أزمة كبار السن انعكاس لأزمة بنيوية في سياسات الرفاهية
في البُنى الاجتماعية غير المتكافئة، تتحول الشيخوخة من كونها مرحلة نضج للمكانة الاجتماعية إلى هامش مظلم يُستبعد فيه الإنسان تدريجياً من دور الحياة النشطة، ولا يواجه كبار السن لا سيما في المناطق الريفية والهامشية، الفقر المادي فحسب، بل يعانون من فقر بنيوي.

شيلان سقزي
نظرية "العجز الهيكلي" والفقر المتعدد الأبعاد لدى كبار السن
استناداً إلى نظرية "العجز الهيكلي" لبيتر تاونسند، يمكننا أن نرى كيف أن كبار السن، بسبب غياب الدعم الاجتماعي، وضعف نظام التأمين، والإقصاء الثقافي، والتهميش الإعلامي، قد وصلوا إلى نقطة انعدام الأمان؛ أولئك الذين لا يرى المجتمع حتى موتهم التدريجي.
بيتر تاونسند، عالم الاجتماع البريطاني وأحد مؤسسي الدراسات الحديثة حول الفقر وعدم المساواة والرفاه الاجتماعي في أوروبا، عمل لسنوات على مفهوم الفقر النسبي، وقد جادل بأن الفقر لا يعني فقط نقص الدخل والموارد المالية، بل هو الحرمان من أنماط الحياة والأنشطة والفرص التي تُعتبر معيارية في المجتمع، وأوضح أن كبار السن في المجتمعات الرأسمالية لا يُهمشون مالياً فقط، بل يُقصون أيضاً من حيث السلطة الاجتماعية، والتمثيل الثقافي، والمشاركة في اتخاذ القرار، والظاهرة التي تحدث في إيران هي حرمان متعدد الأبعاد، وهي جزء من نظرية علم اجتماع الشيخوخة التي طرحها بيتر تاونسند.
الأزمة الإعلامية وغياب تمثيل كبار السن
في مثل هذا الوضع، لا ترتبط الشيخوخة بالاحترام ونقل الخبرة، بل بالعزلة، والقلق، والصمت الإعلامي، والإقصاء أو التهميش من الحياة العامة، هذه المقدمة دعوة لإعادة قراءة دور ومكانة كبار السن، ليس من منظور الشفقة، بل من زاوية بنيوية، نقدية، ومحورها العدالة.
نادراً ما يتم تسليط الضوء إعلامياً على الأزمة في إيران؛ فلا تُنشر إحصاءات عن انتحار كبار السن، ولا تقارير عن الوفيات الصامتة في القرى النائية، وإن غياب هذا التمثيل هو أيضاً مؤشر على انعدام السلطة الرمزية لكبار السن في البنية الثقافية.
في النظام السائد الذي يُعرّف قيمة الأفراد بناءً على الإنتاج أو الاستهلاك، يُعتبر كبير السن الفقير الوحيد "فائضاً"، هذا المنظور يبرر التهميش المنهجي لهم في السياسات الرفاهية والإعلامية، وفي السياسات النيوليبرالية السائدة، لا يُعد كبار السن المجموعة الوحيدة التي يتم تجاهلها في السياسات الاجتماعية، بل إن دائرة التهميش تضيق يوماً بعد يوم.
الفقر والحرمان البنيوي والموت الصامت لكبار السن
بعبارة أخرى، فإن فقر كبار السن الوحيدين ليس مجرد واقع إحصائي، بل أزمة اجتماعية خفية تحولت إلى موت صامت بسبب غياب السرد الإعلامي وغياب السياسات الهادفة، فوفقاً لنظرية بيتر تاونسند، فإن هؤلاء لا يُحرمون فقط من الموارد المالية، بل أيضاً من حق الظهور، وحق المشاركة، والعيش بكرامة إنسانية، وهذا شكل من أشكال التمييز البنيوي الذي يتطلب سياسات اجتماعية عادلة ترفع الصوت الخفي إلى سطح المجتمع.
يرى بيتر تاونسند أن الفقر يتشكل عندما يُحرم الفرد من الوصول إلى أنماط الحياة المعتادة في مجتمعه؛ وهو تماماً الوضع الذي يعيشه العديد من كبار السن الوحيدين في إيران.
