مهنة تكسير الحجارة... سودانيات يواجهن الخطر لكسب لقمة العيش

في كسلا شرقي السودان، تتحدى نساء الجبل قسوة الطبيعة وشظف العيش في مهنة تكسير الحجارة، بين الصخور والغبار يصنعن من التعب كرامة ومن الصمت مقاومة في مشهد يومي لا يعرف الرحمة ولا الإنصاف.

ميرفت عبد القادر

السودان ـ في الريف السوداني حيث الحياة لا تمنح النساء سوى القليل من مقومات العيش الكريم، تنسج نساء كسلا شرقي السودان يومياتهن بين الصبر والكفاح. هناك في جبل توتيل، تمتهن العديد منهن مهنة تكسير الحجارة وهو عمل شاق لا يراعي طبيعة أجسادهن، لكنه يفرض نفسه كوسيلة وحيدة لتأمين لقمة العيش لأسرهن.

تخرج النساء مع بزوغ الفجر يحملن أدواتهن البدائية، ويصعدن إلى الجبل حيث الصخور تنتظر أن تُفتت، تحت أشعة الشمس الحارقة، وسط الغبار المتصاعد، وتحت تهديد الأمطار المفاجئة، يواصلن العمل دون حماية تُذكر، كل ضربة على الحجر تحمل معها احتمال الإصابة، وكل خطوة في المكان قد تكون عرضة للدغات العقارب أو الأفاعي.

لكن المخاطر لا تتوقف عند الطبيعة، فهؤلاء النساء يواجهن أيضاً التحرش والسرقات وانعدام الرعاية الصحية دون أي دعم حكومي أو مؤسسي، ورغم كل ذلك يواصلن العمل بصمت مدفوعات بحبهن لأطفالهن ورغبتهن في تعليمهم وبإيمان عميق بأن الكرامة تنتزع من بين الصخور، لا تمنح.

 

نساء الجبل… كدّ يومي من أجل الكرامة

في أسفل جبل يُعرف محلياً بـ "جبل مصاريف"، تجلس أكثر من خمسين امرأة، كل واحدة منهن تحمل أداة بدائية، تطرق بها الصخور وتفتتها إلى حجارة صغيرة تعبأ في أكياس استعداداً لبيعها لمحلات البناء، لا يُطلق عليه "جبل مصاريف" عبثاً، فالعائد من هذا العمل الشاق لا يتجاوز المصروف اليومي، بالكاد يسد رمق الأسر التي تعتمد على هذه المهنة كوسيلة للبقاء.

وسط هذا المشهد، التقت وكالتنا بعائشة أبكر، إحدى النساء العاملات في تكسير الحجارة، كانت تجلس داخل خيمة بالية، لا تقيها من حرارة الشمس ولا من غزارة المطر، تحيط بها أكوام من الحجارة التي تفترش الأرض، أمامها صخرة كبيرة اختارتها لتكون منصة التفتيت، وبأداة حديدية ثقيلة تبدأ عائشة في تكسير الصخور واحدة تلو الأخرى.

تقول عائشة أبكر أنها تعمل في هذه المهنة منذ سنوات طويلة، تحول الصخور الكبيرة إلى قطع خرسانية صغيرة تستخدم في البناء وصناعة الأرضيات، بيدٍ مثقلة بالتعب، تمسك أداة حديدية صلبة، تطرق بها الحجارة دون أن ترافقها أي معدات وقاية أو أدوات صحية، وكأن جسدها وحده هو درعها في مواجهة هذا العمل القاسي.

ولفتت إلى أن هذه المهنة ليست حكراً عليها، بل تمتهنها معظم النساء في منطقتها الريفية بكسلا شرقي السودان، كثيرات منهن أرامل أو معيلات لأسر، يرزحن تحت وطأة ظروف اقتصادية خانقة، ويكافحن يومياً لتأمين لقمة العيش وتعليم أطفالهن.

