"محاولتكم وصلت وإن لم تصل السفينة"... وقفة تضامنية في غزة

أشعلت سفينة "مادلين" التي أبحرت في مهمة إنسانية نحو غزة، موجة تضامن شعبي رغم اعتراضها، لتتحول إلى رمز للأمل والصمود في وجه الحصار.

نغم كراجة

غزة ـ "سفينة مادلين كانت أكبر من كل المؤتمرات والبيانات، لم تصلنا السفينة؟ لا بأس يكفينا أنهم شعروا بنا" بهذه الكلمات أكدت المشاركات في الوقفة التضامنية، أن أبحار هذه السفينة علمتهم أن الإنسانية لا تحتاج إذناً دولياً كي تتحرك بل تحتاج فقط إلى قلوب تؤمن أن الخبز حق وأن الجوع جريمة.

مساء أمس الاثنين التاسع من حزيران/يونيو، تحت ظلال الحصار، نظّم العشرات من الشباب والشابات الفلسطينيين وقفة تضامنية تقديراً لطاقم سفينة "مادلين" الدولية التي حاولت كسر الحصار البحري المفروض على قطاع غزة لكنها جوبهت من قبل القوات الإسرائيلية التي اعترضتها ومنعت وصولها إلى شواطئ القطاع.

هذه المبادرة التي جاءت بمجهود شبابي مستقل، جسّدت امتنان الفلسطينيين العميق للمتطوعين الدوليين الذين خاطروا بحياتهم من أجل إيصال شحنة رمزية من المواد الغذائية، في مقدمتها الطحين، إلى أكثر من 2.3 مليون إنسان يرزحون تحت وطأة مجاعة خانقة.

ووسط شعارات كتبها الأطفال بأقلام ملوّنة، ولوحات جسدت حلم البحر المفتوح، قالت مرام أبو عصر، إحدى منظمات الفعالية "إن مجرد تفكيرهم بإيصال طحين إلى غزة عبر البحر هو فعل من أفعال البطولة الأخلاقية في زمنٍ باتت فيه إنسانية العالم مفقودة، لم تصل السفينة إلينا نعم ولكن إنسانيتهم وإخلاصهم وتضامنهم وصلنا بكل ما تحمله هذه الكلمات من دفء، أن يقف أناس في أقصى العالم ويجازفوا بحريتهم وأحلامهم فقط لأن ثمة طفلاً في غزة يشتهي رغيف خبز، هذا وحده كفيل بأن يوقظ ضمير العالم إن وُجد ضمير".

وعن لحظة اعتراض السفينة من قِبل الزوارق الحربية الإسرائيلية، أوضحت أن القوات الإسرائيلية لا تخشى القذائف فقط بل تخشى حتى الطحين إذا جاء محمولاً على متن قارب إنساني "هؤلاء الناشطين والناشطات الذين كانوا على متن سفينة "مادلين" لم يحملوا سلاحاً بل حملوا خبزاً وكرامة، ما فعلوه أعاد لنا شيئاً من الإيمان بأن العالم ليس ميتاً بالكامل".

وأكدت أن سفينة "مادلين" كانت مجرد قارب صغير في عين البحر لكنها كانت أكبر من كل المؤتمرات والبيانات "لقد علمتنا أن الإنسانية لا تحتاج إذناً دولياً كي تتحرك بل تحتاج فقط إلى قلوب تؤمن أن الخبز حق، وأن الجوع جريمة".

أما الفنانة التشكيلية أسيل نسمان، التي كانت تقف إلى جانب الأطفال تحمل لوحة مرسومة بيدها تُظهر سفينة تُبحر في بحر محاصر بأسلاك شائكة، عبرت عن سعادتها بالمشاركة في هذه الوقفة، مؤكدة أن الفن في غزة لم يعد ترفاً بل تحول إلى وسيلة مقاومة توثق الجوع والخذلان "حين رسمتُ البحر والسفينة وعلم فلسطين، لم أرسم مجرد أمل كنت أقاوم وأُبلغ العالم بأن الفن أداة لمحاسبة الضمير، ورسالة نُحملها ألواناً بدلاً من الرصاص، إن كانت القوات الإسرائيلية قد اعترضت السفينة، فنحن سنُبحر بها مجدداً على جدران المخيم، في دفاتر الأطفال وعلى اللافتات، لن يمنعونا من أن نحملها وأن نُعيد إطلاقها بكل الوسائل الممكنة".

