فرمان شنكال جرح لم يندمل وذاكرة لا تُنسى
أكدت ليلى شرف، إحدى الناجيات من مجزرة شنكال، بأنها لن تتخلى عن أرضها مهما كانت الظروف، وتمسكها بجذورها ووطنها، وقالت بكلمات مؤثرة "أن نُستشهد في سبيل وطننا خيرٌ لنا من أن نحيا غرباء في أرضٍ أخرى".

روناهي زردشت
شنكال ـ قبل أحد عشر عاماً، دفع المجتمع الإيزيدي ثمناً كبيراً نتيجة غياب التنظيم والثقة العمياء بالقوات التي ادّعت حمايته، فتعرض لأبشع فرمان في القرن الحادي والعشرين شمل القتل والنهب والاغتصاب والاتجار بالبشر، وكانت المرأة الإيزيدية، بصفتها حامية الأرض والثقافة، الضحية الأبرز، ولا يزال مصير أكثر من 3000 منهن مجهولاً حتى اليوم.
بعد خيانة تاريخية تركت الإيزيديين في يأسٍ عميق، ظنوا أن لا أحد سيأتي لإنقاذهم، حتى انطلق اثنا عشر فارساً من قلب التاريخ نحو نداء الاستغاثة، غرس فرسان الشمس بذور الأمل في قلوب آلاف الإيزيديين، لتنمو عاماً بعد عام بقيادة النساء اللواتي واجهن أبشع صور الوحشية، واليوم، تمتد خيوط الشمس في كل زاوية من شنكال، تبث الحياة من جديد في أرضٍ أنهكها الألم.
"تنبأوا بوصول داعش قبل حدوث الفرمان بثلاثة أشهر"
روت ليلى شرف، إحدى شهود الفرمان، تفاصيل تلك الأيام المروعة التي سبقت الكارثة، حيث لم يكن أحد من الإيزيديين يتوقع أن داعش ستهاجمهم أو أن القوات المتمركزة في شنكال ستتخلى عنهم وتفر "قبل الفرمان بثلاثة أشهر، قيل إن داعش قادم، لكننا لم نصدق، لم نكن نؤمن أن هناك من يسعى لإبادتنا".
وأضافت أنه "في فجر الثالث من آب 2014، سُمع إطلاق نار من قرية كرزرك، فهرع الجيران لتحذيرنا، انهضوا، لقد وصل داعش، حاولنا المقاومة، لكن البيشمركة كانوا قد صادروا أسلحتنا قبل الفرمان، فبقينا بلا دفاع، قاتل أهالي كرزرك حتى آخر رصاصة، ثم اجتاحهم داعش، وضعت أطفالي الثمانية في صندوق السيارة وهربنا، لكن زوجة عمي وأطفالها الثمانية، واثنين من أعمامي وجدتي، وقعوا في قبضة داعش".
تطرقت ليلى شرف إلى كيف لجأت مع أطفالها إلى قرية قنديل في جبال شنكال ليلة الفرمان، لكن سرعان ما وصلهم خبر اجتياح داعش للمنطقة "تسلقنا الوديان في ظلام الليل، وأطفالنا خلفنا، والجميع فرّ نحو الجبال، سرنا حتى وصلنا إلى كولكا في سردشت، وبقينا هناك ليلة واحدة، ثم انتقلنا في الخامسة صباحاً إلى مكان آخر حيث مكثنا أحد عشر يوماً".
وتتابع "عندما وصلت سيارات كبيرة، قفزت أمام إحداها وصرخت إما أن تأخذونا أو تقتلونا، فلم نعد نحتمل السير أكثر"، وهكذا، انتقلت مع أطفالها إلى روج آفا.
