'تجارب عالمية أثبتت أن مشاركة النساء تصنع سلاماً مستداماً'

أكدت عضوة أكاديمية الجنولوجيا نسرين آكجول، أن المرأة كانت دائماً في طليعة النضال من أجل السلام والديمقراطية، وبرزت أهمية مشاركتها في صياغة الحلول وضمان استدامة اتفاقيات السلام.

آرجين ديليك أونجل

آمد ـ لطالما كانت النساء في الصفوف الأمامية لحركات السلام حول العالم، حيث نظّمن احتجاجات ومبادرات لإنهاء الحروب. من فيتنام والعراق إلى البوسنة وليبيريا، لعبن دوراً محورياً في دفع المفاوضات وإرساء الاستقرار. حضورهن في هذه الجبهات يعكس قوة المقاومة المدنية وقدرتها على تحويل مسار النزاعات نحو العدالة والسلام.

 

دور النساء العالمي في المفاوضات وبناء السلام الديمقراطي

شكّلت النساء عبر التاريخ القوة الطليعية في مواجهة الحروب والسعي إلى السلام، فقد نظّمن احتجاجات ضد حرب فيتنام والهجوم على العراق، وأسهمن في إنهاء صراعات كبرى مثل الحرب في كولومبيا (2016)، ليبيريا (2003)، وإيرلندا الشمالية. كما لعبن دوراً بارزاً في أوغندا، صربيا، جنوب السودان، العراق، فلسطين، وسوريا، حيث قدن مبادرات سلمية وبنوا نماذج ديمقراطية قائمة على حرية المرأة. 

في كردستان، ظهرت حركات مثل "أمهات السبت" و"النساء من أجل السلام"، لتجعل من قضية السلام محوراً أساسياً لنضالها. وتشير الدراسات إلى أن مشاركة النساء في صياغة اتفاقيات السلام تزيد من فرص استمراريتها بنسبة 35%، رغم أن حضورهن ظل ضعيفاً؛ إذ لم تتجاوز نسبتهن بين المفاوضين 13% وبين الوسطاء والموقّعين 6%. 

ورغم قرارات دولية مثل قرار مجلس الأمن 1325 وإعلان سكوبيه، ما زالت النساء يواجهن التهميش في عمليات السلام. وفي السياق الكردي، شكّلت دعوة القائد عبد الله أوجلان إلى "السلام والمجتمع الديمقراطي" مرحلة جديدة، تُوّجت بلقاء رسمي معه في إمرالي أقرّته لجنة برلمانية تركية في تشرين الثاني/نوفمبر الجاري. 

وفي هذا السياق، قدّمت عضوة أكاديمية الجنولوجيا نسرين آكجول قراءة معمقة لتجارب النساء في ظل الحروب، ودورهن الحيوي في مسارات التفاوض وصناعة السلام.

 

الحرب والهيمنة الذكورية... المرأة في قلب الاستهداف

ترى نسرين آكجول أن الحرب ليست مجرد صراع بين أطراف، بل أداة بُنيت لتكون وسيلة مناهضة للمجتمع. فهي تظهر كإشكالية في بناء العلاقات الاجتماعية، وتتنوع أسبابها بين حروب تخوضها السلطات فيما بينها، وأخرى تنشأ من بؤر المقاومة المجتمعية. ومع ذلك، فإن جوهر الحروب مهما كان سببها، يكمن في سعي السلطة القائمة إلى ترسيخ هيمنتها عبر سياسات استعمارية قائمة على القسر والعنف أو ابتكار أساليب جديدة للسيطرة.

وأوضحت أن الحرب تُستخدم كوسيلة لإخضاع المجتمع، إذ تُبنى على العنف والإكراه، لتصبح حالة دائمة في مواجهة مطلب دائم بالسلام. وعلى حد تعبيرها، التاريخ يتشكل على هذا التناقض المستمر، من جهة حرب لا تنتهي، ومن جهة أخرى سعي متواصل لإيجاد الحل عبر السلام.