العزلة الاجتماعية وغياب مشاركة كبار السن
في المجتمعات الصغيرة، يُستبعد كبار السن الذين لا يملكون أبناء أو دعم من المحافل الاجتماعية، فهم لا يشاركون في صنع القرار المحلي، ولا يُدمجون في الأنشطة الثقافية أو الدينية، هذا الإقصاء، وفقاً لنظرية بيتر تاونسند، لا يُعد فقراً مالياً فقط، بل هو أيضاً شكل من الفقر في التواصل والهوية.
كبار السن الذين لا يملكون معاشاً تقاعدياً أو تأميناً صحياً، لا يستطيعون دفع تكاليف الأدوية، أو الخدمات الصحية، أو حتى الحصول على تغذية مناسبة، إنهم محرومون من الحد الأدنى للمعايير المقبولة للعيش الكريم التي أشار إليها بيتر تاونسند، هذا الفقر الاقتصادي يؤدي عملياً إلى موت تدريجي وصامت.
من جهة أخرى، لا تقدم وسائل الإعلام صورة نشطة لكبار السن، فنادراً ما يُنظر إليهم كفاعلين اجتماعيين، ويرى بيتر تاونسند أن هذا جزء من "العجز الهيكلي"، أي أن الأفراد يُحرمون ليس فقط من الموارد، بل أيضاً من قوة التمثيل الإعلامي.
في كثير من الحالات، تؤدي هجرة الأبناء أو انهيار البُنى التقليدية للدعم إلى عزلة كبار السن، فهم يبقون وحيدين، بلا أحد للحوار أو الرعاية أو المؤانسة، هنا، يتجلى الفقر في صورة غياب العلاقات الإنسانية ذات المعنى؛ وهو ما تؤكد عليه النظرية بشكل خاص.
لذلك، فإن العزلة الاجتماعية لكبار السن الوحيدين ليست حدثاً فردياً، بل نتيجة لبنية اجتماعية غير عادلة، إنهم ضحايا "الفقر الخفي"؛ ذلك الفقر الذي يتسلل بصمت في غياب المشاركة، ويدفعهم إلى هامش المجتمع، هذه الظاهرة تمثل ناقوس خطر حقيقي للعدالة الاجتماعية في مرحلة الشيخوخة، ما لم يُعاد بناء الهياكل من جديد، فالعزلة الاجتماعية لكبار السن هي في الواقع انعكاس للعجز الهيكلي في تهميش مرحلة الشيخوخة.
الشيخوخة والصورة الإعلامية السلبية
في البُنى الاجتماعية التي تهيمن عليها النزعة الشبابية والكفاءة الإنتاجية في اتخاذ القرارات، لا يمتلك كبار السن أي صوت في السياسات المحلية، الاجتماعية أو الثقافية، فهم لا يملكون تمثيلاً، ولا تنظيمات فعالة، ولا مساحة للتعبير عن خبراتهم ومعارفهم، وإن إقصاء كبار السن من المجال العام هو تجلٍ ملموس لانعدام السلطة البنيوية.
من جهة أخرى، تربط الثقافة الإعلامية المعاصرة الشيخوخة بالضعف، والمرض، والعجز، وكونهم عبئاً، فالمسلسلات والإعلانات تُظهر كبار السن بمظهر يستحق الاحترام، لكنهم في الواقع يُعرضون كضحايا بحاجة إلى الشفقة، هذا التصوير يُحوّل العلاقة بين كبار السن والمجتمع من الاحترام المتبادل إلى تحمّل غير مرغوب فيه.
الفقر الاقتصادي والعاطفي والمكانة تجعل كبير السن كعبء زائد
في ظل غياب نظام دعم اجتماعي شامل، لا يتمتع كبار السن، خصوصاً في المناطق الريفية، بمعاشات كافية، ولا بتأمين صحي مستقر، ولا بخدمات إعادة تأهيل مناسبة. في مثل هذا الوضع، لا يختبر كبير السن الفقر الاقتصادي فقط، بل يعاني أيضاً من فقر في المكانة، وفقر عاطفي، وفقر في التواصل.
لذلك، في البُنى غير المتكافئة للسلطة، لا يُنظر إلى كبير السن كمصدر للحكمة والخبرة، بل كمستهلك عديم القيمة وعبء إضافي على نظام رفاهية عاجز. تُعلّمنا نظرية "العجز الهيكلي" أن فقدان كبار السن للقدرة على تعريف أنفسهم، وتحديد دورهم، والمشاركة الفعالة في المجتمع، هو الفقر الحقيقي؛ فقر لا يبدأ من الجوع، بل من التهميش والنسيان. ولإعادة الكرامة لكبار السن، يجب إعادة تعريف البُنى الثقافية، الإعلامية والسياسية؛ بحيث يُنظر إلى كبير السن ليس كعبء، بل كجزء حي من ذاكرة المجتمع واستمراريته.
