفتيات في القطاع، لتمكينهن اقتصادياً بعد أن دمرت الحرب مصادر دخلهن، "النساء هنا تملكن قدرة خارقة على الصمود، وأنا فقط أساعدهن لإيجاد طرق لتأمين احتياجاتهن".
وفي الوقت الذي كان فيه العالم ينظر إلى غزة كمنطقة منكوبة، أثبتت نداء عيطة أن الإبداع يمكن أن ينبع من رحم الأزمات، حيث أن مشاريعها لم تكن مجرد وسيلة لكسب الرزق، بل نموذجاً للتحدي والابتكار "لم أكن أرى الأزمة، بل كنت أرى الفرص".
وقد ساهم مشروع "إبرة وخيط" في إحداث تغيير حقيقي في حياة العديد من النساء، فقد استطعن تأمين دخل بسيط يدعم عوائلهن، كما ساعد الأطفال على مواجهة برد الشتاء بملابس دافئة مصنوعة بابتكار وجهد، المبادرة لم تتوقف عند توفير الحلول الآنية، بل زرعت الأمل في نفوس الكثير بأن العمل الجماعي يمكن أن يتغلب على الظروف القاسية "هذه ليست فقط ملابس مصنوعة من بطانيات بل رسالة لكل امرأة فحواها أنه بإمكانها أن تصنع الفرق".
إن استمرار الحرب وما خلفته من دمار وتشريد لم تقف حائلاً أمام طموحات نداء عيطة، بل دفعتها إلى التفكير خارج القوقعة التي وضعت فيها لإيجاد حلول بديلة تخدم مجتمعها وتساهم في تخفيف معاناته "لن أتوقف، طالما أن هناك من يحتاجني، سأستمر في العمل".
بين أزيز الطائرات وصوت القذائف، تنهض نداء عيطة كل يوم لتثبت للعالم أن غزة، رغم آلامها، لا تزال مليئة بالحياة، ومشروع "إبرة وخيط" رسالة فحواها أن النساء قادرات على تغيير واقعهن، وأن الإبداع يمكن أن يتحدى المستحيل "غزة لن تُهزم، نحن أقوى من كل شيء، وسنبني مستقبلنا رغم كل العواصف".