وتوقّفت أسيل نسمان عند كلمات عضوة الفريق الدولي السويدية "غريتا" التي كانت ضمن فريق السفينة، وقالت إنها شعرت باهتزاز داخلي حين قرأت تصريحها بأنّها مستعدة لتقديم حياتها مقابل 100 كيلو من الدقيق لغزة، "غريتا قالتها بجسارة لم نعتد سماعها حتى من بعض العرب، هذه الشابة التي تركت بلاد الرفاهية لتقف على متن قارب مهدد بالقصف، جعلتنا نشعر أننا لسنا وحدنا، وأن القضية ما زالت تجد لها مكاناً في الضمائر الحرة".

ووصفت غريتا قائلة "أن تقف امرأة مثل ياسمين عكار متحديةً تهديدات القتل والاعتقال، رافضةً العودة رغم إنذارات القوات الإسرائيلية لهم، فهذا درس في الشرف والعزيمة للعالم العربي، نساء هذه السفينة لم تكنّ مساندات فقط بل كنّ قائدات وتفتحن لنا نافذة في جدار الخنق الكبير".

من جانبها أوضحت انتصار العطوط النازحة مؤخراً من مخيم جباليا إلى خيمة قرب شاطئ البحر "لو تعلموا ما يعني أن يحاول أحد إيصال طحين إلينا بعدما أن خذلنا الجميع هؤلاء الشباب والفتيات فعلوا ما عجز عنه ملوك العرب، لم تصلنا السفينة؟ لا بأس يكفينا أنهم شعروا بنا وأن أحداً في هذا العالم لم يعد أصماً تماماً".

وأكدت أنه "نحن لا نأكل الآن نحن نحاول البقاء على قيد الحياة بأقل مما يتخيله العقل البشري، لقد باتت عظامنا تبرز تحت الجلود، والأطفال ينامون على ألم المعدة الفارغة، استخدمنا مواداً أخرى بدل الطحين لصناعة ما يُشبه الخبز، صحتي لم تعد تسمح لي بالوقوف طويلاً لكني جئت إلى هنا لأقول لهم، شكراً لأنكم حاولتم، فقط حاولتم".

وتشير التقارير الصحية التي صدرت مؤخراً عن مؤسسات محلية، إلى تصاعدٍ كبير في حالات سوء التغذية بين النساء والأطفال، وسط أزمة الطحين الخانقة وارتفاع جنوني في أسعار المواد الأساسية، ويقدّر بعض الأطباء أن المجاعة الحالية أشد قسوة من فترات الحصار السابقة.

وقد سُميت السفينة "مادلين" تيمناً بامرأة فلسطينية من غزة تُدعى مادلين كلّاب، اشتهرت بكونها أول وأصغر صيّادة محترفة في القطاع، بدأت بصيد الأسماك منذ طفولتها لإعالة أسرتها بعد مرض والدها، متحدية الحصار البحري والتقاليد الاجتماعية الصارمة، صمدت في وجه الاعتداءات الإسرائيلية التي صادرت قاربها، وأسّست لاحقاً نادياً نسائياً لتعليم الصيد ودعم زوجات الصيادين، كما أنها أصبحت رمزاً للكفاح المدني في غزة، ونموذجاً للإرادة النسوية تحت الحصار.

اختيار اسمها على متن السفينة كان بمثابة رسالة تكريم وتجسيد لصمود المرأة الفلسطينية، لقد أبحر اسمها ليحمل الأمل على الرغم من أن أشرعتها عجزت عن الوصول.