إيلاتشا بين الذاكرة الشعبية والإهمال
في قلب جبل كزوان بإقليم شمال وشرق سوريا، يتوارى موقع إيلاتشا الأثري ككنز دفين يجمع بين وفرة المياه وعبق التاريخ، ويضم نبعاً ومقبرة غامضة لم تُكتشف بالكامل بعد، ورغم استمرار التنقيب غير القانوني، يطالب السكان ببعثات رسمية لكشف أسرار المنطقة وحمايتها.

سوركل شيخو
تل تمر ـ ظلّ جبل كزوان مقصداً للناس حتى القرن الحادي والعشرين، ومع ذلك لم تُستكشف كهوفه ومناطقه التاريخية بعد، ولم تُجرَ فيها أي دراسات أثرية، والإهمال، أدى إلى انقطاع سكان المنطقة عن إرثهم الثقافي العريق.
إيلاتشا موقع أثري بارز يقع في جبل كزوان، بين قريتي خَزنة والغرة، ويُعرف باسمه وصيته الذي لا يقل أهمية عن قلعة سُكرة ومَغلوجة، ففي الماضي، كانت إيلاتشا نبعاً واسعاً تتدفق مياهه لمسافات طويلة تصل إلى كيلومترات، أرضه صخرية وعند حفر التربة يدوياً تنبع المياه بعد بضعة سنتيمترات فقط، مما يدل على غناها الطبيعي وعمق ارتباطها بجغرافيا المنطقة.
يمكن للرعاة والمارة في تلك المنطقة أن يرووا عطشهم من ماء النبع المتدفق، ورغم التغيرات المناخية، والحروب التي اندلعت، والانهيارات الأرضية التي غطّت النبع، لا تزال آثاره مرئية، ما يدل على أنه ما زال ينبض بالحياة.
ذلك النبع الذي كان يجري بلا انقطاع، والمناسبات والزيارات التي كانت تُقام حوله، تحت ظلال أشجار الصفصاف، لا تزال حاضرة في ذاكرة من عاشوا تلك الأيام، شاهدة على زمنٍ مضى لكنه لم يُمحَ من الوجدان.
رغم قيمة إيلاتشا التاريخية، لم يحظَ حتى الآن بأي اهتمام من الباحثين أو المؤسسات الأثرية، وذلك بسبب غياب أعمال التنقيب الرسمية وحتى في عهد النظام السوري السابق، لم تُرسل أي بعثات استكشافية إلى هذه المنطقة، ما أدى إلى استمرار إهمالها وغياب التوثيق العلمي لتاريخها.
إلى جانب النبع، تقع مقبرة على تلٍّ تُعرف باسم "مقبرة إيلاتشا"، وتضم عدداً من القبور التي لا تزال هويات أصحابها مجهولة، إذ لم يُعرف دينهم أو مذهبهم أو نسبهم، ومع ذلك يُعتقد أن اثنين من المدفونين فيها كانا من الشيوخ أو الشخصيات الدينية البارزة.
ويُطلق على هذه المقبرة اسم "أصحاب إيلاتشا"، في إشارة إلى أن من وُوروا الثرى هناك يُعدّون من أهل المكان، وكأنهم حُماته أو رموزه الروحية عبر الزمن.
الذاكرة تحيي الآثار
تحدّثت عليا العيسى عن تفاصيل دقيقة تتعلق بهذه المنطقة التي لا تزال حتى اليوم مجهولة ولم تُكتشف بالكامل، مسلطةً الضوء على جوانبها التاريخية التي لم تحظَ بأي دراسة أو توثيق رسمي حتى الآن، مؤكدةً أن نبع إيلاتشا كان في السابق مصدراً مائياً ضخماً كأنه نهر صغير، أما اليوم فقد انخفض منسوبه بشكل ملحوظ، رغم ذلك، لا تزال هذه الينابيع قادرة على إرواء عطش المارة.
وأوضح أن المياه التي تتسرب من بين الصخور تتحول إلى ينابيع صغيرة، تُسهم في نمو أشجار الصفصاف الصحراوية الخضراء "لكن بسبب شح المياه، جفّت آلاف الأشجار التي كانت تملأ المكان، ولم يتبقَ سوى شجرتين أو ثلاث تؤكد هذه الحقيقة".
وقالت إن أجدادهم وجداتهم دُفنوا على تلّ إيلاتشا، حيث كانت القبور ظاهرة للعيان في زمنهم، ومع ذلك لا أحد يعرف على وجه التحديد من هم الأشخاص المدفونون هناك، ولا إلى أي حقبة تاريخية تعود تلك القبور، ما يجعلها لغزاً تاريخياً لم يُحل بعد.
وأشارت عليا العيسى إلى وجود آلة لعصر الزيتون بالقرب من القبور، وقد صُنعت بطريقة بدائية لافتة "هذه الصخرة تعود إلى زمن أجدادنا وجداتنا، لكن لا أحد يعرف على وجه التحديد كم عمرها أو متى وُضعت هنا".
في تلك المنطقة، توجد بنية مدفونة تحت الأرض، لا يظهر منها سوى جدران تشبه بابين متقابلين، وعن ذلك قالت "هنا يمكن رؤية بابين متقابلين بوضوح، وقد صُمّما على هيئة أقواس، ما يدل بوضوح على وجود حصن مخفي تحت الأرض، إذا أُجريت أعمال تنقيب في هذا الموقع، فمن المرجح اكتشاف معلم أثري مهم".
وأضافت "قبل نحو عشرين عاماً، قام بعض تجار الآثار والمهربين بالحفر في هذه المنطقة، مما أدى إلى الكشف عن هذين البابين، ومن أجل فهم التاريخ الحقيقي لهذا المكان، لا بد من إجراء تنقيبات أثرية علمية دقيقة".
ضرورة دراسة المعالم الأثرية
وأشارت إلى أن جبل كزوان شهد العديد من عمليات التنقيب غير القانونية التي نفذها مهربو الآثار "تم العثور على كميات كبيرة من الذهب والفضة، لكنها سُرقت، كما اكتُشف صندوق مصنوع من الرخام وتمت سرقته أيضاً، لا أحد يعرف على وجه الدقة ما الذي تحتويه هذه القبور اليوم، سوى أنها تضم رفات الموتى، ففي العصور القديمة، كان يُدفن الإنسان مع مقتنياته من الذهب والمال، وإذا لم تُجرَ تنقيبات أثرية علمية في هذا الموقع، فسيبقى تاريخه مجهولاً وصعب الكشف عنه".
وقالت عليا العيسى إن أجدادهم وأبناءهم ما زالوا يعيشون على هذا الجبل، لكن لم يتمكن أحد منهم حتى الآن من الوصول إلى تاريخه الحقيقي، معبرةً بحماسة عن رغبتها في كشف أسرار هذا الجبل "لا يزال الجبل بالنسبة لنا غامضاً، من الضروري أن يأتي العلماء والبعثات الأثرية لاستكشافه، والبحث في مكنوناته، وتعريفنا بتاريخه".
وأكدت أنه "حتى اليوم، تستمر أعمال التنقيب غير القانونية التي ينفذها التجار والمهربون في كهوف جبل كزوان، وسط غياب الحماية اللازمة لهذه المواقع التاريخية، مما يزيد من خطر نهبها. سكان المنطقة ما زالوا ينتظرون بفارغ الصبر وصول بعثات التنقيب الرسمية".