جسد المرأة أداة إنتاج بلا حماية في الاقتصاد غير الرسمي بإيران
يُسخّر جسد العاملات في الصناعات الصغيرة وغير الرسمية في إيران ووقتهن في بيئات مرهقة دون حماية قانونية أو فرص للترقي، ما يُكرّس التهميش الاقتصادي والجندري. هذه الوظائف، رغم بساطتها الظاهرية، تُعد أدوات لإعادة إنتاج الهيمنة واللامساواة البنيوية.
شيلان سقزي
في الصناعات الصغيرة وغير الرسمية في إيران، تواجه النساء ظروفاً قاسية تتجلى في تدني الأجور، ساعات العمل الطويلة، وانعدام الحماية القانونية، ما يكرّس استغلالاً اقتصادياً ممنهجاً ويؤدي إلى إنهاك جسدي ونفسي، هذه البيئة لا تكتفي بتجاهل الدور الاجتماعي والإنساني للمرأة، بل تُعيد إنتاج التهميش عبر آليات اقتصادية وبُنى جندرية تُسخّر جسد المرأة ووقتها لخدمة الإنتاج دون ضمانات للترقي أو الأمن الوظيفي.
يرصد هذا التقرير بشكل نقدي كيف تُحوّل هذه السياسات جسد المرأة وزمنها إلى أدوات إنتاج، في ظل غياب العقود الرسمية والدعم القانوني، ويكشف كيف تُسخّر الفوارق الاقتصادية والاجتماعية طاقة النساء في خدمة اقتصاد لا يمنحهن فرصاً حقيقية للمشاركة أو التقدير، بل يرسّخ تبعيتهن داخل منظومة غير عادلة.
المرأة العاملة من التهميش إلى إعادة إنتاج الهيمنة
في الصناعات الصغيرة والمتوسطة، خصوصاً في مجالات تعبئة المواد الغذائية وصناعة الألبان، تُشكّل النساء العاملات النسبة الأكبر من القوى العاملة، لكن وجودهن يتركّز في قطاعات غير رسمية تفتقر إلى أي حماية قانونية.
تواجه هؤلاء النساء ظروفاً قاسية تتمثل في تدني الأجور، غياب العقود الرسمية، ساعات عمل مرهقة، وضغوط جسدية ونفسية متواصلة، ما يُدخلهن في دوامة من الإنهاك الجماعي.
هذا الإيقاع غير المتوازن للعمل، الذي يُبقي أجساد النساء تحت ضغط دائم، لا يهدد فقط صحتهن الجسدية والنفسية، بل يُكرّس أيضاً إعادة إنتاج التمييز الجندري على المستوى الاجتماعي، ويُضعف فرصهن في الحصول على بيئة عمل عادلة وآمنة.
وفي بيئات العمل غير الرسمية، يواجه العمال، خاصة النساء، نظاماً صارماً في الوقت والانضباط القسري، حيث يُعدّ أي تباطؤ أو توقف تهديداً مباشراً لمصدر دخلهم المحدود، هذا الضغط المستمر يُحوّل الإنهاك الجماعي إلى واقع يومي، يُثقل الأجساد والعقول، ويمنع النساء من الاعتراض أو المطالبة بحقوقهن.
وتتحوّل أماكن العمل هذه من مجرد مواقع إنتاج اقتصادي إلى أدوات لإعادة إنتاج الهيمنة الجندرية واللامساواة الاجتماعية، حيث يُختزل العمل النسائي في الاقتصاد غير الرسمي إلى جزء من "اقتصاد جندري" يُسخّر جسد المرأة كسلعة مستهلكة وأداة لتحقيق الأرباح، دون أن يُمنح لها حق الراحة أو التطور المهني أو الأمان الاجتماعي.
وتُظهر دراسة ميدانية أُجريت في مصانع التعبئة بمدينة كرماشان بشرق كردستان بعنوان "دراسة انتشار اضطرابات الجهاز العضلي الهيكلي المرتبطة بالعمل لدى عمال التعبئة والتغليف في مصانع كرمشان"، تفيد أن العاملات في خطوط الإنتاج السريعة تعانين من معدلات مرتفعة من اضطرابات في الجهاز العضلي والهيكلي، نتيجة ساعات الوقوف الطويلة، وتكرار الحركات، والعمل اليدوي المكثف، في ظل غياب العقود الرسمية والتأمين والرواتب المضمونة، هذا الإيقاع القاسي للعمل لا يؤدي فقط إلى آلام مزمنة، بل يُكرّس أيضاً حالة من الإنهاك الجماعي والتهميش البنيوي للعاملات.
وعلى سبيل المثال، يمكن الإشارة إلى النساء العاملات في صناعة الألبان في المناطق الريفية، فبالرغم من ندرة البيانات الدقيقة على المستوى المحلي، إلا أن الدراسات أظهرت أن النساء في هذه المناطق يعملن في خطوط إنتاج الألبان الصغيرة دون عقود رسمية أو تأمين، ولساعات تتراوح بين 12 إلى 15 ساعة يومياً، مقابل أجور متدنية، ومن دون أي دعم قانوني أو نقابي.
وتتحمل هؤلاء النساء إلى جانب الضغط الجسدي في العمل، مسؤوليات منزلية ورعاية الأطفال، مما يجعل إنهاكهن ليس نتيجة العمل الإنتاجي فقط، بل نتيجة تراكم ثلاثي يتمثل في "غياب العمل الرسمي، العمل المنزلي، العمل الإنتاجي المتواصل". وتُظهر هذه النماذج أن عمل النساء في صناعات التعبئة والألبان لا يُعد مجرد قضية اقتصادية، بل يعكس بنية النظام السياسي ـ الاقتصادي في إيران، الذي يدفع النساء العاملات نحو قطاعات غير رسمية تفتقر إلى الأمن الوظيفي، التأمين، المزايا، أو حتى ساعات عمل محددة.
