واقع الصحافة العراقية... تحديات مهنية وعدم إنصاف للصحفيات (2)
وسط بيئة إعلامية معقدة تتسم بالتضييق القانوني والرقابة الذاتية والتهديدات المستمرة، يواجه الصحفيون والصحفيات في العراق تحديات جوهرية تؤثر على استقلاليتهم المهنية.

رجاء حميد رشيد
بغداد ـ برزت في الآونة الأخيرة الحاجة الملحّة لإصلاحات قانونية ومهنية تضمن تحقيق العدالة، وتعزز دور الإعلام في نقل الحقيقة بعيداً عن التدخلات السياسية والقيود المفروضة، وهو ما تؤكده الصحفيات العراقيات في سعيهن نحو إنصافهن، وضمان بيئة آمنة ومستقلة تتيح ممارسة المهنة بحرية وكفاءة.
في ظل بيئة إعلامية محفوفة بالتحديات، تبرز الحاجة إلى دعم الصحفيين والصحفيات في العراق، حيث لا تزال حرية الصحافة تواجه قيوداً شديدة، تنعكس بوضوح في ترتيب العراق المتدني على مؤشر حرية الإعلام، وبينما تزداد الدعوات لتوفير بيئة آمنة لممارسة الصحافة بحرية واستقلالية، لا يزال الواقع حافلاً بالصعوبات، بدءاً من التهديدات المباشرة، مروراً بالتضييق القانوني، وصولاً إلى تهميش الصحفيات في المؤسسات الإعلامية، ومع استمرار هذه التحديات، يصبح إصلاح البيئة الإعلامية ضرورة ملحة لضمان استقلالية الصحافة، وتعزيز دور المرأة الصحفية في صناعة الإعلام.
الإرث السياسي وتأثيره على الإعلام
أكدت الصحفية يمام سامي من بغداد، على أن ما يمر به العراق اليوم هو نتيجة طبيعية لعقود من القمع وتكميم الأفواه، والتي ترسخت بفعل الدكتاتورية السابقة وصراعات الأحزاب والطوائف المتناحرة على السلطة، وعلى الرغم من الامتيازات التي يتمتع بها العراق بفضل ثرواته الهائلة وموقعه الجيوسياسي، فإن انعكاسات الحروب والصراعات أثرت على مختلف جوانب الحياة، ولم تكن حرية الصحافة بمنأى عن هذا التدهور.
وتعتبر أن ثورة تشرين عام 2019 شكلت نقطة تحول رئيسية في المشهد، حيث ساهمت في تعزيز قدرة الصحفيين على العمل بشجاعة وإقدام، مما أتاح لهم مساحة للتعبير بحرية، ورغم أن دعم الحكومة الحالية لسلطة القانون لا يزال محدوداً ومتردداً، إلا أنه يمثل خطوة أولية، ولو بخطوات حذرة، في الاتجاه الصحيح، في ظل استمرار هيمنة المال السياسي على مفاصل السلطة.
الصحافة النسوية بين التحديات والمقاومة
ولفتت يمام سامي إلى أن "الصحفيات تواجهن مجموعة معقدة من التحديات أبرزها غياب حرية النقد، خاصة عندما يتعلق الأمر بالجهات المدعومة من جهات ذات نفوذ مسلح، والتي يصعب حتى على الحكومة السيطرة على ردود أفعالها، وعلى الرغم من تراجع مستوى الخطورة نسبياً في السنوات الأخيرة مقارنة بالعقد الماضي، فإن التهديدات لا تزال قائمة".
وأضافت "سيطرة رؤوس الأموال السياسية على المؤسسات الإعلامية تؤثر بشكل مباشر على توجهات الخطاب الإعلامي، حيث يُفرض على الصحفيين الالتزام بسياسات الجهات الممولة أو تجنب معارضتها، وفي ظل هذه القيود، باتت الصحفيات تعتمدن على منصات التواصل الافتراضي كمساحة أكثر حرية للتعبير، إلا أن هذا الفضاء يظل مراقباً من قبل إدارات المؤسسات الإعلامية، وغالباً ما يؤدي ذلك إلى فصل الصحفية من وظيفتها لمجرد إبداء رأي يتعارض مع توجهات المؤسسة".