ووفقاً لنسرين آكجول فإن الحرب القائمة على هذا التناقض لطالما كانت نتاج العقلية الذكورية. فالحرب، بوصفها ظاهرة عسكرية، تنشأ من الصراع بين الرجل والمرأة، ومن هذا الأساس بُنيت حضارة مناهضة للمجتمع في حالة حرب دائمة معه "هذه الذهنية تستمد قوتها من العقل الذكوري الذي كرّس عبر آلاف السنين هيمنة مستمرة، متمركزة حول ذاته، وحوّلها إلى بنية مؤسسية راسخة".

وأضافت "هذا المسار التاريخي يكشف الوجه الغازي والسلطوي للحرب، حيث تكون المرأة أول من يتعرض للاستهداف، باعتبار أن الدولة تأسست وتُدار بعقلية ذكورية ترى في المرأة وجسدها مجالاً للغزو والسيطرة. وهكذا تتعدد ساحات ممارسة الحرب، لتصبح حقيقة تاريخية متجذرة".

ترى نسرين آكجول أن جذور الهيمنة بدأت مع فقدان التوازن بين الرجل والمرأة، حين سعى الرجل لبناء سلطته الخاصة، لتنشأ حضارات قائمة على العنف والسيطرة، مؤكدةً أن الحرب تمثل عزلة مطلقة وعداءً للمجتمع، تستهدف بالدرجة الأولى النساء والأطفال. فبنيتها العسكرية تغذّي ثقافة الاغتصاب، إذ يقوم جوهرها على الغزو والاستحواذ وتحويل الموجود إلى ملكية خاصة، ويجسد ذلك في السيطرة على جسد المرأة باعتبارها رمز الاستمرارية وحاملة النسل، ثم على الأطفال الذين يمثلون المستقبل. 

وأضافت أن "هذا النمط يتكرر في كل الحروب، حيث يصبح الاغتصاب وسيلة للهيمنة على المجتمع بأسره. حتى هتلر عبّر عن هذه الذهنية حين قال "المجتمعات تشبه المرأة"، في إشارة إلى أن إخضاع المرأة هو المدخل لإخضاع المجتمع".

 

النساء يصنعن طريق التفاوض

وفي تعليقها على مطالب النساء بالمشاركة في عمليات التفاوض الديمقراطي، أشارت نسرين آكجول إلى أنها تنبع من طبيعة هذه المفاوضات نفسها، إذ إنها تتشكل وفق موازين القوى وتقوم على اعتراف متبادل بين طرفين "السيد أوجلان أكد من منظور نسوي أن على النساء حل جميع مشاكلهن عبر أساليب التفاوض لأنها جوهر الحل لكل القضايا، وهي أساس السياسة الديمقراطية. فالتفاوض في معناه اليومي عملية توافقية وبنيوية، حيث تصبح الفكر والحجة والقدرة على الإقناع والمشاريع والبرامج أدوات الحل، وكلما كان التنظيم أقوى كان الوصول إلى الحل أكثر واقعية".

وترى أن الحرب بطبيعتها انعكاس للعقل الذكوري، بينما يمثل التفاوض قوة المجتمع المستمدة من المرأة، إذ يهدف إلى معالجة آثار الحرب وإعادة بناء المجتمع على أسس المساواة. ومن هنا تصبح النساء في طليعة العملية، فهن من يضعن الحلول ويكسرن رفض الرجل عبر إدماج الفوارق المستبعدة. والسؤال ليس لماذا يجب أن تكون المرأة جزءاً من التفاوض، بل ماذا يحدث عند استبعادها؟. 

وأوضحت أن حرب غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 تجسد أبشع صور الوحشية في القرن الحادي والعشرين، حيث تتحمل النساء والأطفال النصيب الأكبر من المعاناة، فيما يُقصى حضور النساء عن مسارات التفاوض، ويصر العقل الذكوري على إدارة الحلول بالسلاح، مما يجعل الوصول إلى سلام حقيقي أمراً مستحيلاً. 

واستشهدت بتجربة إيرلندا الشمالية، حيث أنهى اتفاق بلفاست الموقع في نيسان/أبريل 1998 أكثر من ثلاثين عاماً من الصراع الطائفي، بعد عملية سلام امتدت بين عامي 1996 و1998. وقد تمكنت النساء هناك، عبر "ائتلاف نساء إيرلندا الشمالية"، من المشاركة في المفاوضات الأساسية وإحداث فارق ملموس.