في المجتمعات التي تقترن فيها الشيخوخة بالفقر، وانعدام الحماية، والتجاهل، والإهمال البنيوي، لا تكون المشكلة مجرد أزمة اجتماعية، بل دليلاً على فشل حضاري في احترام الذاكرة الجمعية والإنسانية، وتجاهل كبار السن هو تجاهل للمستقبل؛ لأن كل بنية غير عادلة تطردهم اليوم، ستطال الأجيال الحالية غداً.
وللخروج من هذه الأزمة، يجب إجراء مراجعة جذرية للسياسات الداعمة، ونظام الرفاهية، والنماذج الثقافية والإعلامية، إعادة كبار السن إلى دائرة النشاط المجتمعي تتطلب تغييراً أساسياً في النظرة إلى "قيمة الإنسان"، بغض النظر عن قدرته الاقتصادية، أو عمره، أو دوره الإنتاجي، فالمجتمع الذي لا يحترم كبار السنّ، محكوم عليه بنسيان ذاته.
أزمة الشيخوخة في إيران والعالم
في العديد من الدول الأوروبية، لا يُعتبر كبار السن جزءاً طبيعياً من دورة الحياة فحسب، بل أيضاً ثروة اجتماعية وثقافية، بل وحتى اقتصادية، ويرتكز نظام الرعاية الاجتماعية في هذه الدول على احترام كرامة الإنسان، ولذلك، لا تُعتبر رعاية كبار السن واجباً عائلياً فحسب، بل مسؤولية اجتماعية ومنظمة أيضاً، وفي بعض الجامعات الأوروبية، يوجد تخصص يُسمى علم الشيخوخة أو رعاية كبار السن، يُدرّس، علمياً ومهنياً، المهارات النفسية والطبية والاجتماعية والقانونية لرعاية كبار السن، وتشير هذه التخصصات إلى أن التعامل مع كبار السن يتطلب معرفة علمية، ودقة إنسانية، وإعداداً مؤسسياً.
وبالطبع، تُعدّ أزمة الشيخوخة أزمة عالمية، وتواجه أوروبا أيضاً مشاكل خطيرة في مجال الشيخوخة، فعلى سبيل المثال، يُعدّ انتشار الشعور بالوحدة في الدول الاسكندنافية، وأزمة الرعاية في ألمانيا، أو مشاكل نظام التقاعد في فرنسا وإيطاليا، من مظاهر هذه الأزمة، إلا أن طبيعة هذه المشاكل تختلف اختلافاً جوهرياً عن النقص الاجتماعي والهيكلي في مشاكل الشيخوخة في إيران، في المقابل، في إيران، خاصةً في المناطق النائية، غالباً ما يُهمّش كبار السن في صمتٍ ونسيان.
وإن غياب سياسات رعاية متماسكة، وغياب تأمين دعم كافٍ، وضعف البنية التحتية الطبية، ونقص المؤسسات المتخصصة لكبار السن الذين ليس لديهم عائلة أو دعم، تُشكّل واقعاً مريراً نادراً ما يُرى في وسائل الإعلام أو في مواقع صنع السياسات، وفي إيران، باستثناء حالة واحدة في جامعة طهران للعلوم الطبية، لا يوجد مجال متخصص فعال لرعاية كبار السن فحسب، بل إن حتى الممرضات المدربات في هذا المجال نادرات، وغالباً ما تواجه دور رعاية المسنين نقصاً حاداً في الموارد البشرية والمرافق الصحية ومراقبة الجودة.
الحاجة إلى إعادة تعريف الهياكل واحترام كبار السن
يُظهر هذا الاختلاف الجوهري أنه في النظام الاجتماعي والثقافي الإيراني، لا يُنظر إلى كبار السن على أنهم أصحاب حقوق؛ وهو تعريف مجحف متجذر في غياب نظرة إنسانية للشيخوخة، في مثل هذه الظروف، لا تُداس كرامة كبار السن فحسب، بل يُغمر مستقبلنا جميعاً، نحن الذين سنصبح كباراً في السن يوماً ما، بهالة من الخوف والعجز، وإن احترام كبار السن لا يتحقق بالشعارات أو احترام الأسرة فقط، بل يتطلب أيضاً هياكل داعمة وعلمية وقانونية لا تزال في مرحلة الغياب التام أو الحضور المسرحي في إيران.