وأوضحت أن أزمة فرص العمل في المجال الإعلامي زادت من الصعوبات التي تواجه الصحفيات، حيث أصبحت المهنة مفتوحة أمام الغير اختصاص، مما أدى إلى سيطرة المحسوبية والنفوذ على التعيينات داخل المؤسسات الإعلامية، وباتت المناصب تُمنح وفقاً للعلاقات الشخصية أو التأثير المالي، بدلاً من الكفاءة والخبرة، مشيرةً إلى أن معالجتها تتطلب إرادة فعلية من الحكومة، تبدأ بالحدّ من تأثير المال السياسي على الإعلام، مروراً بتقديم دعم معنوي ومادي حقيقي للصحفيات، ليتمكنّ من أداء دورهن في نقل الحقيقة والتعبير بحرية ضمن بيئة مهنية تحترم الحقوق وتوفر الأمان.
وترى أن تأثير المجتمع المدني في العراق، رغم أهميته، لا يزال محدوداً مقارنةً بالنفوذ الكبير للإعلام المدفوع، الذي يهيمن على المشهد الإعلامي بشكل واسع، لافتةً إلى أن المنظمات المدنية تواجه صعوبات في التصدي لهذه التحديات، حيث يُنظر إليها في كثير من الأحيان بريبة واستنكار من بعض فئات المجتمع، خاصةً مع تصاعد الشكوك حول الجهات الدولية الداعمة لها.
ولفتت إلى أن تمرير قوانين مثيرة للجدل، مثل القانون الجعفري لتنظيم الأحوال الشخصية، يُظهر حجم التحديات التي تواجه حقوق المرأة العراقية، خاصة أنه صدر رغم المطالبات بإيقافه لما يحتويه من ظلم وإجحاف، مؤكدةً على أن تمرير هذا القانون جاء نتيجة توافقات سياسية بين الأحزاب الحاكمة، مما يبرز تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي وتأثيره المباشر على حرية التعبير وحقوق المرأة.
كما شددت على أهمية دعم وحماية نقابة الصحفيين، وضمان حقوق أعضائها، بالإضافة إلى ضرورة أن توفر المؤسسات الإعلامية الحماية والدعم لكوادرها، مشيرةً إلى أن الواقع الإعلامي في العراق يفرض على الصحفيين البحث عن حماية من جهات داعمة، حيث يزداد نفوذ الصحفي تبعاً لقوة الجهة التي تسانده، مما يعكس مدى ارتباط الإعلام بالسلطة والنفوذ السياسي.
بعد عقدين على التغيير السياسي لا تزال حرية الصحافة مقيدة
وقالت الصحفية أسماء شعلان من محافظة الناصرية إنه "رغم مرور أكثر من عقدين على التغيير السياسي في العراق، لا تزال حرية الصحافة تواجه تحديات كبيرة، تنعكس بوضوح في ترتيبه المتدني في مؤشرات حرية الإعلام والحقوق الأساسية، ما يشير إلى أنه هناك بيئة إعلامية خانقة تعيق العمل المهني، مما يحد من قدرة الصحفيين على أداء مهامهم بحرية وأمان".
وأضافت "هذا التصنيف لا يقتصر فقط على تقييد الحريات، بل يعكس أيضاً مناخاً من الخوف والرقابة الذاتية، حيث يعمل الصحفيون في العراق تحت ضغوط أمنية وسياسية واجتماعية مستمرة، ويواجهون تهديدات بالقتل أو الاعتداء في ظل غياب شبه تام للمحاسبة، كما أن التبعية السياسية لمعظم المؤسسات الإعلامية تجعل من الصعب إنتاج محتوى مستقل وناقد، مما يفاقم من التحديات التي تواجه الصحفيين في ممارسة مهنتهم بحرية".