كما ذكّرت تجارب البلقان في التسعينيات وبدايات الألفية، إضافة إلى العمليات السلمية التي قادتها النساء في تركيا، مؤكدة أن جميع المبادرات النسائية جمعت بين مختلف الفئات وأسست نموذجاً تنظيمياً جماعياً قائماً على المشاركة والتنوع، وهو ما يبرهن على الدور البنّاء للنساء في صناعة السلام.

 

"المرأة والإرادة الديمقراطية في مواجهة الحرب والعسكرة"

وقالت نسرين آكجول "حالياً نسعى إلى بناء تاريخ الأخوّة بين الأتراك والكرد، لإيجاد نقاط التقاء مشتركة، وهذا بالنسبة لنا أمر بالغ الأهمية. فالنساء حين يتولين زمام المبادرة في هذه المسارات، ينسجن شبكات تُرسّخ السلام المجتمعي وتُميز الأمة الديمقراطية. لكن العقلية الذكورية تحوّل ذلك إلى تضاد، لأن حرب الرجل بطبيعتها حرب قائمة على المواجهة".

ولفتت إلى أن "المشكلة الأساسية في تركيا هي الديمقراطية. وإذا كان من الممكن حلها عبر السياسة الديمقراطية، فإن الدولة وضعتها في إطار "الأمن القومي"، وأحالتها إلى الحرب، لتنتج بذلك طابعاً عسكرياً وذكورياً قائماً على التمييز الجندري. وعندما يُستبدل الحل الديمقراطي بالحرب والعسكرة والتمييز، فإن العلاج المضاد لذلك هو مشاركة المرأة في العملية. فوجودها بهويتها وتنظيمها، يشكّل تدخلاً مباشراً ضد ما تفرزه الحرب من عسكرة ومنظومة جندرية قائمة على الإقصاء"، وأضافت "الحرب لا تُخاض فقط في ساحات المعارك بالأسلحة، بل لها أشكال وأساليب متعددة، وأبرز مثال على ذلك هو مجازر النساء، وهي بحد ذاتها حرب معلنة".

وأكدت أن مشاركة النساء في التفاوض تمنح السلام بعداً جديداً، إذ يفتح حضورهن الطريق أمام بناء اجتماعي قائم على المساواة. وترى أن حركة المرأة الحرة وضعت أولوية لتأمين ضمانات قانونية لمشاركة النساء، لأن الدساتير الحالية تعكس عقلية ذكورية وسلطوية، بينما يعتبر القائد عبد الله أوجلان أن المرأة هي الإرادة الجوهرية للحل.

وشددت على أن نجاح التفاوض يتطلب تنظيم المجتمع على شكل كومونات، وتغيير الدستور العسكري القائم على التمييز الجندري، واستبداله بدستور يستند إلى المعايير الدولية وقرارات مجلس الأمن التي تضمن مشاركة النساء، إلى جانب تعديلات قانونية تراعي الواقع القائم. 

وأشارت إلى دعوة "السلام والمجتمع الديمقراطي" التي انطلقت لحل القضية الكردية بشكل ديمقراطي، مبيّنةً أن هذه المرحلة كانت تتطلب خطوات جادة من جانب الحكومة التركية. كما تناولت النقاشات حول "حق الأمل"، مؤكدة أن لهذا المفهوم خلفية اجتماعية وسياسية عميقة، وأن "حق الأمل" ليس مجرد مطلب لإنهاء العزلة في إمرالي أو تحسين ظروف اعتقال القائد عبد الله أوجلان، بل هو مبدأ يرتبط بحق المجتمعات والنساء في الحياة بعد الحرب، وبالحفاظ على أمل العيش وإبراز إمكانية الحل "هذا الحق في جوهره مبدأ وجودي، وقد حوّله السيد أوجلان إلى قاعدة أساسية، قائلاً (بعد الحرب يجب أن نمنح الأمل بتحقيق السلام والمجتمع الديمقراطي)".

وتابعت "السيد أوجلان يربط هذا المبدأ بالمرأة، مؤكداً أنه يطوّره من أجلها، باعتبار أن حق الأمل يعني ضمان حياة النساء واستمرارهن. فالعيش بكرامة وحرية وفق المبادئ الديمقراطية يتطلب مواجهة كل أشكال الحرب، وربط المرأة بالحياة الحرة، ومنحها الحق الذي حُرمت منه عبر التاريخ، والعمل على صونه وتفعيله".