يبدأ يومهن مع أول خيوط الفجر، يخرجن سيراً على الأقدام، يقطعن مسافات طويلة حتى يصلن إلى الجبال، حيث تبدأ رحلة الكد والتعب، يعملن حتى اقتراب المغيب ثم يعدن إلى منازلهن يحملن أجساداً منهكة وقلوباً مشغولة برؤية أطفالهن، وكأن كل حجر يكسر هو خطوة نحو حياة أكثر كرامة.

وعن حياتها الأسرية تقول إنها متزوجة وأم لأطفال تتقاسم مع زوجها هموم الحياة اليومية، يعمل زوجها في الأعمال الحرة، ويساندها في تأمين احتياجات الأسرة، مشيرةً إلى أنهما يخرجان معاً كل صباح، يسلكان طريق الكدّ والعمل، ويعودان مع غروب الشمس إلى منزلهما، حيث ينتظرهما أطفالهما بشوق، في لقاء يومي يختصر معنى الصبر والمشاركة.

 

كد بلا مردود

رغم الجهد المضني الذي تبذله نساء الجبل يومياً، يبقى العائد المالي ضئيلاً لا يكفي سوى لسد رمق الحياة، فالمردود لا يرقى إلى مستوى العمل الشاق والمخاطر التي تحيط بهن من كل جانب.

وأشارت عائشة أبكر إلى إنها تكسر ما بين عشرة إلى خمسة عشر كيساً من الحجارة يومياً، ومع ذلك لا تحصل إلا على مبلغ بسيط يؤمن لها لقمة العيش، دون أن يترك مجالاً لأي فائض أو تحسين في ظروف الحياة، إنها معادلة قاسية تعب بلا أرباح، وكد لا يكافأ.

تمر على عائشة أبكر وزميلاتها أيام ثقيلة لا يباع فيها حجر واحد، ولا يحصل فيها أي دخل وكأن الجبل نفسه قد أغلق أبوابه. ورغم هذا الانقطاع في الرزق، لا يجدن أي دعم من الجهات الحكومية، لا مساعدات مالية ولا حتى تنسيق يسهم في تسهيل عملية البيع أو تحسين ظروف العمل، حيث تترك النساء لمصيرهن يواجهن وحدهن قسوة الطبيعة وضيق العيش.

 

بين الصخور والسموم… اختبار يومي للقدرة على التحمل

المخاطر تحيط بعائشة ابكر وزميلاتها من كل جانب، فالمهنة التي اخترنها ليست مجرد عمل شاق، بل اختبار يومي للقدرة على التحمل. ذات يوم، وبينما كانت تهم بتكسير إحدى الصخور، أخطأت عائشة في الضربة، فأصابت يدها إصابة بالغة، لتضاف إلى قائمة طويلة من الجروح التي لا تُحصى، والتي باتت جزءاً من تفاصيل هذا العمل القاسي.

تتطلب مهنة تكسير الحجارة جهداً بدنياً هائلاً، ومع ذلك لا ترافقها أي أدوات حماية أو رعاية صحية، معظم النساء العاملات يعانين من آلام الظهر ومشاكل في الجهاز التنفسي نتيجة الجلوس الطويل والتعرض المستمر للأتربة، أما الغذاء فلا يتعدى وجبة واحدة يومياً تفتقر إلى العناصر الأساسية، ما يفاقم أمراض نقص الدم ويضعف أجسادهن أكثر.

ولا تقف المخاطر عند حدود الجهد البدني، فالمكان يعج بالعقارب والحشرات السامة، وتستقطب مياه الأمطار في موسم الخريف الأفاعي والثعابين، لتتحول بيئة العمل إلى ساحة تهديد دائم.

ورغم كل ذلك لا تزال عائشة أبكر وزميلاتها يحلمن بظروف عمل أكثر أماناً، بمعدات تحمي أجسادهن وبدخل يكافئ تعبهن، وبرعاية صحية واجتماعية تليق بكرامتهن، إنهن لا يطلبن الكثير، فقط الحد الأدنى من العدالة في مهنة لا ترحم.