وأوضحت أن بيئة العمل الصحفي في العراق تعاني من نقص تشريعي واضح، حيث يتم استغلال قوانين مثل "الجرائم الإلكترونية" للحد من الحريات ومحاكمة الصحفيين بسبب منشوراتهم، كما أن هيمنة الأحزاب السياسية على المؤسسات الإعلامية أدت إلى تحويل الإعلام من سلطة رقابية مستقلة إلى أداة دعائية تخدم أجندات سياسية، مما يقلل من قدرة الصحفيين على تقديم صورة موضوعية ونقل الحقائق بحيادية.
وتابعت "في خضم هذه التحديات، تواجه الصحفيات شكلاً مضاعفاً من التمييز، فلا تقتصر معاناتهن على التهديدات التي تطال جميع الصحفيين، بل تمتد إلى عدم المساواة في الأجور مقارنة بزملائهن الرجال، فضلاً عن استبعادهن من المناصب القيادية مثل رئيسة تحرير أو مديرة قسم، ولا تزال العقلية الذكورية والتمييز الهيكلي يشكلان عائقاً أمام تمكين النساء في قطاع الإعلام".
وأشارت إلى أنه على الرغم من التحديات المستمرة، يظل للمجتمع المدني دور أساسي في رصد الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون، وتقديم الدعم القانوني والنفسي لهم، كما يساهم في تنظيم حملات توعوية للدفاع عن حرية التعبير، وتعزيز الوعي بأهمية الإعلام المستقل، ويسعى إلى بناء تحالفات مع جهات دولية بهدف زيادة الضغط على الحكومة لضمان حماية الصحفيين، وتهيئة بيئة عمل أكثر حرية وأماناً لممارسة العمل الإعلامي دون قيود أو تهديدات.
ويتطلب تحسين واقع حرية الصحافة في العراق خطوات جوهرية، بدءاً من تطوير آليات الدعم والسلامة المهنية، خاصة في المناطق التي تشهد نزاعات، كما أوضحت أسماء شعلان، مشددةً على أهمية دعم الصحافة المستقلة وتمويلها بعيداً عن تأثير الأحزاب السياسية، بالإضافة إلى تمكين الصحفيات وضمان حقوقهن المهنية والإدارية، إلى جانب تنظيم دورات تدريبية متخصصة في السلامة المهنية والأمن الرقمي.
"حرية الصحافة ليست ترفاً"
ولفتت أسماء شعلان إلى أن الصحفيات تواجهن في بيئة العمل، التحرش بأشكاله المختلفة، سواء كان لفظياً أو جسدياً، داخل المؤسسات الإعلامية أو أثناء التغطيات الميدانية، كما تعانين من انعدام تكافؤ الفرص، حيث يُشترط في بعض الأحيان حصولهن على امتيازات أو فرص للتقدم المهني مقابل تنازلات شخصية ترفضها، مما يؤدي إلى تهميشها أو إعاقة مسيرتها المهنية، هذه الظروف تجبر الصحفيات على خوض معركة مزدوجة لإثبات كفاءتهن المهنية، ومواجهة بيئة عمل تفتقر إلى العدالة والمساواة، مما يستدعي ضرورة تبني سياسات واضحة تحميهن وتعزز حقوقهن داخل المؤسسات الإعلامية.
وأكدت أن حرية الصحافة ليست ترفاً، بل ضرورة لضمان بناء نظام ديمقراطي شفاف، مشددةً على أهمية النظر إلى الصحفيين باعتبارهم حماة للحقيقة وصوتاً للمجتمع، وليسوا خصوماً أو تهديداً للسلطة، مشيرةً إلى أن غياب الخطوات الجادة من الحكومة لحماية الصحافة وتمكين الصحفيين سيؤدي إلى بقاء الإعلام العراقي تحت وطأة الخوف والرقابة، بدلاً من أن يكون منبراً يعكس واقع المجتمع بحرية وموضوعية.