 

نساء الشرق الأوسط وصناعة نموذج سلام عالمي جديد

وبيّنت نسرين آكجول أن عملية السلام والمجتمع الديمقراطي تقوم على مبدأ أساسي هو "العيش وإحياء الحياة"، وهو ما يجعلها في جوهرها أيضاً حركة نسائية. ففي مواجهة الحرب التي شهدتها جغرافيا كردستان، كان شعار النساء الأبرز "نحن هنا". وخلال أكثر من 50 عاماً من الصراع، استطاعت النساء صياغة وحدة مبدئية متكاملة، لتتحول حركة المرأة الكردية، وخاصة في إقليم شمال وشرق سوريا، إلى منظومة من المبادئ والقيم.

وأكدت نسرين آكجول أن مجرد طرح فكرة حرية المرأة يمثل بذاته مبدأً للأمل، إذ شاركت النساء في الحروب بروح نضالية وأصبحن قوة طليعية في مواجهة الأزمات، مما أسس لمفهوم "النسوية النضالية". وفي تقييمها لدعوة "السلام والمجتمع الديمقراطي"، أوضحت أن حركة الحرية بدأت خطواتها نحو المرحلة الثانية، التي يجب أن تقوم على "الاندماج"، لكنها أشارت إلى عراقيل أبرزها رفض حزب الشعب الجمهوري (CHP) إرسال وفد إلى إمرالي.

وأضافت "أظهرت حركة الحرية عزماً واضحاً من خلال كل الخطوات التي اتخذتها، ومن هذه اللحظة ينبغي الانتقال إلى المرحلة الثانية. لكننا نواجه أحياناً حالات انسداد، مثل قرار حزب الشعب الجمهوري بعدم إرسال أي وفد إلى إمرالي، وهو قرار سلبي يعيد العملية إلى الخلف. الأسوأ أن بين من اتخذوا هذا القرار نساء كرديات ينتمين إلى هذه الجغرافيا، ومع ذلك لا يمكن أن يُبنى مصير هذه المنطقة على مثل هذه التمثيلات".

وأوضحت نسرين آكجول أن غياب حزب الشعب الجمهوري عن الوفد يعني عملياً غياب الحل، إذ يضع نفسه خارج العملية ويتمسك بخط قومي متشدد ونهج الحرب، معلناً أنه لا يريد أن يكون قوة فاعلة فيها، مشددةً على أن أهمية المسار التفاوضي تتجاوز تركيا لتشمل مستقبل السلام في الشرق الأوسط، مؤكدة أن دمج مقاتلي ومقاتلات حركة الحرية، وإشراك النساء، وإجراء تعديلات تشريعية شاملة، خطوات أساسية لترسيخ الطابع الديمقراطي للعملية. مشيرةً إلى أن نجاحها يتوقف على تمسك القوى المشاركة بالمائدة وعدم الانسحاب منها، لأن غياب الإرادة سيقود إلى نتائج كارثية. 

وحول مناسبة اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة، أكدت نسرين آكجول أن خروج النساء إلى الساحات لا يقتصر على رفض العنف والمطالبة بالحرية، بل يحمل أيضاً إرادة إنتاج حلول حقيقية "رسالة 25 تشرين الثاني ليست مجرد قول "لا للعنف"، بل هي إظهار إرادة جماعية لإيجاد حلول. نحن في حركة المرأة الحرة أطلقنا ورشات عمل خلال هذه الفترة، وهذا بحد ذاته خطوة عملية نحو الحل. فإذا كان هناك عنف، فلا بد أن يكون هناك أيضاً حل. مشكلتنا الكبرى أننا نكتفي بالرفض من دون أن نبتكر بدائل".

وأضافت "25 تشرين الثاني يمثل رمزاً لمرحلة تقول فيها النساء معاً "لا للعنف". نحن اليوم في عملية السلام والمجتمع الديمقراطي. الشرق الأوسط يبحث عن سلامه الخاص، وسيصنع نموذجاً يحتذى به، سلاماً قادراً على إحداث تغيير عالمي وتأثير متسلسل، وهذا لن يتحقق إلا بمشاركة النساء".