الاقتصاد الجندري في إيران... النساء في مواجهة العمل غير المرئي
وفي العديد من المدن والمناطق الصناعية في إيران، تعمل النساء في ورش صغيرة مثل التعبئة، الكيّ، تغليف الملابس، وصناعة الألعاب، وهي أعمال تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها تُشكّل عبئاً جسدياً ونفسياً بالغاً، هذه الوظائف، بطبيعتها التكرارية وسرعتها العالية، تفرض إيقاعاً مرهقاً يتمثل في الوقوف لساعات طويلة، تكرار الحركات اليدوية، والتركيز المستمر على تفاصيل دقيقة، دون أي فرصة حقيقية للراحة.
وهذا النمط من العمل يُجسّد ملامح الاقتصاد الجندري وغير الرسمي في إيران، حيث تُسخّر النساء لإنتاج القيمة الاقتصادية دون عقود رسمية، أو تأمين، أو أي شكل من أشكال الأمان الوظيفي، مقابل أجور متدنية، وغياب تام لآليات الدعم أو الترقّي، والإنهاك الجسدي والنفسي الناتج عن هذه الظروف لا يهدد فقط صحة النساء، بل يُضعف أيضاً قدرتهن على المقاومة والمشاركة في الحياة العامة، ويُكرّس تبعيتهن داخل بنى السلطة والتمييز الاجتماعي.
في جوهره، يُعد هذا النوع من العمل آلية خفية للسيطرة، إذ يُبقي النساء منشغلات جسدياً وذهنياً، ويُقلّص من فرصهن في التعليم، التنظيم الاجتماعي، أو النشاط المدني، حتى الوظائف التي تبدو هامشية، تتحول في ظل الاقتصاد السياسي الجندري الإيراني إلى أدوات لإعادة إنتاج الهيمنة واللامساواة البنيوية.
وفي دراسة بعنوان "تأثير برنامج تمكين على السلوكيات المعززة لصحة العاملات الإيرانيات: تجربة عشوائية محكومة"، تم تسليط الضوء على أوضاع 80 امرأة عاملة في مصنع لتعبئة المواد الغذائية في إيران، حيث يعملن في بيئة شاقة تتسم بساعات عمل طويلة، إيقاع إنتاج مكثف، وغياب العقود الرسمية والتأمين، إلى جانب ضغوط جسدية ونفسية عالية.
أظهرت نتائج الدراسة أن العاملات في خطوط التعبئة يعانين من آلام عضلية وهيكلية ملحوظة، ناجمة عن تكرار الحركات، الوقوف لفترات طويلة، وقلة فترات الراحة، كما أشارت إلى غياب الدعم المؤسسي والموارد الرسمية التي تُعنى بصحة المرأة العاملة.

ويكشف التحليل البنيوي والجندري لهذه الحالات عن ملامح واضحة لواقع العمل غير الرسمي الذي تُدفع إليه النساء في مجالات التعبئة والصناعات الصغيرة، فهن يعملن دون حماية قانونية، بأجور متدنية، ولساعات مرهقة، في ظل غياب أي آفاق للترقي أو الأمان الوظيفي، هذا الواقع يعكس بنية الاقتصاد السياسي في إيران، التي تُقصي النساء من الفضاءات الرسمية وتدفع بهن نحو مواقع عمل غير مرئية، تُنتج فيها القيمة الاقتصادية دون اعتراف بحقوقهن الأساسية أو كرامتهن المهنية.
وفي العديد من مواقع العمل غير الرسمية في إيران، يُفرض على العاملات إيقاع عمل مرهق يتمثل في الوقوف لساعات طويلة، وتكرار الحركات، والعمل ضمن خطوط إنتاج سريعة، ما يؤدي إلى إنهاك جسدي ونفسي متسارع. هذا الإنهاك لا يقتصر على الجانب البدني، بل يمتد إلى تقليل القدرة على التحمّل، وزيادة التوتر، والشعور بانعدام القيمة الذاتية في العمل.
من منظور جندري، تُسهم هذه الظروف في إعادة إنتاج التمييز الاجتماعي، إذ تُجبر النساء على دخول فضاءات عمل غير آمنة لتأمين لقمة العيش، ما يحدّ من فرصهن في الترقّي، والأمان الوظيفي، والمشاركة في الحياة العامة، وهكذا، يُسخّر الجسد والطاقة النسائية لخدمة الإنتاج الاقتصادي، دون أن يُقابل ذلك بحقوق متساوية أو ظروف إنسانية عادلة.
ويُضاف إلى ذلك أن هذا النوع من العمل، بوصفه جزءاً من "الاقتصاد غير الرسمي"، يُقصي النساء عن المؤسسات الداعمة مثل التأمين، والنقابات، والتشريعات العمالية، ما يعكس بنية سلطوية تُبقي النساء في موقع هشّ داخل سوق العمل.
وباختصار، تُظهر هذه الأمثلة أن الوظائف التي تبدو بسيطة أو هامشية ليست أدوات لتمكين النساء، بل مواقع يتكثف فيها الضغط الاقتصادي والجندري والبنيوي، لذا، يجب النظر إليها كمساحات مركزية لفهم الاقتصاد الجندري، والإنهاك الجماعي، واللامساواة الهيكلية، لا كمجرد هامش في سوق العمل.