ذاكرة العظام وصوت العدالة في شنكال
بعد خمس سنوات من الفرمان، عادت ليلى شرف إلى قريتها تل عزير في شنكال، مثقلةً بالحزن بعد استشهاد ابنها، أحد مقاتلي وحدات مقاومة شنكال في الحرب ضد داعش، عند عودتها، أخبرها أهالي القرية عن سجن النساء الذي استخدمه داعش لتعذيب الأسيرات.
وقالت "ذهبتُ إلى ذلك المكان لأراه بنفسي، فوجدت رفات النساء اللواتي عُذّبن وقُتلن هناك لا تزال في البئر، لم تُنتشل عظامهن حتى الآن"، مضيفةً "رأيت ست جثث تحولت إلى عظام، إحداهن كانت يداها مقيدتين خلف ظهرها، وماتت على تلك الحال".
وأفادت ليلى شرف أنها وضعت لوحاً حديدياً على باب البئر الذي احتوى رفات النساء "قررت تغطيته حتى يأتي من ينتشلهم ويمنحهم دفناً يليق بكرامتهم"، وبعد مغادرتها ذلك السجن، اكتشفت بئراً آخر يحتوي على ثلاث جثث مشابهة "هذه العظام هنا منذ سبع سنوات، ولم يطالب بها أحد، كان الفرمان قاسياً بكل معنى الكلمة، ومهما تحدثنا عنه فلن نوفيه حقه، يجب أن يُحاسب من تسبب في هذه المأساة، في يوم الفرمان، القوة الوحيدة التي جاءت لإنقاذنا كانت حزب العمال الكردستاني، لم نرَ أحداً غيرهم".
من رماد الفرمان إلى شمس المقاومة في شنكال
قدّم مئات الشباب والشابات أرواحهم فداءً لتطهير أرض شنكال المقدسة من داعش، وانضموا إلى قافلة الشهداء الذين سطروا ملاحم البطولة، وكان من بينهم ابن ليلى شرف، الذي استُشهد في المعارك ضد داعش، قالت بكل فخر "أردد دائماً فليحيا مجتمعنا، استشهاد ابني شرف كبير لنا، وأتمنى أن يضحي الجميع من أجل أرضهم كما فعل أولئك الأبطال، وأن ينالوا شرف الشهادة في سبيل أرضهم المقدسة".
أشادت ليلى شرف بتضحيات مقاتلي الكريلا، مؤكدةً أنهم كانوا الدرع الحقيقي للإيزيديين في وجه الفرمان "لولاهم، لكان الفرمان طي النسيان، هم وحدهم من دافع عنا واعتنى بنا، واستُشهدوا ليحمونا، فبدمائهم أنقذونا ومنحونا طريقاً نحو الحرية".
وأضافت "لا يزال آلاف الإيزيديين يعيشون في المخيمات، وكان يجب أن يعودوا إلى أرضهم منذ زمن، الفرمان لم ينتهِ بالنسبة لهم، فهم عالقون في قبضته، وإن لم يعودوا، فلن يتحرروا منه فعلياً، أتمنى ألا يُرسل شبابنا إلى الخارج، بل أن يبقوا ويقاتلوا على أرضهم، فإن نُستشهد في وطننا خيرٌ من أن نعيش غرباء في بلاد أخرى، إن لم نجد السعادة هنا، فلن نجدها في أي مكان، بقوتنا سنهزم الفرمانات، وبثباتنا في شنكال سنرد على الفرمانات الـ 74 التي حاولت كسرنا".
وفي ختام حديثها، أكدت ليلى شرف أن شنكال اليوم لم تعد كما كانت قبل أحد عشر عاماً "مع تعرّف المجتمع على أفكار وفلسفة القائد أوجلان، بدأ بتنظيم نفسه من جديد، النساء بشكل خاص لعبن دوراً محورياً، فقد نظّمن أنفسهن وكرّسن وجودهن في كل زاوية من شنكال التي إذا اتحدت وأصبحت يداً واحدة، فستغدو نموذجاً يُحتذى به لكل المجتمعات".